غيّب الموت الفنانة الصومالية خضرة ضاهر في هرجيسا في يونيو 2022 عن عمر يناهز 65 عامًا. وهي واحدة من ألمع الأسماء الفنية الصومالية بعد رحلة طويلة من العطاء في المجال الفني استمرت منذ سبعينيات القرن الماضي.
بدايات الفنانة الراحلة وهي من مواليد هرجيسا عام 1957 (عاصمة جمهورية صوماللاند)، لم تكن في المجال الموسيقي؛ إذ برزت ضاهر في ريعان شبابها كلاعبة كرة سلة مثلت الصومال في بطولات وطنية ودولية. وقد غنّت أول أغنية لها عام 1974، لتنضم لاحقاً إلى فرقة وابري الفنية Waabari Band؛ أشهر فرقة غنائية في عهد السبعينيات والثمانينيات، كما انضمت إلى فرق التمثيل المسرحي للفرقة؛ وتركت في أرشيفها باقة من الأعمال المسرحية، أبرزها Dab jecayl kari waa "لهيبُ العشق المستحيل"، من تأليف الأديب حسن حاج عبدالله (حسن غني).
وتمتلك ضاهر شأنها شأن الجيل الذهبي للأغنية الصومالية حضورًا طاغيًا في ذاكرة الأغنية الصومالية المعاصرة بسبب ما سجلته فيها من حضور قوي منذ سبعينيات القرن الماضي، واستطاعت أن تحافظ عليه في الإذاعة والتلفزيون والحفلات الكبرى على مدار أربعة عقود، وتعتبر بحق أحد أبرز وأهم الدعامات التي قامت عليها هذه الأغنية رغم تأثّر هذا الدور بفعل الظروف التي شهدتها الأغنية الصومالية في أعقاب الحرب الاهلية من تدمير وتجريف وانتقال الثقل الثقافي إلى الشتات؛ إذ أصبحت ضاهر من بين عدد كبير من المغنيات والمغنين والمطربات والمطربين الذين هاجروا إلى الخارج بعد انحسار الحفلات الغنائية في الداخل بسبب المد الوهابي والإحداثيات الأخرى التي خلقتها ظروف الحرب.[1]
لقد تزامنت بدايات ضاهر الفنية في مطلع السبعينيات، وهي فترة ازدهار الأغنية الصومالية مع اكتساب الأصوات النسائية شعبية وقبولا لدى الجمهور العام، الذي كان حتى وقت ذاك يتوّجس من الحضور الفني النسائي ولم يكن يستسيغ أن تكون الفتاة مطربة، لذلك كانت جلّ الأسماء الفنية النسائية تحمل القابًا تمويهية غير أسمائهن الحقيقية. فعلى الرغم من أن النساء كنّ جزءًا من مجموعة الرواد الذين طوروا الشكل الأولي للأغنية الصومالية الـ balwo، إلا أن دورهن في ظهور شكلي الأغنية الشعبية الصومالية (heello iyo hees) ظل محدودًا.
وتؤرخ الباحثة ليدوين كابتيجنز في كتابها "أصوات النساء في عالم الرجال"[2] أنه فقط بحلول النصف الثاني من القرن العشرين تمكنّت المرأة الصومالية الظهور على المسرح للغناء علنًا لأول مرة، ولتفسير ذلك تقترح الباحثة التنقيب في الموقع الاجتماعي للنخبة الفكرية الذكورية الجديدة والتي تمايزت بحسب تحليلها عن مجايليها من النساء في ثلاثة أمور رئيسية: أولاً، كان للرجال صلات قوية بالأشكال الأدبية من التراث الشعبي للمجتمع الرعوي التي استمدت منها الأغنية الشعبية الحديثة الكثير من سماتها. ثانياً، انخرط الرجال في القطاعات التجارية والإدارية الحديثة قبل عقود من تواجد النساء في تلك الميادين. وثالثا، حصول الرجال على تعليم رسمي حديث في وقت أبكر مقارنة بالنساء منحهم فرصا متقدمة بالتواجد في الفضاء الفني. وبالتالي شكلت هذه الظروف مجتمعة عقبة أمام برزو المرأة الصومالية في تأليف وتلحين الأغاني. إلا أن مآخذ التحليل الجندري للمسألة يغفل الأنواع الفنية العديدة الخاصة بالنساء والكاشفة عن ثقافة غنائية هامّة مثل "البرانبور/Baraanbur" الذي يغلب فيه ترديد للأغاني بأصوات تمتاز بالقوّة ويستعمل فيه آلة الدربوكة وتقام في المناسبات الاجتماعية النسائية مثل الأعراس[3]، وكذلك"السِّتاد/ Sitaad؛ وهو غنائي ديني تحتفل النسوة بكلام الله وسنة رسوله بسبب ما يحمله بالنسبة لهن من معان روحانية.[4]
المغزى هنا أن النساء شاركن في تطوير أشكال عدّة للأغنية الصومالية الشعبية، وكان لهنّ حضور في جلسات مضغ القات وتأليف الشعر والموسيقى والتلحين والغناء، ولا يعني حقيقة أن المرء لا يستطيع قياس تأثيرهن غيابهن. صحيح أنه في الفترة ما بين 1944 إلى 1980 أصبحت أصواتهنّ أكثر بروزا بشكل لا لبس فيه، وسجلن حضورا لافتا كشخصيات في الأغاني والمسرحيات وعبرن عن آرائهن ومشاعرهن حول كيفية تمثيل النساء فيها.
تحتل ضاهر مكانة بارزة في الجيل المكرّس في الذاكرة الغنائية الصومالية في القرن العشرين. ويُسعفنا تاريخها الفنّي لمعاينة تحولات الاغنية الصومالية الحديثة؛ المدارس والتقاليد الغنائية والمسرحية وموضوعاتها في أوج الحمى القومية والوطنية وثيمة العشق العذري، كما أننا نستشف من مسيرتها الفنية الانهيار الدراماتيكي اللاحق، وما نتج عنه من كوارث شتّى، كالتمرّغ في وحل الحرب الأهلية، وتدمير الأرشيف الغنائي الوطني وتبعثره، فضلا عن حالة التزمّت الديني الوافدة مع دخول الفكر الوهابي وإحباطاته السيكولوجية والتي دفعت ضاهر إلى اعتزال العمل الفني في عام 2002، وهي ظاهرة مثيرة بدأت في التصاعد منذ ذلك الحين في الوسط الفني الصومالي. فقد اعتزل الكثير من الأسماء البارزة الفن بعد الحرب في التسعينات لظروف مختلفة أهمّها إختفاء الفرق الغنائية والمؤسسات الراعية لها واضطرار الكثير منهم/ن للهجرة، أمثال الفنانة فاطمو عبدالله كاهن "مانديق"، والمطرب والملحن عبدالله سوران الذي التحق بجماعة التبليغ. ومؤخرا أثار عاصفة من الجدل إعلان أشهر المطربين الشباب نجومية محمد بي كي توبته عن الفن.
خلال مسيرتها التي استمرت ما يقرب من أربعة عقود، سجلت ضاهر أكثر من ألفي أغنية توصف الحزن والحب واللوعة، وتتميز أغانيها التي كتب معظمها الشاعر والأديب المرموق حسن عبد الله (حسن جني) باللحن الجذاب وشجن الكلمات الفاتنة، فمثلا تقول كلمات أغنية: Mahiigaan/ عاصفة رعدية.
. . . “Mahiigaan jacayl baan dhex muquurayaa/ miraalihiisii midigta igu qaadyoo/ mawjad baa i sidatee/ Naftu kay u muhatana iga mawanoo waayee”…
"إنني أغوص في عُباب الحبِّ / تجتاحني عواصفه الرعدية الليلية / تموّجني بعيدا / والحبيب الذي أتوق إليه ليس بجانبي.."
لقد حظيت الفنانة الراحلة بعدد هائل من المعجبين وبجاذبية أخَّاذة جعلتها تتفوق على مطربي عصرها، وقد قابل الصوماليون، خصوصا الجيل الذي عاصرها، نبأ وفاتها بالكثير من الأسى في صفحات التواصل الاجتماعي. لقد كتب Abdisamad Nur Bidar، الكاتب الصومالي الشهير، وأحد المعجبين الذين نشأوا في الاستماع إلى أغانيها، نعيًا مختصرا على حسابه في الفيسبوك جاء فيه: "لقد فارقتنا بجسدها، لكنها ستظلُّ معنا إلى الأبد. ستظلُّ موسيقاها وأغانيها محفورة في الذاكرة الجمعية الصومالية، إذ رأينا أنفسنا من خلالها. كانت تنتمي إلينا بحق، وارتبطنا بها كارتباط المرء بعائلته، وتسامت بفنِّها فوق كل تشظياتنا وتحيُّزاتنا. كانت بصوتها الذي تَميَّز برقِّة مفعمة بالسكينة بمثابة الجارة التي تشعرنا بالراحة في حالات الحزن والألم وتزيد من إشراقة أمزجتنا وإطرابها في حالات الجذل". يواصل نعيه بالقول: "كانت الفنانة خضرة أحد الأسباب التي جعلتني مستمعا شغوفا للأغاني الصومالية منذ أن كنتُ صبيا في مقديشو، ولا زلتُ أتذكر عندما تمَّ بثُّ أغانيها الأولى عبر إذاعة مقديشو في السبعينات والتي ستصبح من أهم الكلاسيكيات لاحقا. كانت الأغاني فاتنة بألحان منسابة يسهُل تلقيها ولاقت رواجا واستحسانا بين الشباب. ناولني ميكروفونا فحسب وبإمكاني أن أغني أغانيها الكلاسيكية التي حفظتها منذ الطفولة."
عاشت ضاهر في مدينة مينيابوليس في الولايات المتحدة مع أطفالها الخمسة لمدّة تربو على 25 سنة، لكنها عادت في الأخير إلى موطنها هرجيسا، وعبرت بأن الحياة في الغربة لا تساوي ليلة واحدة في وطنها. وهو تعبير مفعمٌ بالشاعرية عن الفنان ولوعته لموطنه الأم.
هوامش:
[1]: صهيب عبدالرحمن، الأغنية الصومالية تقاوم الحرب والتحريم وتلاحقها الرداء، حفريات.
[2]: Lidwien Kapteijns, Maryan Omar Ali, Women's Voices in a Man's World: Women and the Pastoral Tradition in Northern Somali Orature, C. 1899-1980 Portsmouth NH: Heinemann.
[3]: Buraanbur: Cultural Beauty, Peace Promotion and Tribal Prejudice.