حظيت الكاتبة ليليكا ناكوس (١٩٠٣-١٩٨٩) بشهرة عالمية بعد نشرها لمجموعتها القصصية "جحيم الأطفال: قصص المجاعة الكبيرة في اليونان". وتناولت في قصصها التفاصيل المروعة للاحتلال النازي لليونان أثناء الحرب العالمية الثانية، لكن قصصها تغوص أيضاً في العالم النفسي الداخلي للنساء اليونانيات في الثلاثينيات.
أمومة
كان قد مَّر أكثر شَهْرٍ على وجودهم في مرسيليا، حتى أن معسكر اللاجئين الأرمن عند أطراف المدينة بدا مثل قريةٍ صغيرة. استقّروا كيفما اتفق: الأغنياء في الخيام والفقراء في الخرائب، أما أغلبية اللاجئين الذين لم يجدوا شيئاً أفضل فقد سكنوا تحت بُسُطٍ رُفعَتْ على عصي من زواياها الأربع، وظنّوا أنهم محظوظون بعثورهم على ملاءاتٍ علقوها على الجوانب لتحميهم من الأعين المتطفلة. بعد ذلك شعروا كأنهم في بيوتهم. وعثر الرجال على العمل، أي نوع من العمل، حتى لا يهاجمهم الجوع، وكي يعثر أبناؤهم على ما يسدّون به رمقهم، أما ميكالي فلم يقدر على فعل أي شيء، فقد كان يعيش على الخبز الذي يتصدق به جيرانه وكان هذا يزعجه، هو الشاب الذي يبلغ من العمر أربعة عشر عاماً، ويتمتع بصحة جيدة وقويّة. وكيفَ يفكر بالبحث عن عملٍ وهو يتحمّل مسؤولية مولود جديد، الذي منذ أن ولدته أمه وماتت وهو يبكي جوعاً من الصباح إلى المساء. ومن الذي سيقبل خدمات ميكالي بعد أن طرده أبناء وطنه من حاراتهم، لأنهم لم يقدروا على تحمل البكاء المتواصل الذي كان يوقظهم طوال الليل. حتى أن ميكالي نفسه داخَ من هذه الصرخات. كان يشعر بالإعياء الشديد بسبب قلة النوم وكثرة القلق، يحمل العبء الثقيل لطفل ولدَ في أسوء لحظة وجاء إلى الحياة بسبب سوء حّظه، تألم الجميع من أجله وتمنّوا بأسى أن يموت لأن أعباءهم كثيرة لكن الطفل بقي حّياً يصرخُ معبراً عن جوعه. تحرك ميكالي جيئةً وذهاباً كسكيّر، لم يكن معه فلس واحد كي يشتري حليباً للطفل الرضيع، وليست هناك امرأة يسمح لها وضعها بإرضاعه. كان هذا سبباً كافياً لدفعه إلى الجنون. في أحد الأيام، وبعد أن فقد القدرة على التحمل، انطلق ميكالي متألماً إلى الجانب الآخر حيث يخيّم الأناضوليون الذين هربوا من المذابح التركية في آسيا الوسطى، بعد أن قيل له إن هناك مربّية يمكن أن ترأف بطفله. كان مخيمهم بائساً كالمكان الذي يعيش في وسطه، العجائز يجلسون على حَشيَّات من القش مفروشة على الأرض، والأطفال الحفاة يلعبون في برك المياه القذرة. وحين اقترب نهضت عدة عجائز ليسألنه ماذا يريد، إلا أنه تابع سيره ووقف أمامَ خيمةٍ مفتوحة تبدت في داخلها أيقونة العذراء المقدسة، وسمع في الداخل صوت بكاء طفل. تكلم باليونانية قائلاً: أستحلفكم بالعذراء التي تعرضون أيقونتها أن ترحموا هذا اليتيم المسكين وتمنحوه قليلاً من الحليب، هذا الأرمني الفقير.
ردّت عليه فتاة سمراء جميلة ولطيفة تحمل بين ذراعيها طفلاً يرضع الثدي الأمومي وعيناه نصف مغمضتين.
- أرنا الوليد. أبنتٌ هو أم صبي؟
رقص قلب ميكالي من الفرح واقترب عدد من الجيران ليشاهدوه. ساعدوه في إنزال الصرة التي يحمل فيها الطفل على ظهره، وانحنوا بفضول. وعندما كشف الغطاء صرخت النساء مرعوبات، ذلك أن الطفل لم يكن يشبه البشر. كان وَحْشاً! تضخم رأسه وهزل جسمه، لأنه لم يرضع حتى الآن سوى إبهامه الذي انتفخ وأصبح لا يدخل في الفم. كانت رؤيته مرعبة حتى أن ميكالي نفسه تراجع مذعوراً. صاحت إحدى العجائز: يا مريم! إنه مصاص دماء حقيقي. حتى لو كان عندي حليب فلن أجرؤ على إرضاعه. أردفت عجوز أخرى: ”إنه بربري حقيقي. ابن حقيقي للأتراك". تقدَّمَتْ عجوز شمطاء وهي تصيح: "إنه الشيطان بعينه!". ثم التفتتْ إلى ميكالي وصاحت به: "أغرب من هنا يا ابن السوء. لا تطأ بقدمك ثانيةً هذا المكان. سوف تجلب لنا الحظ السيء". طردوه جميعاً مهددين متوعدين. فغصَّتْ عيناه بالدموع، ذلك أن الطفل سيموت من الجوع. شعر ميكالي بالوحدة والضياع. وسرتْ برودة في عموده الفقري عندما خطرت له فكرة أنه يحمل وحشاً كهذا. استراحَ في ظل كوخٍ، وكان الجو ما يزال دافئاً. انبسطت البلاد أمامه لوحة خرائب قاحلة مغطاة باللامبالاة. سمعَ الرنينَ الذي يعلن وقت الظهيرة في مكان ما. ذكَّره الصوت أنه لم يتذوق الطعام من الليلة الماضية، وسيضطر إلى البحث في الشوارع وحول المقاهي علَّه يعثر على بقايا صحن أو نفايات تعافها الكلاب. وفجأةً بدتْ له الحياة مليئة بالأهوال فغطَّى وجهه بيديه وبكى يائساً. عندما رفعَ رأسه شاهدَ رجلاً يقف أمامه ويحدق فيه. عرفَ ميكالي الرجل الصيني الذي يأتي دائماً إلى المخيم ليبيع الحلي الورقية، وأشياء الزينة التي لا يشتريها أحدٌ منه على الإطلاق. وغالباً ما كان سكّان المخيم يسخرون منه بسبب لونه وَحَوَلَ عينيهِ وكان الأطفال يصيحون: الصيني القذر! لاحظ ميكالي أن الرجل ينظر إليه بلطف ويحرك شفتيه ليتكلّم وأخيراً قال الصيني:" توقف عن البكاء يا ولد. هيّا معي“. كان جواب ميكالي الوحيد هو أنه هزَّ رأسه غير موافقٍ وفكَّر بالهرب، ذلك أنه سمع الكثير عن قَسْوْة الشرقيين، ويُشاع عنهم في المعسكر أنهم مثل اليهود يسرقون الأطفال المسيحيين كي يقتلوهم ويشربوا دمهم. لكن الرجل بقي واقفاً لم يتزحزح، وبما أن ميكالي كان في مصيبةٍ كبيرةٍ تبعه. ماذا سيحدث له أكثر من ذلك؟ وبينما كانا يمشيان زَلت قدمُ ميكالي وكادَ أن يسقط هو والطفل، فاقترب الصيني منه وحمل الطفل بينَ يديه وضمَّه بحنان إلى صدْره.
عبروا عدة حقول فارغة، وبعد ذلك مشى الرجل في الزقاق الصغير الذي يقود إلى كوخٍ خشبي صغير تحيط به حديقة صغيرة. وقف أمام الباب وصفقَ بيديه مرتين. سُمعَ صوتُ خطوات خفيفة وجاءتْ امرأة صغيرة الحجم لتفتح الباب. وعندما رأت الرجلين احمَّر وجهها ثم أضاءته بابتسامة تعبر عن السعادة. انحنتْ انحناءة خفيفة لهما. وبينما كان ميكالي يقف هناك متردداً مسمّراً على العتبة قال له الرجل الصيني:
- تفضَّلَ لا تخف. إنها زوجتي.
دخل ميكالي إلى الغرفة التي بدتْ كبيرةً تفصلها من وسطها ستارة ورقية. كانت نظيفة وأنيقة رغم فقرها الشديد ورأى في الزاوية مَهْداً من الأغصان الناعمة.
-هذا هو طفلي.
قالت المرأة وهي تحني رأسها وعلى شفتيها ابتسامة:
-إنه صغير جداً وجميل. تعال وانظر إليه.
اقترب ميكالي وأعجب بالطفل بصمت. كان طفلاً مكتنزاً خرج لتّوه من ظلمة الجسد الأمومي. كان ينام بهدوء مغطّى بقماشٍ ذهبي كأنه ملك صغير. بعد ذلك نادى الرجل زوجته وطلب منها أن تجلس على حصير من القش ودون أن يقول شيئاً وضع في حضنها الطفل الصغير المنهك من الجوع. انحنتْ المرأة مندهشةً وكشفتْ الغطاء ليظهر هيكل عظمي لطفل صغير يثير الرعب، فأطلقتْ صرخة أسى حادّة ثمَّ ضمتْ الطفل إلى صدرها وألقمته ثَدْيها. وبحركة تنمُّ عن تهذيب رفعتْ حاشية ثوبها فوق الصدر المنتفخ بالحليب والذي كان الطفل القصير الشره يرضع منه هناك.
[ترجمة أسامة إسبر، المصدر: Great Short Stories of the World].