الجذور الاستعمارية لعنف الشرطة الفرنسية

[متظاهرون جزائريون ألقي القبض عليهم في ليلة 17 أكتوبر/تشرين الأول 1961 بباريس.] [متظاهرون جزائريون ألقي القبض عليهم في ليلة 17 أكتوبر/تشرين الأول 1961 بباريس.]

الجذور الاستعمارية لعنف الشرطة الفرنسية

By : Mathieu Rigouste ماتيو ريغوست

كثُر الجدال في فرنسا حول دور الشرطة وعنفها، لكن غالبًا ما يتم تغييب الجذور التاريخية لعنف الدولة، وثِقل “الدراية الفنية” التي اكتُسبت خلال حرب تحرير الجزائر، والتي لا يزال أثرها ملموسا إلى اليوم.

في الغرب، وفي مرحلة أولى، كانت الشرطة أداة واسعة للقبض على الأجساد التي تُعتبر غير طبيعية (كاليهود، و“السحرة”، والمثليّين جنسياً، والمومسات، و“المجانين” و“المجنونات”، والبائسين). ثم استُعملت للسيطرة على المجموعات غير المنضبطة وقمع الثورات الاجتماعية، والتي تفاقمت مع تطوّر المدينة البرجوازية الكبيرة. لكن وكما كتب المؤرخ إيمانويل بلانشارد، يمكن أيضًا اعتبار مؤسسة الشرطة “مؤسسة استعمارية بالأساس”. ذلك أن جذورها تعود إلى زمن العبودية والعمل في المزارع، ومن خلال انتشار الميليشيات التي تطارد العبيد الهاربين. وطوال فترة الاستعمار، شكّل النظام العسكري-الأمني لقمع الثورات والمراقبة اليومية للأجساد المستعمَرة مرحلة أساسيّة.

أثّرت الحروب التي شنتها الدول الغربية ضد السكان المدنيين في بلدان الجنوب على تحوّل قوات الشرطة بشكل منتظم وعميق. فمن خلال الحروب الاستعمارية الفرنسية والبريطانية في آسيا وإفريقيا، وحروب الهولنديين في إندونيسيا أو الألمان في جنوب غرب إفريقيا، تبيّنت تقنيات عسكرية صارت “كلاسيكية”، سيما من خلال الممارسات العقابية التي تستهدف المدنيين، كالمطاردة والاعتقال، ونهب الممتلكات والأراضي، والإكراه والتشويه والإذلال والقتل. وقد شكّلت هذه الطريقة في ممارسة السلطة مرحلة مهمّة في تاريخ تطوّر الشرطة.

استمرارية كبار المسئولين

بفضل تداول كبار مسؤولي الدولة في إطار مختلف الوضعيات الإمبريالية الداخلية والخارجية، انتقلت المعرفة الاستعمارية. فمثلا، وبعد قيادته حرب العصابات المضادة في إسبانيا1، تم تكليف المارشال بوجو بقمع تمرّد باريس لسنة 1834، ثم بسحق مقاومة الأمير عبد القادر في الجزائر عام 1836. وقد قام الضابط الفرنسي في كتابه “حرب الشوارع والمنازل” بالتنظير لضرورة تكييف حرب العصابات المضادة لقمع تمرّدات العمال في فرنسا.

من جانبه، وبعد أن نظّم لترحيل يهود مدينة بوردو (جنوب غرب فرنسا) في فترة الاحتلال الألماني خلال الحرب العالمية الثانية، تم تعيين مدير الشرطة موريس بابون مسؤولاً عن المديرية الفرعية الجزائرية بوزارة الداخلية في عام 1945. وتقديرا لإدارته للثورة المسلّحة كمحافظ أعلى خلال حرب تحرير الجزائر، تم تعيينه مديرًا للشرطة في باريس عام 1958 من أجل إخضاع “مخرّبي شمال إفريقيا”، على حدّ وصفه. وقد نقل بابون عقيدة الشرطة، وكذلك عددا من العاملين فيها ومن وأفكارها وممارساتها، من أرض الحرب الاستعمارية إلى العاصمة الفرنسية، حيث أدار مذبحة متظاهري 17 أكتوبر/تشرين الأوّل 1961 على نفس النموذج القمعي الذي سبق واستُعمل ضد مظاهرات ديسمبر/كانون الأول 1960 الشعبية في الجزائر. وظلّ بابون محافظا للشرطة حتى عام 1967.

أما بيار بولوت، فقد تدرّب على “التهدئة” الاستعمارية أوائل خمسينيات القرن الماضي في الهند الصينية، قبل أن يُصبح مديرَ ديوانِ محافظ الجزائر خلال حرب التحرير. هناك، قام بولوت بتصميم دوريّات شرطة “تُركت لحالها” لتطوّق “الأحياء الحساسة”. وبعد المشاركة في أعمال القمع خلال “معركة الجزائر” في عام 1957، تم تعيينه محافظًا على منطقة غوادلوب، حيث استخدم مرة أخرى تقنيات القمع المضاد، وتسبّب في مذابح الانتفاضة الاجتماعية في مايو/أيار 1967. وعندما تم تعيينه سنة 1969 على رأس محافظة جديدة تُدعى “سان سان دوني” (شمال باريس، وهي منطقة تتكوّن من أحياء شعبيّة يقطنها الكثير من المهاجرين، ومن أبنائهم وأحفادهم)، قام بولوت بدمج تجربته الاستعمارية مع تجربة فِرق سابقة كانت مسؤولة عن العمال المهاجرين، وأنشأ شرطة ضواحي تحت عنوان “باك” (BAC)، ويرمز هذا الاسم بالفرنسية إلى فرقة مكافحة الجريمة.

شرطة سياسية خاصة بالمستعمَرين

يمكننا التحدث عن “جينيالوجيا” الاستعمار الداخلي، للحديث عن وجود استمرارية استعمارية في كنف العواصم الإمبريالية. فتاريخ فرقة مكافحة الجريمة (BAC) يُظهر أن المسار المهني لضباط الشرطة الأساسيين هو جزء من هذه الاستمرارية. فعلاً، فإن هذه الفرقة هي وريثة “لواء شمال إفريقيا” (BNA)، الذي كان مسؤولاً عن مراقبة العمال العرب في فرنسا، والسيطرة عليهم وقمعهم خلال فترة ما بين الحربين العالميتين. وكان التجنيد لهذه الفرقة يتم لا سيما في صفوف الموظفين الاستعماريين في الجزائر. وكان أعضاؤها يطوّقون “أحياء المسلمين” في فرنسا من خلال المداهمات والاعتقالات، مع تطبيق أساليب مستمدة من رقابة المتسولين والمشردين والمومسات.

تم حلّ “لواء شمال إفريقيا” في فرنسا غداة الحرب العالمية الثانية، بسبب دلالته العنصرية الصريحة. لكن بعد بضع سنوات وتحديداً في عام 1953، أعادت إدارة الشرطة إنشاء وحدة مستوحاة من الواقع الاستعماري تحت اسم “فرقة الاعتداءات والعنف” (BAV)، مع التركيز على “إجرام شمال إفريقيا” المزعوم. وقد أعادت “فرقة الاعتداءات والعنف” تجنيد بعض عناصر “لواء شمال إفريقيا” السابقين، والذين جلبوا معهم هوسهم بـ“الجرم المشهود”. وخلال حرب التحرير الجزائرية، تطورت فرقة الاعتداءات والعنف لتصبح بمثابة الشرطة السياسية الخاصة بالمستعمَرين في فرنسا. يروي روجيه لو تاينتيه، أحد العناصر القدامى لهذه الفرقة: “قاتلنا على طريقتنا، المسدس في يد، وقانون الإجراءات الجنائية في اليد الأخرى. هي نفس الحرب التي كان الجيش يسعى للانتصار فيها في الجزائر”. وقد أوضح عالم الاجتماع عبد المالك صياد كيف شاركت شرطة مدن الصفيح بالعاصمة الفرنسية في استيراد ممارسات الشرطة الفرنسية في الجزائر، حيث كانت قوات مساعدة تُسمّى بالـ“حركي”، ووحدات الشرطة “الصحية والاجتماعية”، ووحدات صدامية، تُدير -تحت مسئولية مدير الشرطة موريس بابون- عمليات رقابة وقمع على نفس منوال “معركة الجزائر”.

مطلع السبعينيات، استطاع أعضاء سابقون لفرقة الاعتداءات والعنف بفضل تجربتهم الالتحاق بوحدات استعمارية داخلية جديدة، وهي “فرق المراقبة الليلية” (BSN)، والتي كانت بمثابة النماذج الأولية لفرقة مكافحة الجريمة التي أنشأها المحافظ بيار بولوت. وقد أُنشُئت هذه الفرق أساسا للقبض على مرتكبي الجرم المشهود في “أحياء المهاجرين”، حيث تنتشر البطالة وتعيش الطبقات الهشّة. تم تصوّر هذه الفرق لتكون “استباقية”، أي قادرة على تهيئة ظروف عملها، وفقًا لمصطلح مشتق من تقنيات الإدارة، وسرعان ما تم التنويه بـ“إنتاجيتها”، وبالتالي بكونها مربحة للغاية وفقًا لما يسمى بـــ“سياسة الأرقام”، الرائجة في المجتمع النيوليبرالي “الجديد”.

“حرب الجزائر لم تنته”

بين الاستمرارية وإعادة الترتيب، تشكّلت تصورات وتقنيات شرطة الأحياء التي ظهرت في فرنسا في السبعينيات والثمانينيات. في نوفمبر/تشرين الثاني 1972، وسط مركز شرطة مدينة فرساي قرب باريس، أطلق الشرطي روبرت ماركيه النار على سائق جزائري يُدعى محمد دياب. دخل هذا الشرطي إلى صفوف قوات الدرك أيام الاحتلال الألماني، ثم عمل كشرطي طوال الحرب الجزائرية، وكان قد صرخ في وجه ضحيّته: “نعم، سأقتلك يا ابن السلالة القذرة، سأقتلك!”. شجبت حينئذ حركة العمال العرب وجود “شعوب مستعمَرة في فرنسا وأوروبا، وهم العمّال المهاجرون”. وفي يونيو/حزيران 1973، عثر رجال الدرك في مدينة فران -وكانوا يبحثون عن صبي جزائري يبلغ من العمر 14 عامًا- على شقيقته مليكة يزيد التي كانت تبلغ من العمر 8 سنوات. استفردها أحد رجال الدرك في غرفة لإجراء “استجواب” والحصول على “معلومات” عن شقيقها، فخرجت من هناك وهي في غيبوبة ثم ماتت. وفي أكتوبر/تشرين الأول 1974، أثناء محاكمة 12 شرطيًا بتهمة نهب منزل جزائري في باريس قبل عامين، تبيّن أنهم هدّدوه قائلين: “حرب الجزائر2 لم تنته. سنذهب إلى غابة فريار وسنطلق النار عليك هناك”.

وفي سنة 2005، خلال عمليّة “تأمين” أحد الأحياء، حشد عميد لواء قواته وصرخ في اتجاههم: “لقد خسرنا الحرب في الجزائر. قبل أربعين عامًا، أسقطنا سراويلنا. لكنّا لن نخفضها مرة أخرى اليوم. لا سجين اليوم، لا شيء غير الهراوة!”. تعرّض تركيّان للضرب في ذلك اليوم. وفي أبريل/نيسان 2020 ، قال شرطي ممازحاً زملاءه وهو يتحدّث عن مصري غرق في نهر السين بعد تدخلّهم: “إنه لا يعرف السباحة، عربيّ3 مثله لا يسبح”.

من المظاهر الأخرى لهذا النظام الأمني الاستعماري الداخلي، جمع الإمبريالية الفرنسية داخل أراضي البلد بين ممارسات التمييز الاجتماعي والعنصري الموروث من الفترة الاستعمارية. هذه الفوارق أساسية في مجالات مثل العمل والإسكان والمدرسة والصحة والإعلام والإدارات، وكذلك الشرطة والحدود والسجون. تكمن “استعمارية السلطة” -على حد تعبير عالم الاجتماع البيروفي أنيبال كيخانو- بشكل خاص في إعادة إنتاج هذا الفصل العنصري الاجتماعي.

مازلنا نلاحظ هذه الظاهرة من خلال قمع الثورات الاجتماعية التي اندلعت بعد جرائم الشرطة. في العديد من المدن الفرنسية منذ 1998 وفي غيرها خلال فترة الحجر الصحّي سنة 2020، تم تطبيق نفس الخطة: تطويق منطقة شعبية والسيطرة عليها من خلال إحاطتها بوحدات ثابتة، ثم إرسال وحدات خاصة بالداخل للقبض على “المشتبه بهم”. هذا الربط بين الخنق الجماعي ومطاردة الأشخاص يعيد إنتاج منطق مكافحة التمرد والاستعمار، لا سيما ذلك الذي ساد خلال “معركة الجزائر”. الفكرة هنا هي شنّ نوع من أنواع الحروب البوليسية ضد مجموعة من السكان غير مرغوب فيها، بحجة أنها تشكّل بيئة لانتشار خطر داخلي يهدّد المجتمع. شكّل هذا المخيال “مقياس بوي ترونغ للعنف الحضري”، الذي ادعى أوائل العقد الأول من القرن الحادي والعشرين أنه قادر على كشف تشكّل “عصابات حضرية” من خلال الانحرافات، على غرار عمليات مقاومة التمرد في الفترة الاستعمارية في الخمسينيات. كما نجد أثراً لنفس هذا المخيال في دعوة إحدى نقابات الشرطة الفرنسية لإقامة “حواجز” في الأحياء الشعبية “على غرار الفصل الذي تطبّقه إسرائيل في الأراضي الفلسطينية” في مايو/أيار 2021.

استخدام المعدات العسكرية

يحلّل الباحث البريطاني مارك نيوكليوس “الأمن” المعاصر باعتباره عولمة لمصطلح “التهدئة” الاستعمارية. ويلاحظ “توحيدا لقوة الحرب وقوة الشرطة من أجل بناء نظام ليبرالي”. في فرنسا، خلال إعادة الهيكلة النيوليبرالية، شهدنا بالفعل تهجينًا للمعدات والأسلحة بين الجيش والشرطة، وهو إرث من الماضي الاستعماري. هذا هو الحال، على سبيل المثال، بالنسبة للغازات السامة والقنابل المشوّهة، والتي تم تصنيع استخدامها ضد المدنيين خلال حرب تحرير الجزائر، قبل أن تنتقل الممارسة إلى الأراضي الفرنسية، لا سيما خلال أحداث مايو/أيار 1968. وبعد تعميم استخدامها في الأحياء الشعبية، بات استعمالها اليوم ركيزة من ركائز إدارة الشرطة للحركات الاجتماعية. نفس الأمر ينطبق على استخدام المروحيات ضد الثورات الحضرية، وهي ممارسة بدأت خلال معركة الجزائر.

لا تزال إدارة النضالات الاجتماعية بمقاربة عسكرية أمنية قائمة في الأراضي المستعمَرة التي تسمى بأراضي “ما وراء البحار”، ولا سيما أثناء أزمة كوفيد-19 في جزر الأنتيل، وكذلك أثناء الاستفتاء على الاستقلال في كاناكي4 في عام 2021. كما تشكّل العمليات الاستعمارية الجديدة مثل “برخان” في منطقة الساحل، تجارب مهمة بالنسبة لرجال الدرك الذين يتدخلون أيضًا بانتظام على الأراضي الفرنسية، وكذلك بالنسبة للجنود الذين يشاركون في عمليات التأهب الأمني في إطار مكافحة الإرهاب.

يتجلّى هذا الاستعمار الأمني مع تضاعف القوانين المناهضة للأجانب والمعادية للإسلام منذ نهاية الثمانينيات، ويتسع من خلال صعود عقيدة مناهضة الإرهاب التي أصبحت شكلاً من أشكال الحكم. وكما أشار الفيلسوف كارل شميت، فقد شكّلت حرب تحرير الجزائر تجربة تأسيسية للجمهورية الفرنسية الخامسة من خلال استهداف الثوار الجزائريين كـ“إرهابيين”، ووضع أجهزة استثنائية مثل “حالة الطوارئ” في قلب نظامها القانوني. ومن خلال إعلان حالة الطوارئ في عام 2015 ثم تطبيعها على المستوى القانوني، باتت أنظمة مراقبة الشرطة والمطاردة والقبض موجّهة ضد رجال ونساء مسلمين ومسلمات، ما أعاد تأسيس نظام استثنائي مميز للنظام الاستعماري بطريقة قانونية. ركّز هذا النظام الاستثنائي بطريقة مهووسة على شخصية العدو الداخلي العربي المسلم، واستمرّ في ظل عهدة إيمانويل ماكرون الأولى من خلال مضاعفة الإجراءات الخاصة وحظر الهياكل الدينية والثقافية والجمعياتية المسلمة.

[ترجمت المقال من الفرنسية سارة قريرة]

[تنشر هذه المقالة ضمن اتفاقية شراكة مع مجلة اورنيت]

بدرخان علي: "الانتخابات الحرّة" ليست شيئاً عظيماً، بعد خراب البلد

‫يأخذنا الباحث الكردي السوري بدرخان علي في هذه المقابلة في جولة نقدية حول الثورة السورية ودروبها المتشعبة، خصوصاً في المناطق ذات الأغلبية الكردية، التي تقع تحت سيطرة أحزاب كردية متعددة، تتضارب في المصالح والأهداف. ويتطرق إلى طبيعة العلاقة التي تربط حزب الإتحاد الديمقراطي PYD بالنظام السوري وبحزب العمال الكردستاني PKK في تركيا، وكذلك عن علاقة بقية الأحزاب الكردية بالسيد مسعود البرزاني رئيس إقليم كردستان العراق. وهو إذ يصف نفسه هنا بـ "أكثر المتشائمين"، لا يرسم بطبيعة الحال، صورة وردية عن مستقبل سورية ما بعد الأسد، إلا أن مكاشفته القارئ تلامس حيزاً كبيراً من هواجس كل سوري ومخاوفه المستقبلية.

م.د: ثمة لغط كثير حول مطالب الأكراد، هل لك أن تضعنا بصورة تفصيلية وواضحة حول المطالب الكردية الحقيقية؟‬

ب.ع: قبل اندلاع الثورة السورية كانت مطالب الحركة السياسية الكردية ترد إجمالاً في صيغ "الحقوق القومية المشروعة للشعب الكردي في إطار وحدة البلاد". وكان ثمة تشديد دائم على نفي تهمة الانفصال عن سوريا التي تلصق عادة بالحركة الكردية، وإبراز الدور الوطني للكرد في سوريا منذ الاستقلال حتى اليوم. وبالطبع التركيز على المظالم التي مورست بحق الكرد، مثل حرمان حوالي ربع مليون منهم من الجنسية السورية بموجب الإحصاء الاستثنائي لعام 1962 الخاص بمحافظة الحسكة، وحظر اللغة والثقافة الكرديتين إلى التمييز في سلك الديبلوماسية والجيش، وإقامة "الحزام العربي" في محافظة الحسكة.
بعد اندلاع الثورة وتشكيل المجلس الوطني الكردي (إئتلاف يضم معظم الأحزاب الكردية والتنسيقيات الشبابية الكردية) طرحت صيغة حق تقرير المصير في إطار وحدة البلاد، واللامركزية السياسية، ومن ثم الفيدرالية والدولة الاتحادية. يلاحظ أن هناك تصوّراً كردياً غالب أنّ الفرصة مواتية لانتزاع أكبر قدر من المطالب القوميّة بعد سقوط النظام الحاكم. وفي ظنّي هذا رهان كبير، ولا يخلو من قدر غير محسوب من المغامرة، ويحصر المسألة الكردية في السلطة الحاكمة أو شخص الرئيس. ويغفل معطيات وعوامل عديدة في المسألة القومية الكردية في بعدها السوريّ.

م. د: ما هي العوائق التي تقف في طريق المطالب الفيدرالية الكردية؟

ب.ع: الحقيقة أن هناك جملة عوامل جغرافية، سكانية، محلية، سياسية، إقليمية تطرّقت إليها في كتابات سابقة سوف تعترض صيغة الفيدرالية المطروحة بمجرد سقوط النظام، لا بل من الآن. وستضطر النخبة الكردية نفسها إلى مواجهة الواقع كما هو، لا كما تشتهي. حتى الآن رغم كل الاجتماعات واللقاءات والنقاشات، ورغم إلحاح الجانب الكردي، ورغم رغبة قوى المعارضة في ضمّ الأحزاب الكردية إلى صفوفها، لم تبد أية جهة سياسية سورية موافقتها على هذه المطالب الفيدرالية، أي أنه لم يمكن حتى الآن انتزاع "اعتراف وطني-عربي سوري" بالحقوق الكردية وفق ما تطرحها القوى الكردية. وهو الأمر الذي تسبّب به الطرف الكردي برفع سقف مطالبه خلال الثورة، وكذلك بعض الأطراف في المعارضة التي لا ترى في المطالب الكردية سوى مشكلة عابرة لا تحتاج سوى إلى كلمات عامة، ناهيك عن وجود تيار قوميّ- شوفينيّ بكل معنى الكلمة داخل صفوف المعارضة اليوم.

وهناك لا شك عوامل عديدة سوف تحدّ من بقاء سورية دولة مركزية متشددة، بالمعنى الإدراي الإقتصادي-الأمني، أي بصورة تتيح للأطراف والمحافظات ممارسة سلطات أوسع في نطاقها المحليّ. لكني أرى أن تصبح سورية دولة لامركزيّة سياسياً ودستورياً، أمراً بعيد الاحتمال.

خلال فترة قصيرة من الإضطراب والفوضى قد تمارس سلطات الأمر الواقع من جماعات مسلّحة وقوى سياسية قدراً من سلطة سياسية محليّة. لكن ليس على المدى البعيد وعلى نحو مستقرّ. من جهة أخرى يبقى الأمر مرهوناً بمآلات الحرب القائمة في البلاد، وكيف ستنتهي، والارتدادات الإقليمية للصراع السوري.

م.د: هل يخشى الأكراد من أن تدير المعارضة السورية العربية لهم الظهر حال سقط النظام، وما الضمانات التي تطالبون بها لمنع ذلك؟

ب.ع: بلى، هناك تخوّف من هذا القبيل، ويستند هذا الخوف إلى ميراث الاضطهاد والتهميش الذي مورس بحق الكرد بعد مشاركتهم الفاعلة في نيل استقلال سورية عن الانتداب الفرنسي، كما يجري استحضار تجارب كردية خارج سورية وبشكل خاص المشاركة الكردية في معارك الاستقلال التركي ووعود كمال أتاتورك لهم بالحكم الذاتي والمشاركة في الدولة الجديدة، والتي أخلفها على الفور بعد نيل الاستقلال ومارس أشد السياسات عنفاً وشوفينية ضد الكرد في الجمهورية التركية التي سارت على نهجه في اضطهاد الكرد. كما مشاركة الكرد في "الثورة الإسلامية" في إيران عام 1979. وتهميشهم واضطهادهم بعد استقرار الحكم للملالي ورجال الدين. يعبّر أحياناً بعض الساسة الكرد عن ذلك، في لحظات الصراحة والوضوح، بالقول "لن نكون بندقية على كتف أحد" أو " ثوّاراً تحت الطلب". الثورة السورية أنعشت آمال الأكراد في سوريا في نيل حقوقهم، ودفعت النخب، باستثناءات قليلة، إلى رفع سقف مطالبها على شكل حكم قوميّ ذاتيّ موسّع (بصرف النظر عن التعبيرات)، من غير أن يطالب أحد بالانفصال عن سوريا. الضمانات المطلوبة المطروحة هي انتزاع اعتراف مسبق من الآن بتضمين الحقوق القومية الكردية، بالصيغة المطروحة، في الدستور القادم.

م.د: تحوّلت مناطق الأكراد إلى مناطق آمنة للاجئين السوريين من المناطق التي تعرضت لعنف النظام بعد احتضانها المعارضة المسلحة، فهل تضعنا في صورة الوضع الاقتصادي في تلك المناطق؟ وما صحة أن حزب العمال الكردستاني يدير الوضع الاقتصادي/ المعاشي بغض نظر من النظام؟

ب.ع: كان الوضع المعاشي في محافظة الحسكة ممكناً و مقبولاً، بشكل نسبي، حتى قبل بضعة أشهر وكان النازحون من المناطق السورية الأخرى يتمتعون بأمان. لكن مع اشتداد المعارك في المنطقة الشرقية والاشتباكات بين الجماعات المسلحة العربية والكردية في رأس العين (سري كانيه) والخراب في البنية الخدمية عموماً وحالة الفوضى وبروز العصابات التي تسطو على الشاحنات القادمة من حلب وغيرها، تدهورت الشروط المعيشية خاصة خلال الشتاء حيث البرد الشديد وانقطاع الكهرباء لساعات طويلة و أيام متواصلة أحياناً. وبسبب إغلاق المنافذ بين المحافظة والجوار، التركي والعراقي، حيث المعبر بين قامشلي ونصيبين التركية مغلق، والمعبر بين اليعربية (تل كوجر) السورية وربيعة العراقية مغلق أيضاً، ورأس العين تشهد معارك، والسلطات التركية كانت تسمح فقط للمسلّحين والأسلحة بالدخول لمجموعات مسلّحة مدعومة منها على الأغلب، قامت حكومة إقليم كردستان العراق بإرسال معونات إنسانيّة مقدّمة باسم رئيس الإقليم السيد مسعود بارزاني، تتضمن محروقات ومواد أساسية لأهل المحافظة عبر معبر غير نظامي بين حدود إقليم كردستان العراق ومدينة ديرك (المالكية) الكردية السورية، ودون موافقة الحكومة المركزية في بغداد. وكذلك السماح بإدخال معونات مقدمة من المواطنين وجمعيات وقوى سياسية عبر الإقليم. وقد شكّل هذا المعبر شريان حياة صغير للمنطقة ومازالت بعض المواد الأساسية ترد عبره. أما في المناطق الكردية الأخرى شمال حلب والرقة فالوضع هناك أسوأ، حيث منطقة عفرين مثلا (شمال حلب) محرومة من أية مساعدات إنسانية من الجهة التركية.

م.د: في مؤتمر القاهرة الذي أعد لوحدة المعارضة، حصل في نهايته خلاف عربي- كردي أرخى ظلالاً سيئة على العلاقة العربية الكردية عموماً وعلى وحدة المعارضة السياسية. هل ترى أن الخلاف بين العرب والكرد هو خلاف عميق الجذور من الصعب تجاوزه على المستوى السياسي فحسب، أي أنه عمودي، أم أنه خلاف مرهون بوجود الاستبداد ويزول بزواله؟

ب.ع: لا أودّ الحديث غير الواقعي بالتهويل عن متانة الوحدة الوطنية وإطلاق الشعارات الجميلة. وكما بيّنت في سؤال سابق، مشكلة الكرد وحقوقهم ليست مرهونة فقط بالنظام الحالي، ولا بالطبقة الحاكمة وحسب، حتى يكون إسقاطهما حلاً ناجزاً للمسألة الكردية. بالتأكيد، الاستبداد المديد، وثقافة حزب البعث القومية، وتغييب الحياة السياسية والحريات العامة أسهم في تعقيد القضية الكردية. كما أن تطورات المسألة الكردية في الجوار الإقليمي تلعب دوراً مؤثراً على الحركة الكردية في سوريا.

لكن الفرق الأساسي هو بين رؤيتين أساسيتين (مع استثناءات وتدرّجات في الجهتين): الكرد باتوا ينظرون إلى سوريا من منظورهم الكرديّ الخاص (ولذلك أسباب ومعطيات) أكثر من أي وقت مضى، أي كشعب ضمن شعب وإقليم ضمن دولة، وتحضر هنا تجربة كردستان العراق في المخيلة السياسية، في المقابل ينظر عموم السوريّون إلى الكرد من منظور عام، "الوحدة الوطنية" و"الشعب الواحد" و"أسنان المشط".

في تقديري: الواقع الذي سيفرز بعد سقوط النظام ونتائج الحرب المستعرة حالياً، والمخاض الإقليمي جراء الوضع السوري المتفجّر، والجدل القائم حول البدء بحل ما للقضية الكردية في تركيا وما سيتمخض عن ذلك، سيكون له دوراً كبيراً في تقرير حدود الحلّ السوري للمسألة الكردية. أي موازين القوى ومعادلات القوة الناتجة. الشعارات من الطرفين (سلباً أو إيجاباً) لن تفيد كثيراً، ولا "التطمينات" المتبادلة. رغم أهمية التواصل الأهلي وضرورة التنسيق بين المكونات الاجتماعية في المناطق المتداخلة من أجل تجنب الصراعات الأهليّة.

م.د: ثمة كثير من الأساطير تحاك حول حزب الاتحاد الديمقراطي (الجناح السياسي لحزب العمال الكردستاني) بين من يرى أنه يعمل لحساباته الخاصة مستغلاّ التحولات الحاصلة في سوريا والمنطقة، وبين من يرى أنه أداة بيد النظام السوري، وبين من يرى أنه يتحاور مع أنقرة من تحت السطح. كيف تقرأ واقع هذا الحزب الإشكالي في الانتفاضة السورية؟

ب.ع: القسط الأكبر من "الأساطير" التي تقال عن حزب الاتحاد الديمقراطي ( pyd) تعود إلى سياسته وسلوكياته بالطبع، لا إلى اتهامات من الآخرين. فالواقع أن سياسة الحزب في سوريا خاضعة تماماً للأجواء التي تسود العلاقة بين قيادة حزب العمال الكردستاني، خارج سوريا، والسلطة السورية. ولو قارننا مثلاً موقف الحزب في انتفاضة قامشلي 2004 مع موقفه الحالي لتوصلنا إلى ذلك. ففي العام 2004، كانت علاقة الحزب قد تدهورت مع دمشق بعد طرد زعيم الحزب السيد عبدالله أوجلان، من الأراضي السورية عام 1998 وتوقيع الاتفاقية الأمنية بين دمشق وأنقرة، التي تسمح لتركيا بالتوغل داخل الأراضي السورية لملاحقة مقاتلي الحزب. ورغم أن النظام السوري كان أقوى بكثير في 2004، ورغم أن الكرد كانوا معزولين عن بقية السوريين وفي المواجهة لوحدهم، كان حزب الاتحاد الديمقراطي، وإعلامه خصوصاً، يمارس تجييشاً كبيراً وتحريضاً غير مسبوقاً ضدّ النظام السوري، وبإغفال تام لإمكانات الكرد ومقدرتهم على خوض ثورة مستمرّة ضد النظام. إلا أن ذلك كان مطلوباً حينذاك من قبل قيادة حزب العمال الكردستاني للضغط على النظام السوري.

أما في الثورة السورية الراهنة، فنلاحظ لغة سلميّة غير مألوفة منهم تجاه النظام السوري، وبات الشباب المحتجّون ضد النظام السوري عملاءً لأردوغان!
لا أرى أن حزب العمال الكردستاني أداة بيد النظام السوري. إلا أن هناك استفادة متبادلة بين الطرفين. النظام السوري يستفز تركيا عبر الورقة الكردية مجدداً، ويسمح لقادة حزب الاتحاد الديمقراطي، واللجان الشعبية التابعة له، بالنشاط المستقل تماماً عن الحراك الثوري في البلاد، والكابح له في المناطق الكردية. من جهة أخرى، ازدادت وتيرة العمليات الهجومية لحزب العمال الكردستاني وشدّتها ضدّ الجيش التركي خلال فترة الأزمة السورية في خطوة أعادت إلى الأذهان الدعم الذي كان يتلقاه الحزب سابقاً من النظام السوري.

م.د: أين يكمن الانعكاس السلبي للحزب على القضية الكردية، خاصة أن هناك من يقول أن الحزب يعمل لاستغلال الأوضاع الحالية للهيمنة على الداخل الكردي لفرض رؤيته القومية؟

ب.ع: ليس من خطأ شنيع ارتكبه الحزب في سوريا بقدر محاولة فرض هيمنته الحزبية على الساحة الكردية، ولو كان ذلك بالعنف الصريح، والاعتداء الجسدي. وهذه، كما نفترض، وسائل غير مشروعة للعمل السياسي والدعاية السياسية ونيل الهيبة الحزبية. الشهوة للسلطة والتلهّف المبكر لها وللتسلّط، كان وراء كل الممارسات الطائشة والقمعيّة للحزب بشكل أضرّ به أيضاً، ووضعه في موقع حرج. كل ما عدا ذلك يخضع للنقاش والاختلاف.

لذلك لست مع نظرة تقول أنه بمجرد سقوط النظام السوري سوف تتوقف هذه الممارسات، بافتراض أن ذلك يجري خدمة للنظام السوري وبأوامر منه. موضوع حزب الاتحاد الديمقراطي وتشابكه مع وضع الـ (ب ك ك) في تركيا معقّد بعض الشيء. وهناك ثقافة قمعيّة ذاتية، وتربية شمولية، و"عبوديّة طوعيّة"، أي لا علاقة مباشرة لها بالموقف من النظام السوري، قد تستثمر في أية لحظة، والقاعدة الشعبية جاهزة للتلبية والتصفيق بطبيعة الحال، وللهجوم أيضاً.

م.د: الحوار بين حزب العمال الكردستاني وأنقرة الجاري الآن، هل تعتقد أن يكون له انعكاس على الداخل السوري وتوازن القوى، أي هل يمكن أن يبيع الحزب النظام السوري؟

ب.ع: بلا شك، سياسة حزب الاتحاد الديمقراطي يخضع بشكل مباشر لتأثير الحزب الأم (العمال الكردستاني. ما تزال المفاوضات في بدايتها وغير معلنة للرأي العام، سوى تسريبات من هنا وهناك. ولا نعلم كيف ستسير. وإذا ما قيّض لها النجاح بعد فترة، رغم الصعوبات الكبيرة والجمّة والملفات المرتبطة، سوف يلقى الأمر بظلاله على سياسة الاتحاد الديمقراطي في سوريا. أكبر تأثير إيجابي قد نجنيه في سوريا هو إعادة الاعتبار للسياسة والعقل، والعمل لمصالح الكرد السوريين أنفسهم، وتصالح أنصار حزب العمال الكردستاني السوريين أنفسهم مع مكانهم الواقعي والمحيط المعاش. وربما خلاص باقي أطراف الحركة الكردية من الابتزاز المزمن لحزب العمال الكردستاني.فحتى اليوم لم تكن قضايا الكرد السوريين أنفسهم على رأس أولويات المناصرين للـ pkk، لا قديماً ولا الآن.

م.د: في رأس العين، وبعد اقتتال بين الطرفين، عقد الجيش الحر وحزب الاتحاد الديمقراطي اتفاقية وشكلوا معاً "لجنة حماية السلم الأهلي والثورة". هل يمكن لهذا الأمر أن ينجح رغم الإيديولوجية المختلفة لكل منهما، والأجندة الخارجية المتضاربة لكل منهما أيضا؟

ب.ع: التفاهم الذي جرى في رأس العين (سري كانيه) كان بين وحدات الحماية الشعبية التابعة لحزب الاتحاد الديمقراطي وتشكيل عسكري تابع لـ"الجيش الحر" والإئتلاف الوطني السوري، هو المجلس الثوري العسكري في محافظة الحسكة. ووقع هذا التفاهم بعد زيارة وفد برئاسة المعارض ميشيل كيلو ودعوات عدة من "الهيئة الكردية العليا" وقوى المعارضة وقيادة "الجيش الحر" لوضع حد للمعارك والاقتتال الدائر في رأس العين والذي تسبب بتشريد ومقتل الكثير من أبناء المنطقة ونهب البيوت.

لكن على الفور قامت جهات عديدة بمهاجمة الإتفاق، لا سيما ذات النزوع القومي- الطائفي مثل "جبهة تحرير الفرات والجزيرة" التي يقودها السيد نواف راغب البشير المدعوم من تركيا، والذي يضمر بعض رواسب النزاعات القبلية التي تعود للخمسينات بين عشيرته- البكارة- وبعض العشائر الكردية. ولم يعد يخفي السيد نواف البشير ميوله المعادية للأكراد. إلا أن المفاجأة كانت حين هاجم الجنرال سليم إدريس، رئيس أركان "الجيش الحر" التابع للإئتلاف الوطني الاتفاقية واعتبرها لاغية. من هنا لا أظن أن الصراع انتهى. إذ قد يتجدد بأشكال أخرى وفي منطقة أخرى.

م.د: في البيت الداخلي الكردي هناك طرفان أساسيان: المجلس الوطني الكردي المدعوم من أربيل ويحظى بشرعية دولية وعلاقات دولية مقبولة مقابل ضعف سيطرته على الأرض، والاتحاد الديمقراطي المدعوم من حزب العمال الكردستاني في جبال قنديل والمفتقد لشرعية وغطاء دولي في حين لكنه يمسك بالأرض. هل ترى أن الاتفاق الذي وقعه الطرفان في أربيل وأسفر عن تأسيس "الهيئة الكردية العليا" هو اتفاق حقيقي، أم أنه اتفاق هش أو "زواج مصلحة" ولا يمكن التعويل عليه؟

ب.ع: الاتفاق بين الطرفين الكرديين جاء من أجل تطويق مخاطر حرب كردية-كردية ، حيث بلغت الرغبة لدى الطرف المهيمين على الأرض إلى إقصاء غيرهم بالعنف وفرض هيمنتهم القسرية بطريقة هستريائية، وممنهجة. إنه اتفاق أمر واقع وتجنباً لإراقة الدماء. خلاصة الاتفاق هو أن حزب الاتحاد الديمقراطي استطاع انتزاع الاعتراف الرسمي بكونه "الحزب القائد" عملياً، وهو كان مستعداً لإشعال حرب أهلية كردية من أجل تحقيق هذا الاعتراف، في مقابل إزاحة شبح الاقتتال الكردي- الكردي بعض الشيء. من هذه الزاوية المهمة نال تشكيل "الهيئة الكردية العليا" ارتياحاً كبيراً في الوسط الكردي، رغم الملاحظات العديدة. فالمسؤولية الوطنية والقومية اقتضت تنازلاً سياسياً من قبل الأطراف الكردية تجاه حزب الاتحاد الديمقراطي في هذه المرحلة الحساسة والحرجة.

م.د: من المعلوم أن إقليم كردستان برئاسة مسعود البرزاني يدرب جنودا أكراد انشقوا عن الجيش السوري، وهناك من يقول أن تدريب هذه الفرقة العسكرية يأتي في إطار إعداد ذراع عسكرية للمجلس الوطني الكردي لمواجهة حزب الاتحاد الديمقراطي الذي يسيطر على الأرض. ما رأيك؟

ب.ع: حسب معلوماتي هي قوة عسكرية قليلة العدد مؤلفة من الجنود السوريين المنشقّين من الرتب الدنيا والمطلوبين للخدمة العسكرية، إذ لا يوجد أكراد برتب عالية في الجيش السوري، لكن بسبب الضجة الإعلامية التي أثيرت، يتوقع المرء أنه جيش كبير كأيّ جيش نظامي.

السيد مسعود بارزاني، رئيس إقليم كردستان العراق، لم يعرض على المجلس وطني الكردي تبني تلك القوة العسكرية الموجودة في كردستان العراق ولم يعرض إرسالها إلى سورية في أي لقاء مع قيادات المجلس في أربيل، حسبما سمعنا. لكن بالطبع، فور تداول الخبر حول إحتمال عودة الجنود المنشقين المتدربين في كردستان العراق إلى مناطقهم في سوريا، أعلنت قيادات الاتحاد الديمقراطي علناً رفضهم لقدومهم وعدم السماح بدخولهم، والتهديد بمقاومتهم أيضاً بحجة أنّ هذا الأمر سيكون سبباً لاقتتال داخلي كردي. و في هذا هم يتكلمون صحيحاً. إذ لا يمكن أن يرضى "الحزب القائد" بأي شيء يحد من نفوذه، ولو كلف ذلك اقتتالاً كردياً كردياً.
بغياب مركز قرار سياسي كردي موحّد هناك خطر كبير بالفعل من وجود قوتين مسلّحتين مختلفتين في نفس المنطقة.

م.د: بالإطار الأوسع، أي بما يتعلق بسوريا ككل، نقرأ لك انتقادات حادة أحياناً للمعارضة "الراديكاليّة" كما تسميّها. برأيك أين أخطأت المعارضة السورية في تعاملها مع الانتفاضة السورية؟

ب.ع: مع أنه أصبح النقاش حول هذا الموضوع بلا فائدة عمليّة بعد حصول ما حصل وخراب البلد، لكن للتوثيق والتاريخ فقط، يمكن القول أن الخطأ الجوهري الأساسي كان منذ الأسابيع أو الشهور الأولى للانتفاضة. أما الآن فلم يعد بمقدور أحد السيطرة على الوقائع على الأرض، بعد أن أصبح البلد كله مستنقعاً من الدماء و الدمار، وخرج الأمر من سيطرة المعارضة السياسية نفسها. بدون الدخول في التفاصيل أقول: أخفقت المعارضة السورية التقليدية والجديدة في تقدير قوّة النظام السوري و تماسكه، وبالتالي وقوعها في فخّ "الوهم البصريّ" الذي أشاعته الميديا من خلال نمذجة انتفاضتي تونس ومصر عربيّاً؛ أي أن كلّ نظام عربي يلزمه بضعة أسابيع ليسقط. هذا قبل أن تتحوّل بعض الفضائيات العربية المعروفة إلى منبر للمعارضة السورية الراديكالية، التي كانت تدفع الشباب المتحمس والثوار في الداخل إلى مزيد من الحماس، بل إلى التهوّر، وتقوم بتزيين ذهاب زهرة شباب سوريا إلى دورة العنف الجهنميّ و"محرقة" النظام. كما أخفقت المعارضة في البناء على شيء مهم وأساسي تحقّق فعلاً بعد انتفاضتي تونس ومصر هو عودة السوريين إلى السياسة والشأن العام. الأمر الذي غيّب لعقود في "سوريا الأسد".

كانت هذه فرصة تاريخية لا تعوّض ومكسباً كبيراً بالنسبة لشعب كالشعب السوري غيّب عن السياسة والشأن العام تحت حكم ديكتاتورية شنيعة. بيد أن المعارضة الراديكالية ولأسباب مختلفة أحياناً (الإخوان المسلمين في الخارج، الذين وجدوا أنفسهم أمام فرصة مؤاتية للانتقام من النظام، و النشطاء السياسيين، من المعتقلين السابقين الذين ذاقوا الويلات في سجون النظام ،من بعض التنظيمات اليسارية والقومية، وبعض الشباب المتحمّس قليل الخبرة السياسية) وجدت في ذلك فرصة للذهاب إلى أقصى المطالب فوراً ظناً أنه "أقصر السبل". من هنا تفرّعت كلّ المشكلات برأيي.

لا أغفل أننا لسنا في لعبة شطرنج، نختار ما نشاء من خطط وحركات. ونهمل أشياء أخرى، ولسنا في شروط صحيّة تسمح لنا بالتفكير البارد، ولا الواقع يسير بناء على تفكيرنا وبرامجنا. غير أنه كان للحسابات الدقيقة والمدروسة في بداية الانتفاضة أن تنقذ السورييّن من هذه الكارثة الإنسانية التي يعيشونها منذ سنتين، أو تقلّل من حجمها وعمقها. لا ننسى بالطبع أن رعونة النظام ووحشيّته اللامحدودة تتحمل المسؤولية الكبرى عما جرى وما سيجري لاحقاً. ليس من خلاف كبير حول تشخيص النظام، كونه أكبر عصابة منظّمة ومسلّحة ومستولية على مقدرات البلد. الخلاف هو حول سبل المواجهة و الحلول، والخسارة والربح. وأصارحك أنني لا أعرف شيئاً في العالم يستحق كل هذه التضحيات العظيمة بما فيها "الديمقراطية". لا شيء خلف التلّة. "الانتخابات الحرّة" ليست شيئاً عظيماً، بعد خراب البلد.

م. د: كيف تقرأ المستقبل السوري إذن؟

ب.ع: ليس مبشّراً على أية حال، حتى وفق أكثر السيناريوهات تفاؤلاً، إن بقي هناك متفائلون أو سيناريوهات لحلول قريبة. ليس هناك حل سياسي متوقّع للاستعصاء السوري الدموي. ولا حسماً عسكرياً قريباً. برغم رفع درجة التمويل العسكري للجماعات المقاتلة، في الآونة الأخيرة، بدرجة غير كافية للحسم. ولا ترضى أميركا بحسم سريع. بل نتوقع اشتداد ضراوة المعارك وازدياد منسوب العنف وضحاياه.

وهذه ليست مهمة أميركا ولا أوربا على أية حال. ولا يمكن لومهم أيضاً، إذ ليس من مهمة الأميركان وغيرهم إحصاء عدد القتلى السوريين. هناك أشياء واقعيّة أهم بكثير: أمن إسرائيل، خطوط الطاقة في الشرق الأوسط، الاقتصاد الأميركي، إيران وملفها النووي، التنظيمات الجهادية المعادية لها، الخ…

كان أكثر المتشائمين، مثلي، يقول أن النظام السوري لن يسقط إلا بسقوط الدولة بأكملها معه. الآن نحن أمام حالة رهيبة وأشد خطورة: انهيار الدولة وبقاء السلطة! حتى في المناطق المحرّرة (الأدق أن نقول مناطق منكوبة) والتي تغيب فيها الدولة تماماً بأبسط أركانها (ماء، خبز، كهرباء، وقود) هناك "حضور" ما للسلطة بشكل متقطع: صواريخ السكود وطائرات الميغ بين الفينة والأخرى!
أن نقترب من سقوط السلطة الحاكمة لا يعني أن أهداف الثورة قد تحقّقت. فور سقوطها (لا أدري متى) سوف يتعيّن على السوريين إعادة بناء الدولة نفسها، ولملمة أشلاء المجتمع المحطّم، ولن يكون الأمر سهلاً في أي حال من الأحوال. بعد ذلك يمكن الحديث عن إمكان (فقط إمكان) تحقيق الديمقراطية، والحريات والعدالة وحكم القانون ودولة المؤسسات.
وفي ظني أن لحظة سقوط بشار الأسد وسلطته الفاشيّة لن تجلب للسوريين تلك السعادة المتوقعة، بمن فيهم من ضحّى أكثر وفقد أعزّاء من أسرته أو شرّد من بيته على يد هذه السلطة. هي لحظة عابرة وسنفتح أعيننا جميعاً على خرابٍ عميم، وسيتساءل كثيرون: أمن أجل هذا قُتِل أولادنا، وهُجّرنا وشُرّدنا ودمّرت بيوتنا؟.

*بدرخان علي: اسمه الأصلي "آزاد علي"، كاتب وباحث سياسي سوري، من مواليد مدينة القامشلي 1978. درس في جامعة حلب، كلية الطب البشري، وتخرج عام 2004، ومقيم منذ العام 2010 في السعودية. يكتب بدرخان علي في صحف كردية وعربية عديدة حول الشأن الكردي و السوري وقضايا فكريّة تتعلّق بالعلمانيّة والديمقراطيّة. شارك في الكتابة في أول المواقع الكردية في سوريا "موقع عامودا"، وفي العام 2005 انضم لأسرة تحرير مجلة "الحوار"، وهي فصلية ثقافية كردية تصدر باللغة العربية تهتم بالشؤون الكردية وتهدف إلى تنشيط الحوار العربي الكردي، تطبع وتوزع سرّاً منذ عام 1993. يقوم حالياً بإعداد كتاب عن المسألة الكردية في سوريا، يتضمن سجالات مع مثقفين وسياسيين عرب وكرد.


[ نشر الحوار في موقع "مراسلون" Correspondents.org وتعيد “جدلية” نشره]‬
‫ ‬