ناتاشا إسكندر
(دار جامعة برينستون للنشر، 2021)
[ناتاشا إسكندر، أستاذة التخطيط الحضري والخدمات العامة. تُعنى أبحاثها بالعلاقة التي تجمع الهجرة والتنمية الاقتصادية].
جدلية (ج): ما الذي دفعك إلى كتابة هذا الكتاب؟
ناتاشا إسكندر (ن. إ.): في 2010، فازت قطر، بطريقة غير متوقعة نوعا ما، بحقوق استضافة كأس العالم لكرة القدم في 2022، وبدأت على الفور تقريبا ببناء الملاعب والبنى التحتية اللازمة للمباريات، محولّة مئات المليارات من الدولارات لإعادة ابتكار نفسها كوجهة عالمية للرياضة والثقافة. فجأة، بدأت دولة تقع في منطقة غالبا ما يتم تجاهلها في دراسات الهجرة، بالخضوع لتدقيق غير مسبوق في ظروف عمل المهاجرين فيها. بدأت منظمات حقوق الإنسان والعمال بتوثيق مجموعة من انتهاكات العمل التي يواجهها عمال البناء المهاجرون، من سرقة الرواتب إلى ظروف عيش مزرية في مخيمات للعمال وصولا إلى الإصابات بالجروح والموت. ونشرت الصحافة الدولية عناوين عريضة عن "عبيد كأس العالم". ومعظمها تقريبا نشر صورة لعامل بناء في زي العمل الأزرق، وهو يبدو تعيسا، مضطهدا، مجهول الهوية، شديد السمرة عموما ومصنف عرقيا.
تملكني فضول شديد حول تجربة عامل البناء ذاك. ما هي القصة الشخصية خلف تلك الصورة السطحية والحاجبة؟ ما هو الوضع بالنسبة له، وكثيرين غيره، مثله، بالعمل في قطر-وهو مكان يعد الوجه الآخر الداكن لقصة هجرة تقليدية. في معظم المناطق، يشكل المهاجرون الموسميون أو الدائمون، جزء صغيرا من السكان والقوى العاملة. في قطر، الكل تقريبا- تسعون بالمئة من المقيمين- هم من مكان آخر. قطر هي الدولة الأكثر كوزموبوليتانية على وجه الأرض، وقطاع البناء فيها هو أكثر كوزموبوليتانية بعد. من بين نحو مليون شخص يعملون في البناء، هناك نحو ألفين فقط من القطريين. كيف يكون الأمر حين تعمل، وتحلم، وتقيم صداقات، وتخطط للمستقبل، في مكان كل من فيه مؤقت؟ في مكان حيث حقوق الجميع السياسية مقيدة بوظيفتهم كعمال؟ كيف كان وقع القوة السياسية التي ألقت بثقلها عليك، وما كانت إمكانيات التضامن والمقاومة؟
بالإضافة إلى ذلك، رأيت أن الأسباب التي تقدم لظروف الاستغلال في قطر غير كافية على الإطلاق، بل حتى أنها مثيرة للقلق. معظم التقارير عن قطر تعزو قمع العمال لنظام الكفالة-وهو أساسا نظام من السخرة كان من قبل يمنع العامل من الاستقالة أو، خلافا لذلك، الامتناع عن العمل، بغض النظر عن الشروط التي تواجهه. والذي وتّرني كان الغطاء الاستشراقي، الخفي أحيانا ولكنه موجود حكما، لهذه التوصيفات- إيحاء بأن استغلال العمّال وتشغيلهم بالسخرة هو نوعا ما سمة من سمات الثقافة العربية. كنت أريد أن أفهم كيف نشأت شروط العمل في قطر- ما هو النظام القانوني؟ وتنظيم الإنتاج في القطاع؟ هل كان ذلك بتأثير الشركات متعددة الجنسيات العملاقة المنخرطة في البناء؟ هل لأن العمال في القطاع كلّهم، بالمطلق، من المهاجرين؟ هل لأنهم مقيدين كلهم بنظام الكفالة- بما في ذلك المدراء التنفيذيين، والمهندسين، والمهندسين المعماريين؟
أدت هذه الأسئلة إلى إطلاق دراسة مدتها ستة أعوام، تتضمن أبحاثا في خمس دول وبثماني لغات. أمضيت مئات الساعات في مواقع البناء. زرت مخيمات العمال. أجريت مقابلات مع عمال، ومدراء، ومهندسين معماريين، ومسؤولين حكوميين. ذهبت إلى قرى العمال وبلداتهم في الهند والنيبال والفيليبين. جلست مع أسرهم في بيوتهم. وتتبعت وكلاء التوظيف الذين أرسلوا العمال إلى قطر.
(ج): ما هي الموضوعات والمسائل والأدبيات التي يتناولها الكتاب؟
(ن. إ.): الفكرة الرئيسية في كتابي هي أن المهارة سياسية بالعمق، وأن الاستخدام السياسي للمهارة - وليس نظام الكفالة - هو الذي أنتج أشكال الانتهاكات في العمل والتي وثّقتها بدقة عالية منظمات حقوق الإنسان والصحافة العالمية. لم أكن أتوقع أن أركّز على المهارة، ولكنني وجدت أنه في قطر، فإن الفارق بين العمال المهرة وغير المهرة يشكّل، بصورة مطلقة، جميع أوجه الحياة الاجتماعية والاقتصادية. ففي الدوحة، مثلا، فإن الفصل على أساس المهارة هو سياسة عامة متبعة: العمال المصنفين من غير المهرة ممنوعين من العيش في معظم أنحاء المدينة أو التجول فيها- المدينة التي، فعليا، بنوها هم- وهم مبعدون عوضا عن ذلك إلى مخيمات العمال في الصحراء المحيطة.
والغدر في اعتبار المهارة لغة سياسية، في قطر، ولكن أيضا في سياقات أخرى كثيرة، يكمن في أن المهارة لا تبدو سياسية. تمر كتعبير محايد، مقياس مباشر للكفاءة، التجربة، التعليم، أو التدريب. وكانت هناك كمية معقولة من الضغط ضد هذا الرأي في المهارة، مع إشارة باحثين إلى أن كيفية قياسها والاعتراف بها تتأثر بالتصورات والانحيازات العرقية والجندرية ومؤشرات أخرى من الاختلاف الاجتماعي.
وتنطلق حجتي من هذا النقد، إلا أنها تذهب أبعد من ذلك. في قطر، استخدمت المهارة كفئة سياسية غير مرتبطة على الإطلاق بالكفاءة. المهارة لم تكن تتعلق بالمهارة- فتصنيفك كغير ماهر لا يتعلق على الإطلاق بكونك من المهرة أو من غير المهرة أو ما بينهما. التصنيف كان ومازال يتعلق جوهريا بالذات السياسية، وبمن لديه الحق بتعبيراتها كاملة. وعلى الرغم من أن المهاجرين إلى قطر كلهم، مع استثناءات قليلة جدًّا، يخضعون للنظام القانوني ذاته وفئات التأشيرات، إلا أن المصنفين كمهرة كان وما زال لديهم القدرة على الحصول على حقوق مختلفة عن الذين يوصفون بغير المهرة: حقوق مختلفة في الحرية والتنقل، حقوق مختلفة في الاستقلالية والكرامة، حقوق مختلفة في الإبداع والرغبة.
(ج): كيف يرتبط هذا الكتاب بعملك السابق أو يفترق عنه؟
(ن. إ.): هناك خيط مشترك يمتد عبر أعمالي كلها- من عملي على نشاط "البدون أوراق" في فرنسا، إلى كتابي الأول، "الدولة المبدعة: 40 عاما من سياسات الهجرة والتنمية في المغرب والمكسيك" (دار جامعة كورنيل للنشر، 2010)، وصولا إلى أبحاثي عن التحول المستتر للمهارة بين عمال البناء اللاتينيين في الولايات المتحدة- هو اهتمام مرتبط بعمليات إنتاج المعرفة، والإبداع والخيال في أماكن حيث يتم تجاهلها، أو تقليصها أو حتى إنكارها تماما. في حين كانت أعمالي السابقة تسعى للإضاءة على هذه العمليات، يركز "هل تجعلنا المهارة بشرا؟"، في المقابل، على كيفية إنكارها وكيف يستخدم هذا الإنكار لتجريد العمال المهاجرين المؤقتين أو الدائمين من إنسانيتهم.
(ج): من تأملين أن يقرأ هذا الكتاب، وما نوع التأثير الذي ترغبين أن يخلّفه؟
(ن. إ.): آمل أن يمسك بهذا الكتاب كل المعجبين بأي من الملاعب الرياضية المستقبلية والمذهلة، والمراكز الثقافية، وشبكات المواصلات، والجزر الاصطناعية، والتنمية الحضرية التي سوف تومض حتما في لمحات عبر شاشاتهم فيما هم يتابعون تغطية كأس العالم، لكي يتعرفوا من خلاله عن العمال الذين بنوا هذه المنشآت، وعن تفانيهم وشجاعتهم وإنسانيتهم بكاملها.
وآمل أيضا أن يؤدي هذا الكتاب دور المحفز بالنسبة للباحثين والمحللين القلقين بشأن العمال، والهجرة والحقوق السياسية، لكي يستجوبوا - بحزم- استخدام المهارة، ودراسة كيفية تحول فئة المهارة إلى أداة ضمن السياسة العمالية، وضبط الحدود، والطبقية المبنية على العنصرية، وإنتاج اللامساواة. ظهرت سياسات المهارة بقوة في قطر، ولكن على الرغم من أنها تكون أحيانا أكثر تمويها في سياقات أخرى، وفي أماكن أخرى، إلا أن نتائجها ليست أقل أهمية أو استمرارية.
(ج): تتناولين في كتابك كيف تتفاعل سياسات المهارات مع ضغوطات التغيير المناخي. هل يمكن أن تقولي المزيد عن ذلك؟
(ن. إ.): توفر لنا قطر نافذة (واجهة) على سبل إسقاط تأثيرات التغيير المناخي بطريقتين. أولا، قطر بلاد حارة، وهي واحدة من أسرع الأماكن احترارا في الكوكب. يعمل العمال في حرارة قصوى ويعانون من معدلات عالية من الإصابات والوفيات نتيجة الحرارة التي يتعرضون لها. تهاجم الحرارة المرتفعة النظام العصبي المعرفي، والعوارض الأولى لضغط الحرارة هي الارتباك، وعدم الاتزان، وفقدان القدرة على تحريك جسمك. بالنسبة لعامل سقالات يقف على ارتفاع عشرين طابقا في الفضاء، أو كاسٍ يرفع ألواحا ضخمة من الزجاج والألومينيوم في مواجهة رياح الصحراء وحدها، فإن خسارة هذه القدرات يمكن أن تؤدي بسهولة إلى الإصابة والموت. ووصف العمال بغير المهرة يجعل من السهل جدا لومهم على الإصابات التي يعانون منها- ليس السبب هو الحرارة وضررها على إدراكهم، بل السبب هو العمال غير المهرة، لم تكن لديهم الرغبة أو القدرة على استخدام مهاراتهم لحماية أنفسهم.
ثانيا، إن واحدا من الأمور التي فاجأتني هو أن أصحاب العمل في قطر باتوا يلتفتون إلى أماكن حول العالم تعرضت للضرر بسبب التغيير المناخي لإيجاد عمال. إنهم يسعون إلى الأماكن التي قضت عليها الأعاصير، الأماكن التي ذيلت بسبب الجفاف، أو التي غمرها الارتفاع في مستوى سطح البحر، لأنه في هذه المناطق، حولت ضغوطات التغيير المناخي الأشخاص الميسورين نسبيا إلى فقراء جدد وجعلتهم متاحين للهجرة. وقد اعتبروا أن هؤلاء الناس هم عمال جيدون لأنهم استفادوا من استثمارات طويلة المدى في التعليم، والتغذية، والصحة إلا أنهم أصبحوا الآن مستعدين للقبول برواتب أدني مما كانوا يقبلونه من قبل. كان هؤلاء مهاجرون لديهم "قدرات استيعابية" ليصبحوا من ذوي المهارات العالية، ولكن كان من الممكن تصنيفهم، بصورة دائمة تقريبا، كغير مهرة.
(ج): ما هي المشاريع الأخرى التي تعملين على إنجازها الآن؟
(ن. إ.): دفعتني أبحاثي في قطر لأصبح أكثر اهتماماً بالطريقة التي تضخم فيها سياسات المهارة اللامساواة الناتجة عن التغيير المناخي. أبدأ الآن مشروعا عن التغيير المناخي ومستقبل العمل يستكشف هذا التداخل. أركّز على قطاع البناء في أماكن مختلفة حول العالم لأنه، في عمليات البناء وفي المنتج النهائي، يساهم البناء بنسبة أربعين بالمئة من مجمل الانبعاثات العالمية، وسياسات المهارة تصوغ ظروف العمل في القطاع وفي التأثيرات المناخية بطرق غالبا ما تكون مفاجئة وحتى غير بديهية. وعوضا عن البدء بالسياسات، والمؤسسات، والسرديات، كما فعلت في مشاريعي السابقة، أبدأ هذه المرة بالمواد-حرفيا. يتخذ المشروع من الاسمنت موضوعا لدراسته، وهي المادة الأكثر استخداما في الكوكب بعد الماء، ويسأل عما يكشفه استخدامه عن سياسات التغيير المناخي.
مقتطف من الكتاب
«ركض الرجال. ركضوا بالملابس التي كانوا يرتدونها: جينز وشباشب، أو أحذية العمل. بعض الرجال، بأقدامهم المشققة، تخلوا عن صنادلهم البلاستيكية عند جانب الطريق وركضوا حفاة على الرصيف الساخن. ركضوا في حرارة فترة بعد الظهر- حيث تكون الدرجات في النصف الأعلى من الثمانينات بمقياس فاهرنهايت، والهواء رطب.
ركضوا أمام أفراد الشرطة المصطفين عند جانبي الطريق. في بعض الأماكن، ركضوا إلى جانب طاولات عليها زجاجات مياه، إلا أن المياه كانت متروكة في الشمس، وكانت ساخنة وغير قابلة للشرب. ركضوا لمدة طويلة-ربما ساعات. كانت بنطلونات الجينز تخدش جلدهم. كانت رئاتهم تحترق، وعضلاتهم تتشنج. بعضهم انهار. حاول الكثيرون مغادرة الطريق، للتوقف عن الركض والاستراحة، إلا أنهم أرغموا على العودة، وتلقوا صيحات عن ضرورة أن ينهوا السباق.
الرجال، وهم آلاف عدّة، أرغموا على الجري في "ميغا ماراثون قطر 2015"، الذي نظم في الدوحة كمحاولة لتسجيل رقم عالمي جديد عن فئات السباق الذي يشارك فيه العدد الأكبر من الراكضين. وروج الموقع الالكتروني الرسمي للسباق أن الماراثون هو احتجاج على التقارير الصحافية السلبية التي نشرت عن قطر بعد منحها حقوق استضافة كأس العالم 2022. وأعلنت أن الحدث هو "رد حاسم على الحملة التي أطلقها فريق الحساد الكارهين على نجاح قطر في استضافة "كأس العالم 2022 الذي ينظمه الاتحاد الدولي لكرة القدم" (الفيفا)، وعلى اتهاماتهم الباطلة باضطهاد العمال والمقيمين في بلدنا الحبيب". وعلى الرغم من هذه الجهود، كان نسبة التسجيل للمشاركة في الماراثون منخفضة. حتى بعدما تراجع المنظمون لتحويله إلى نصف ماراثون، وأرجأوا الحدث من "اليوم الوطني للرياضة" في 2 شباط/فبراير إلى 27 آذار/مارس- حين يكون الطقس أكثر حرارة، وفي كل سنة ترتفع الحرارة أكثر من التي قبلها- لم يسجل للمشاركة طوعا إلا مئات عدة من العدائين. وللتعويض عن النقص في المشاركين، جنّد المنظمون عمالا في قطاعي البناء والصناعة. في نهاية السباق، أعلن المنظمون عن مشاركة 33 ألف عداء فيه. إلا أنه كان مازال ينقصهم بضعة آلاف لتسجيل الرقم القياسي الجديد.
نظم السباق في يوم جمعة، يوم الراحة المصان الوحيد للعمال. جمعت الباصات العمال في الصباح الباكر، من مخيمات العمال في المنطقة الصناعية، وهي منطقة معزولة في الصحراء كانوا قد أودعوا فيها. ولاحقا، اعترف "نادي السعد الرياضي" الذي نظّم السباق، أنه طلب من الشركات أن تشجّع عمالها من أصحاب "الوظائف اللائقة" على المشاركة، إلا أنه أصر على أن المشاركة كانت طوعية وأنه تم توفير مستلزمات جري مناسبة لكل من يرغب بها. العديد من العمال الذين نقلوا بالباصات إلى موقع الماراثون كانوا على الأرجح لا يعرفون أنه من المتوقع منهم أن يركضوا في سباق. ولكنهم، كلهم، كانوا سيجدون صعوبة في الرفض. هؤلاء العمال كانوا مهاجرين. كانوا يعملون في قطر في إطار نظام كفالة يعطي أرباب عملهم القدرة على ترحيلهم بلا إخطار مسبق ولأي سبب كان. صور السباق والفيديوهات تظهر رجالا أفارقة و من جنوبي آسيا، محتشدين عن خط الانطلاق، يرتدون فانيلات بيضاء متشابهة، ومآزر الجري القصيرة وعلى كل منها رقم المتسابق.
مع ذلك، رفض بعض المهاجرين المشاركة في الماراثون. وتم إرجاء وقت الانطلاق حتى الثانية ظهرا، والعمال الذي رفضوا الجري أمروا بالبقاء في الباصات التي أحضرتهم، حيث كانوا قد جلسوا أساسا طوال النهار في الحرارة، بلا ماء أو طعام. حين سئل المتحدث باسم النادي الرياضي عن قرار احتجاز العمال في باصاتهم، قال "أردنا أن نبقي مسار السباق خاليا، وأن يبدو المسار حسن المظهر". وسلّم بأنه ضغط على العمال للجري لكي "يستمروا" لأن المطروح هو رقم قياسي عالمي. أضاف "تحدثت معهم بشكل مؤدب جدا، هم بشر أيضا، أليس كذلك؟".
حين قرأت التغطية الصحافية للميغا ماراثون، تذكرت رحلة ميدانية قمت بها إلى موقع بناء لمنشأة نفط وغاز في قطر قبلها بشهور قليلة. كنت في قطر أجري أبحاثا عن ممارسات مواقع العمل في قطاع البناء وسبل تطوير العمال للمهارات على الأرض. وكجزء من رحلتي الميدانية، ذهبت لمراقبة أعمال بناء سلسلة للغاز الطبيعي المسيّل، حيث كان العمال يبنون قسما من المصنع لدفع الغاز داخل شبكة من الأنابيب ومن ثم يبرّد ليتحول إلى سائل يمكن شحنه حول العالم. وكان موقع البناء الواقع في صحراء قطر الشمالية ضخما. كان عشرات الآلاف من العمال من تخصصات عدة يعملون بصورة متزامنة على عناصر مختلفة من الهيكلية. ومثله مثل مواقع بناء أخرى زرتها في قطر، كان الموقع محموما ومزدحما. في الكثير من الأماكن، كان العمال يتشابكون في انتظار دورهم لعبور الممرات الضيقة التي تحدها السقالات والأسوار. على امتداد النهار، تتبعت العديد من المهام- خاصة عمال السقالة واللحام.
عصرا، ذهبت إلى واحدة من ورش عمل التلحيم في الموقع. وكانت ورشة العمل، الواقعة في منشأة واسعة تشبه المستودع، مساحة شاسعة متعددة الاستخدامات: كان يتم تلحيم مكونات فرعية صغيرة من المنشأة في إحدى الزوايا، والتدريب على تحسين مهارات اللحام كانت يجري في طرف آخر من المستودع، أما مراقبة الجودة والتثبت من تماسك الطبقات الشقوق الملحومة فكانت تتم في زاوية أخرى. والمدير التركي لمركز اللحام، محمد، شرح العملية لي لاحقا بكلمات حزينة. "هذا المكان هو بمثابة جنتي. لقد عملت في اللحام لمدة 25 عاما. واللحام هو شيء يتسرّب إلى جسمك. يشبه دمك. أستطيع بمجرد النظر من الخارج على عمل منجز، أن أعرف جودة اللحّام. حتى من خلال الشرارات، أستطيع رؤية فلسفته. أستطيع أن أعرف إن كان بطيئا أو سريعا، وإلى أي مدى يفهم عمله."
كانت سلسلة الغاز الطبيعي المسيّل تتطلب لحاما لا تشوبه شائبة. والمواد التي ستدفع من خلال متاهة الأنابيب في السلسلة قابلة للتبخر والاشتعال بدرجة عالية. ولتقييم جودة اللحام، استخدم المركز نظام أشعة سينية. "الاختبار البصري غير كاف، حتى على أفضل قطع اللحام،" يشرح محمد. الفحص الشعاعي ضروري لأنه حتى أكثر الثقوب ضآلة في البنية الداخلية للحديد يمكن أن يترتب عليها عواقب كارثية. "هناك معامل كثيرة. إذا قمت باللحم في حرارة عالية، لن يتماسك الحديد المنتج. إن لم تكن واثقا، لن يتماسك المنتج. إذا رأينا مشكلة واحدة فحسب، نعيد التدريب"، يضيف محمد. الغاز الطبيعي واحتمال الانفجار يعني أنه لا يوجد هامش للخطأ، والمركز يختبر ويعزز بشكل متواصل خبرة عماله، وهم أساسا مهرة بطريقة لا تصدق.
في العادة، يكون المركز مزدحما وصاخبا، بوجود مئات اللحامين والمشرفين والمتمرنين. ولكن في يوم زيارتي الأولى، كان خاليا. كان هناك مشرفان على مكاتبهم في غرفة المكتب عند المدخل، وكان بعض العمال يكنسون الأرض، واثنان آخران كانت يجريان بصمت صيانة للآلات. وسأل مدير السقالات الذي رافقني في ذلك اليوم أين الجميع. "مباراة رياضية"، أجاب أحد المشرفين.
كانت الشركة قد جمعت مئات الرجال من مستودع اللحام وأرسلتهم إلى هذا الحدث الرياضي-ربما مباراة كرة قدم؛ لم يكن المشرف متأكدا. شخص ما في الحكومة طلب ذلك. ووفرت الشركة العمال لملء مدرجات المشاهدين كي لا تتحدث الصحافة العالمية عن استاد خال في بلد راغب بطرح نفسه كوجهة رياضية عالمية.
وهذا النوع من التجنيد الإجباري لعمال البناء كان مألوفا في قطر، على الرغم من أنها كانت المرة الأولى التي أشاهده مباشرة. على وجه العموم، كانت الشركات تعتبره كضريبة، طلب يؤدي إلى انقطاع العمل، إلا أنها لم تكن تملك أي خيار سوى تلبيته. نقلت الشركات عمالها بالباصات من مخيمات العمال إلى المرفق الرياضي حيث يتم استخدام العمال كدعائم. سيعامل العمال كأجساد، مرغمين على القيام بأي نشاط كان مطلوبا، ربما في الحر، ربما بلا امكانية كافية للحصول على الماء أو الطعام أو غيرهما. واللحامون الغائبون عن مركز التدريب، كانوا أيضا، بلا شك، يستخدمون بهذه الطريقة. ومن خلال ذلك، يتم تحويل انسانيتهم، كما إنسانية المهاجرين الذي أجبروا على الجري في نصف ماراثون بالشباشب، إلى شيء لم يعد واضحا أو مؤكدا، شيء يستدعي السؤال "هم كلهم بشر أيضا، أليس كذلك؟"»
[نشر على جدلية. ترجمة هنادي سلمان].