جورج برنانوس
ترجمة بهاء إيعالي
(عبور للنشر، المملكة العربية السعودية، ٢٠٢٢)
[بهاء إيعالي شاعر ومترجم من لبنان، يحمل إجازة في التاريخ من الجامعة اللبنانية، كلية الآداب. صدر له: «الضوء آخر عصفور في السماء» و«كونشيرتو لشفاهٍ ترفعها الريح». كما ترجم عدداً من الأعمال الأدبية الروائية عن اللغة الفرنسية].
جدلية (ج): ما الذي دفعك إلى ترجمة هذه الرواية؟
بهاء إيعالي (ب. إ.): لو أردتُ الحديث عن الدوافع التي دفعتني إلى ترجمة هذه الرواية، فربّما عليّ الحديث عن الدوافع التي تدفعني إلى الترجمة بشكلٍ عام، فما جعلني أعمل على ترجمة هذه الرواية لا يختلف عمّا جعلني أترجم أيّ كتابٍ آخر قمت بترجمته، اللهم إلّا بعض التفاصيل التي تخصّ هذه الرواية تحديداً.
عموماً ما يغريني بترجمة أيّ كتابٍ هو محبتي وتحمّسي له، إذ لا يمكنني أن أتخيّل نفسي مترجماً لكتابٍ لم أقرأه ولم أحبّه أثناء قراءته، ولطالما رفضتُ العديد من عروض العمل لهذا السبب. أمّا بخصوص ما دفعني إلى ترجمة "الاحتيال" بدايةً هي الثيمة التي تتناولها الرواية والأسلوب الذي كُتِبت به، ناهيك عن أنّ جورج برنانوس واحدٌ من أهمّ الروائيين الفرنسيين خلال فترة ما بين الحربين ومع ذلك لم تحضر له ترجمة واحدة إلى اللغة العربيّة. من هنا كان أمامي تحدّ هو تقديم هذا الكاتب للمكتبة العربيّة، وهو تحدّ أتمنّى لو باستطاعتي النجاح فيه.
(ج): ما هي الثيمة/ات الرئيسة؟ ما هو العالم الذي يأخذنا إليه نص الرواية؟
(ب. إ.): من الممكن أن نجد شيئاً من التقاطع في الموضوع بين هذه الرواية وفيلم إنغمار برغمان الشهير The Winter Light، فثّمة تشابهٌ كبيرٌ بين الأب سينابر، الشخصيّة الرئيسة في الرواية، والكاهن توماس إريكسون بطل فيلم برغمان، أي شخصيّة رجلِ الدين الذي يعيش في شكّ بإيمانه ويحتاج لأيّ شيءٍ يفعله كي يتأكّد منه. بيد أن الرواية تسلّط الضوء على الحياة الكهنوتيّة في فرنسا خلال تلك الفترة وتشير بشكلٍ أو بآخر إلى نهاية دورها في الحياة المجتمعيّة الفرنسيّة، وهو الأمر الذي بدأت إرهاصاته مع اندلاع الثورة الفرنسيّة قبل قرابة القرن ونصف القرن على كتابة برنانوس لها.
(ج): ما هي أهمية المؤلف كروائي في سياق اللغة التي كتب بها؟
(ب. إ.): إضافةً إلى كونه روائيّاً بارزاً في بدايات القرن العشرين، يعدّ جورج برنانوس (1888 – 1948) كاتباً مثيراً للجدل في زمنه، فكروائيّ نجده يتعمّق في سيكولوجيّة شخصيّاته ويبرز أرواحهم كمسرحٍ للصراع بين الخير والشر، ولا يتردّد أحياناً في مناجاة الإلهي والخارق للطبيعة. لا شيطنة حقيقيّة معه بل، على العكس كما هو الحال مع مورياك، اهتمامٌ بفهم ما يحدث في النفس البشرية وراء المظاهر.
وغالباً ما يخاطبُ برنانوس بشكلٍ مباشر، بكتابةٍ عصبيّةٍ وحادّة في بعض الأحيان، القرّاء المستقبليين ("الحمقى" اللطيفين الذي يسعى لإيقاظهم من سباتهم من خلال هذه الإهانة الأخويّة) الذين يتم تحديهم أحيانًا كمعارضين مثل رجال الدين المتواطئين مع فرانكو في كتابه "المدافن العظيمة تحت ضوء القمر". وبما أنّه غالبًا ما يكون عاطفيًا أو مفرطًا أو حتى ظالمًا في بعض الأحيان، فإن أسلوبه ملتزمٌ وحادّ وصادم وغالبًا ما يمليه التمرد والسخط.
(ج): ما هي التحديات والصعوبات التي جابهتك أثناء الترجمة؟
(ب. إ.): أوّل التحدّيات التي واجهتها أثناء العمل هو حجم الرواية الكبير نسبيّاً (حوالي 320 صفحة)، إذ لم يسبق لي أن ترجمتُ كتاباً بهذا الحجم، ناهيك عن أنّ الوقت قد ضاق بي حين وجدتُ نفسي مضطّراً للسفر مرّتين خلال عملي عليها. ومن ثمّ فإنّ الأسلوب الذي يكتبُ به برنانوس هو أسلوبٌ حادٌ وصارمٌ لغويّاً، كما ذكرتُ سابقاً، إذ يعتمد على تكثيف المعنى في العبارة والصرامة اللغويّة المطلقة، وهذا ما أوجدني أمام نصّ يكاد قريباً من النصوص الدينيّة المختلفة، وهو أسلوبٌ يتطلّب بذل مجهودٍ كبيرٍ لقراءته، فكيف لترجمته؟
(ج): ما مقياس نجاح ترجمة رواية إلى اللغة العربية برأيك؟
(ب. إ.): يقال إنّه لا توجدُ هناك مدارس في الترجمة، فلكلّ مترجمٍ رؤيته الخاصّة في العمل، لكن بحال أودّ تقديم وجهة نظري في الأمر فأفضل المترجمين هم الذين يستطيعون تقديم النص غير العربيّ بنسخة عربيّة، أعني بذلك قدرتهم على المراوحة بين أمرين: أوّلاً الحفاظ على فحوى النصّ الأجنبيّ دون الإخلال بجماليّات اللغة العربيّة وتقنيّاتها، ثانياً إضفاء شيءٍ من الروح العربيّة على النصّ دون الإخلال بروحه وإيقاعه الأصليين.
(ج): هل هناك مراجع عدت إليها، أو قرأتها أثناء ترجمة الرواية؟
(ب. إ.): طبعاً بلا شك، ولكن ليس كقراءةٍ مخصّصةٍ لهذا العمل، بل إنّها قراءات سابقة أفادتني بعملي في الترجمة ككل وعند كل ترجمةٍ على شاكلة رواية "الاحتيال" أعودُ إليها. وبدايةً مع المراجع اللغويّة كمعاجم للغة الفرنسيّة المختلفة، الحديثة منها كقاموس Larousse الشهير بطبعاته المختلفة، والقديمة منها كمعجم Godefroy، وثانياً مع المراجع التاريخيّة التي تتحدّث عن فرنسا خلال بدايات القرن العشرين، وكذلك المراجع المتعلّقة بالحياة الدينيّة في فرنسا والطرز المعماريّة خلال تلك الفترة، ولعل أبرزها كتاب "تاريخ شعبي لفرنسا: من حرب المائة عام حتى يومنا هذا" لجيرار نوارييل، وكذلك بعض الخرائط التفصيليّة للمدن الفرنسيّة ولفرنسا ككل. صحيحٌ أن بعض هذه المراجع كانت فائضة عن الحاجة، بل وإنّ بعضها قد لم يلزمني إطلاقاً، لكنّني لا أنكر أنّها، وبعد أن رفدتني بمعلوماتٍ مهمّةٍ عن فرنسا القرن العشرين، قد سهّلت عليّ المهمّة حين أدخل في السياق التاريخيّ والوصفي للعمل.
(ج): كيف تنظر إلى حركة الترجمة الأدبية من الفرنسية إلى العربية، وهل ينقل الكتاب الفرنسيون إلى اللغة العربية بشكل كاف؟
(ب. إ.): مع الأسف، أرى أن حركة الترجمة الأدبيّة من الفرنسيّة إلى العربيّة ليست على ما يرام، فهناك الكثير من الأعمال الأدبيّة الفرنسيّة المهمّة التي لم تعرف طريقها بعد إلى اللغة العربيّة. وهذا النقص في الأعمال الفرنسيّة أضعه ضمن فئتين: تتضمن الأولى تلك الأعمال الكلاسيكيّة أو أعمال كتّاب القرن العشرين التي لم ينتبه لها المترجمون العرب أو قدّموها للمكتبة بشكلٍ خجول، خذ على ذلك أعمال كلّ من رُنيه بازان وباناييت إيستراتي وجورج برنانوس وبيير بنوا وأوكتاف ميربو وغيرهم، جميعهم كانوا كتّاباً لامعين ونالوا حظوتهم خلال حياتهم في الحراك الأدبي الفرنسي، بل وإنّ رُنيه بازان ترشّح لجائزة نوبل مرّتين، ولم يترجم لهم عمل واحد، وإنّني لأفخر أنّني أوّل من ترجم لبازان وبرنانوس وإيستراتي؛ أمّا الفئة الثانية فهي أعمال الكتّاب المعاصرين الذين لم يُترجموا إلى العربيّة بشكلٍ كافٍ، فمثلاً هناك الكاتب لوران غوده، والذي نال غونكور عام 2004 عن روايته "شمس آل سكورتا"، لم يُترجم له سوى هذه الرواية والتي اشتغل عليها الراحل بسام حجّار، فيما الكثير من أعماله لا زالت بعيدة عن المكتبة العربيّة؛ وأيضاً خذ جان إيشينوز مثالاً، فهذا الأخير وعلى الرغم من نيله لغونكور عام 1999، غير أنّه لم يُترجم حتّى الآن للعربيّة.... وكثيرة هي الأمثال التي تشهد، بشكلٍ أو بآخر، على نقص الأدب الفرنسيّ من اللغة العربيّة.
(ج): ما هو مشروعك القادم؟
(ب. إ.): سأنتهي قريباً من عملين: الأوّل هو ترجمة سبع قصصٍ من أعمال أونوريه دو بالزاك القصصية (والتي لم تترجم للعربيّة)، والثاني هو ترجمة ثلاث رواياتٍ قصيرة للكاتب الفرنسيّ إيمانويل بوف، كما أنّني بدأت بالتجهيز للمرحلة المقبلة من العمل، وأتمنى أن أحسن اختياراتي بها.
مقتطف من رواية "الاحتيال"
في تلك اللحظة غادر مؤلّف كتاب "حياة تولر" المكتبة الوطنيّة ومشى في شارع ريشيليو تحت شمسٍ مائلةٍ وداخل اغبرارٍ ذهبي. أمّا المدينة المسحوقة بضبابٍ وحشيّ طيلة النهار، والحارّة كأنفاس الفرن، فكانت مسترخيةً كحيوانٍ شادهٍ، هادرةً بمزيدٍ من اللطف ومتحسّسةً الظلمة برغبةٍ قلقةٍ وريبةٍ خفيّة، وذلك لأنّ المدن تناشد شريكها الليل وتهابه. في هذه الأثناء سار الأب سينابر، بخطواته المتساوية وغير مبالٍ بهذا الهدوء الفظّ الذي كان عليه بلا شك، في الاضطراب الباهر لفترة ما بعد الظهيرة أو في أنفاس الفجر الصافية المؤلمة التائهة بين الحجارة كطائرٍ جريح. لفترةٍ طويلةٍ ظلّ تفكير الأب سينابر دون منفذٍ إلى الخارج، واستنفد حقده بقسوةٍ رائعة.
قبل ستّة أشهر، منذ عودته من ألمانيا حيث فرّ وتلاشى قلقه الأوّل، دخل دون نقاشٍ، كما لو كان على مستوى واحد، في سلامٍ عميق، أو على الأقلّ سمّي كذلك لأنّه أعطاه الوهم بالهدوء المطلق الذي يسبق العاصفة وبالجمود النهائي. أمّا القوى الغامضة التي لم يجرؤ على احتساب قواها وعديدها، بعد أن تصادمت ببعضها البعض في فوضى مخيفةٍ حيث شعر بروحه تغرق، فلم تبدُ هادئةً فحسب بل مرتبكةً أيضاً، ومن الواضح أنّها عقدت تحالفاً رهيباً فيما بينها. وبينما تنصب الإنسانيّة المسكينة خيمتها البائسة بين التلال التي انبثقت من الأرض في كارثةٍ غير مسموعةٍ كي تأكل القشرة الباردة لنجمٍ حيث لا تزال الهاوية الجوفيّة تهدر، فقد استقرّ كما لو أنّه في قلب تناقضاته. عاش هناك وحيداً وبرّياً وبعيداً عن البشر، بعيداً عن ماضيه الرهيب الذي بات أكثر غموضاً وأكثر ترويعاً من المستقبل، هذا الماضي الذي هرب منه بأعجوبة، والذي ما زال يسمعه مقرقراً وراء ملجئه مثلما يستدرجُ الوحش فريسته. ومع ذلك بدا أنّ القطيعة قد استُهلكت.
هذه القطائع ليست نادرةً للغاية، ولكنّها بشكلٍ عامّ نتيجةً لظروفٍ خاصّةٍ وغير متوقّعة عن تمرّد الحواس، أو الكبرياء أو العقل، الذي يتغلب فجأةً على كلّ مقاومةٍ ويترك وراءه خيبة أملٍ مؤلمةٍ للغاية، بحيث تظلّ الإرادة ضعيفةً إلى الأبد، ويبقي في الخفاء، مثل مبدأ الموت، الأسف على هذا الجزء المقتلع منه. عندها يولد الشكّ الخبيث من جديدٍ أكثر عناداً من ذي قبل لأنّه ينمو في البيئة الأكثر ملائمةً في تحلّلٍ كامل. في مثل هذه الحالة، قلّة من الرجال يتجنّبون الوقوع في الفخ المزدوج المتمثّل في الحنان الملتبس والحنين لما أنكروه، أو الكراهية العقيمة التي هي مجرّد شكلٍ آخر من أشكال الندم والتي تحطّ من قدرهم تماماً. لا أحد ينخدع بعنفهم، والجميع يراهم يتوسّلون ويرغون بأفواههم من أجل الخبز الذي رموه للتو، مما يجعلهم يعانون من جوعٍ أبدي. لا يهمّ ما إذا كانوا في كبريائهم يتملّقون بأنّهم أحرار، وفريدون من الآن فصاعداً ومنزوون: بل على العكس من ذلك لديهم حاجة شديدة للآخرين. إنّهم ليسوا سوى محرومين.
لكنّ الأب سينابر قام بدوره في الفوضى مثل زعيمٍ يتراجع بمرتبةٍ جيّدةٍ ولا يسمح لأحدٍ بالاقتراب منه. كانت الحواس سليمةً، وكبرياؤه الذي لم يتأثّر حتّى الآن بأيّ خيبة أملٍ خطيرة سليماً وبعيد المنال. وحتى أزمة الكرب التي ميّزت المرحلة الأخيرة من انفصاله البطيء وشبه المنهجي عن الناس فقد كان عليه أن يعتبرها حادثةً حاسمةً بلا شك، ولكنها لا تذكر في حدّ ذاتها، زائدة عن الحاجة. أمّا العار الذي شعر به في البداية فسرعان ما جرت مواجهته وإبطاله، حتى أنّه تجنّب بحكمةٍ غير عاديّةٍ استخلاص الغرور، مثل كثيرين غيره، من نقاشٍ مأساوي، وكان بالتأكيد غير قادرٍ على إيجاد مادّةٍ للأدب فيه. وبالغريزة، وبحركةٍ ذات طبيعةٍ عميقةٍ حيث أن نوعًا ما يكره نوعًا آخر، كان يكره رينان أو يحتقره بشكلٍ أكثر تحديدًا.
قد يكون مفاجئاً هذا التفصيل فهو موحٍ، وسيبقى الأب سينابر، بالنسبة لأيّ شخصٍ لا يبحثُ عن السبب السريّ لهذا الازدراء، غريباً دائماً بلا شك. إنّ تناقضات رينان وحساسيّته الأنثويّة، وغنجه وأنانيّته الماكرة وعواطفه المفاجئة، كلّ ذلك تستنكره الروح التي تتهرّب بالتبدّد الطوعي، ويشهد هذا التهرّب الدائم على الله مثلما تكشف انعطافات الحيوان المطارد عن وجود صيّادٍ متخفٍّ. وعلى العكس من ذلك فإنّ حياة الأب سينابر هي واحدة من الأمثلة القليلة، وربّما المثال الوحيد، على الرفض المطلق، ولإعطاء فكرة عن روحٍ منبوذةٍ وبالتالي عقيمة، يجب على المرء أن يفكر في الجحيم حيث يكون اليأس متراخيًا، وحيث لا يوجد مدّ أو جزر في المحيط الذي لا شاطئ له. وبالتأكيد لا يمكن للمرء التصديق أنّ هذا الرجل الغريب ولدُ تحت إشارة هذه اللعنة الرهيبة، وأياً كان الجزء الذي جعل شبابه يكذب فقد جاءت ساعةٌ بين كلّ الساعات حيثُ تتحول اللامبالاة إلى نبذٍ طوعيٍّ متعمّدٍ وواضح، ولكن هذه الساعة غير معروفة.
هو نفسه لم يكن يعرفها أيضاً، ومع الأعراض الأكثر إيلاماً لألمه تلاشى، في المظهر على الأقل، الغضب الذي مارسه مرّةً واحدةً بقوّة. كان نائماً، وعلاوةً عن ذلك لم يوجّه ضميره أيّ لومٍ ولا زال غير شاعرٍ بأيّ ندم، وقد انغلق الجرح بمجرّد أن تجرّأ على النظر إلى وجهه وتعريف نفسه مرّةً واحدةً إلى الأبد. لم يعد مؤمناً وفقد إيمانه تماماً. وكانت مهارته الفائقة، لأنّ الحيلة لديه ليست غير متكافئةٍ في القوّة، هي مقاومة إغراء تأخيرِ العملية الضرورية إلى أجل غير مسمى، وذلك من خلال عدم الرفض التام للرموز التي أُفرِغَت سابقًا من كلّ الجوهر. قطع الاتصال، وبطريقة كانت العودة مستحيلةً ولا يمكن حتى تصوّرها، وكما اعترف ذات يومٍ قائلاً: "إنّ المعنى الميتافيزيقيّ معي وكأنّه ملغي"، وهذا لم يكن كافياً للقول. تمكّن عددٌ قليل من أولئك الذين يشبهونه من انتزاع أنفسهم بعيدًا عن حلاوة الروحانية الدقيقة للوصول إلى شواطئ اللا أدرية الأكثر مرارة، ومرّةً أخرى عاشوا وسط وجوهٍ مألوفةٍ دون علمهم. اعتقد سينابر أنّه نجح بالتجرّؤ على إفراغ نفسه دفعةً واحدة، ليس فقط من كلّ المعتقدات ولكن من كلّ أمل، وفي حدود جهده لم يبق شيء. أثارته هذه الفكرة: اختبرها دون توقّفٍ مثلما يعود المرء بذاكرته ألف مرّةٍ إلى ذكرى لذيذة، وغير معروفةٍ للجميع، وهذه الروح التي حكمت عليها جريمتها القديمة بالعزلة منذ فترةٍ طويلةٍ استسلمت لها على الفور وضيّعت نفسها هناك دون رجعة. قال في نفسه: "بيني وبين العدم لا يوجد سوى هذه الحياة المتردّدة، التي تستطيع نسمة أن تمحوها، انكسار إناءٍ صغير". وشعر على الفور أنّ قلبه محاطٌ بوميضٍ من اللهب.
غالباً ما يُقبل العدم باعتباره الفرضيّة الوحيدة الممكنة بعد انهيار كلّ الفرضيات الأخرى، الممكنة لأنّه من خلال التعريف لا يمكن التحقّق منه، بعيداً عن متناول العقل. يُقبلُ بيأسٍ واشمئزاز. لكنّه أعطّى العدم حقّاً إيمانه وقوّته وحياته، فقط أراده بهذه الطريقة، أراده فقط. في هذا الاختيار الاستثنائي، وفي هذا التفضيل الخارق، لم يستطع تمييز ذلك الجزء من الضغينة الذي تراكمت عليه سنوات وسنوات من القهر. مثل هذا الاكتشاف كان ليهينه بشدّة. في المقابل آمن بثقةٍ أنّه تصرّف بلا عنف، وقبِل رجوليّاً ما هو حتمي، وأخذ على عاتقه عدم الاعتراف بأي إثمٍ تجاه أيّ شخصٍ على الإطلاق، سواء من أجل الكراهية أو من أجل الحب.