يقول غاستون باشلار:"...كيف للبالغين أن يُظهروا لنا العالم الذي أضاعوه؟ إنّهم يعرفون، يظنّون أنّهم يعرفون... يبرهنون للطفل أنّ الأرض مستديرة، وأنّها تدور حول الشمس. أيّها الطفل الحالم المسكين، كم يجب ألّا تسمع! أيّ إنقاذ لحلم يقظتك حين تغادر الصفّ كي تصعد التلّة ثانية، تلّتك!" حسناً، وماذا لو خرج الطفل من المدرسة، وقد شبّ الآن، قاصداً صعود تلّته فيجدها مسكونة بالأعداء؟! والأعداء هم البطريركية الذكوريّة، والحكومات الديكتاتوريّة الفاسدة، والموت! هذا ما تحكيه الكاتبة فدوى العبّود في قصص "تلّة يسكنها الأعداء"، الصادرة عن خطوط وظلال، الأردن 2022.
تتخذ القاصّة مكانها السردي على تلك التلّة، تبني بيوتها القصصيّة/ النصّيّة في تجاور، وسمتها بـ(نصوص متجاورة)، فيها يتجاور الأدب والفلسفة والتحليل النفسيّ، الواقع والخيال والأحلام، الغفلة واليقظة، الاستلاب والتمرّد، الرجل والمرأة، الطفولة والشباب، الماضي والحاضر/الحرب السوريّة، الجمال والقبح، الخير والشرّ، الحياة والموت. كما وسمتها بـ (قصّ) قصّ متحرّر من (أل) التعريف، تأكيداً لرؤية كثير من كتّاب القصّة القصيرة ونقّادها التي تجمع على أنّ هذا الفنّ عصيّ على الثبات في شكل فنيّ محدّد وقارّ، وعلى حدّ تعبير القاصّ والناقد محمد خضير: "إنّ الحكاية البليغة وسيلة لتفكيك الأشياء من زاوية ومستوى كانا مجهولين لنا من قبل، وإنّ لكلّ حكاية قانونها الخاصّ، كما لكلّ لعبة قاعدتها الخاصّة، وعن ذلك تطوّر قانون القصّة القصيرة."
توحّد فدوى نصوصها المتجاورة هذه، بظاهر معماريّ نحتته وزيّنته بمختلف تقنيّات السرد القصصيّ الحداثيّة، وما بعد الحداثيّة/الميتا سرد. فثمّة طغيان (أنا) الساردة المتفرّد وفي حضور مزدوج: شخصيّة قصصيّة وكاتبة لهذه القصص تصرّح عن نيّتها في كتابتها، تخاطب شخصيّاتها والقارئ، ليتداخل الذاتي بالقصصيّ ويتشابكان في جماليّة سرديّة بديعة. وثمّة الخيال المجنّح الشعريّ، الفنتازيا دائماً، الرمزيّة، الحلم، والعودة إلى الطفولة من منظور راهن الساردة الناضجة، بروز النسويّة، وجدليّة الخارج والداخل، السخرية، شعريّة الفضاءات واللغة، المشاهد السينمائيّة والمسرحيّة والتشكيليّة، والحكاية الشعبيّة، الإسقاط والاقتباس، والتناصّ بنوعيه الخارجيّ والداخليّ، فالخارجي يستند إلى ذكر مقولات أدبيّة لكتّاب آخرين تدعم مقولات هذه النصوص، أمّا الداخلي، فيتجلّى في اقتباس عبارات وأحداث عن النصوص هذه ذاتها كتبتها القاصّة، لاستخدامها في سياقات سرديّة أخرى، ويتباين كلا التناصّين ظاهريّاً في تعالقهما وتداخلهما، ويتوحّدان في عمقهما الفكريّ والفلسفيّ. بحذاقة فنيّة قديرة خلطت فدوى الفلسفي والفكري والمعرفي بالحكائي في ابتكار وإدهاش، لتوضح تصويرها للواقع أفقيّاً وعموديّاً، واقع التلّة/المدينة الكافكاويّة حيث يُغرس في نفوس أفرادها الشعور بأنهم حشرات، وتحوّلهم إلى مسوخ! فشدّة قسوة الواقع المريعة تقود المرء للهذيان والانفصام أو للجنون، غير مصدّق أنّ ما يحدث يحدث فعلاً، بل: "لا بدّ أنّه حلم!" تارة، وتارة أخرى تنفي الحقيقة المرعبة الشكّ، فتحضر السخرية آليّة دفاعيّة؛ فـ" يا له من حلم!" و: "من يريد أن يفهم عليه أن يدفع الثمن." ثمن دفعه كثيرون عبر الزمن، رجالاً ونساءً، فحكم عليهم بالموت أو بالموات! تناصّ وفير يؤكّد استمراريّة عبث مجابهة الشرّ المسيطر أبداً، ومحاربته كمحاربة طواحين الهواء!
يدلّ التناصّ أيضاً إلى عبثيّة الحياة بالمطلق، لطالما السيّد هو الموت. والحياة تمضي بلمح البصر، فالساردة في أحد النصوص، طفلة لم تكن أنهت كتابة موضوعها المدرسيّ بعد، حتّى وجدت نفسها أمّاً تقف أمام القاضي تنتظر إطلاق سراح ابنها المعتقل! فأيّ زمن طويل تحتاجه الساردة لتجيد الابتعاد عن الأمكنة الخطأ حيث تجد نفسها دوماً، منذ طفولتها ويفاعتها حتّى شبابها وتجد الإجابات والتبريرات! بينما الأمكنة كلّها في الحقيقة، بحسب فدوى، هي: "غرفة عزاء كبيرة. في الغرفة يتحدّث الجميع، يثرثرون بسرعة مفرطة، قبل أن يرفع الموت يده، ويشير نحو أحدهم." وأحياناً يغبّش الشكّ عينيّ الساردة/الكاتبة: "هذه غرفة أم قبر أم نصّ كتبته وسُجنت فيه...في النهاية كلّها سواء." ثمّة أمكنة خطأ دائماً، والسؤال نفسه يجابه الساردة وعليها تبريره: "ماذا تفعلين هنا؟" ما يذكّرنا بانتظار غودو بيكيت! ورغم ذلك، تنطلق دوماً صوبها، مثل روثينانتا حصان دون كيشوت الهزيل لا ينطلق سريعاً إلّا في الدروب المؤدّية إلى الهاوية!:" هذا ما يجعلكِ الضلع الثالث دائماً في أيّة حكاية، الثالوث المقدّس(الأب والابن والروح القدس)، ولكن من يريد الروح!...الروح ليست من اهتمامات الحياة." أمّا في الحرب حيث: "لا يعود الزمن نفسه بعد كلّ قتل." فيتحوّل الثالوث المقدّس إلى: "قاتل، مقتول، ناج." ما يعني مواصلة الساردة البحث عن تبريرات لوجودها، ولإقناع الحياة بأنّها جديرة بها، عبثاً! حتّى ظنّت أنّها ستجد التبرير في الموت، إنّما عنده يباغتها السؤال ذاته: "ماذا تفعلين هنا؟!" لتصل إلى أنّ: "الوجود يعيد تدوير نفسه عبر بضع كلمات." إنّما ثمّة هدف وُجدت لأجله: "ولكن ما هو الهدف؟ وكيف تصوّبين سهم روحك إليه؟" وللوجود إغواء الكمائن: "في لحظة ما يكون الوجود منصتاً باهتمام، يعلق الوجود في كلمة تلفّظ بها أحدهم، وبأذنه الكبيرة يتلقّف الكلمة ويكرّرها مثل قضاء وقدر، عبارة أو نبوءة أو شتيمة طائشة." وفي الحياة ثمّة مغريات عديدة كالأفخاخ، مثل مساحة من الأرض موعودة بحديقة جميلة، لكنّها تؤول إلى مكبّ للنفايات ثمّ إلى مكبّ للجثث!
وما إن ندخل بيوت/نصوص التلّة حتّى تفاجئنا دهاليز وأروقة، غرف وعليّات وأقبية، أبواب ونوافذ للإضاءة على عتمة الواقع وعبثيّة الوجود، ثمّ أرضيّة واحدة مشغولة بفسيفسائيّة مبهرة، عبرها تتصل البيوت النصّيّة، تتداخل وتتشابك في متوالية سرديّة، لنكتشف أنّها نصّ واحد! وأن العناوين الفاصلة بين القصص المختلفة مخاتلة؛ هي عبارات اعتراضيّة توضّح وتلمّح وتتخلّل الاستطراد الهذيانيّ الفنتازيّ الدافق، يجدها القارئ فرصة لالتقاط أنفاسه اللاهثة، قبل معاودة الغوص في الحكايات، ثمّ في إعادة القراءة ليضمن اكتمال رؤيته لهذا البيت الزاخر بالتحف، تأسره غواية السرد الفاتنة، وبذخ الفنتازيا والتخييل المذهليْن، ومتعة الاكتشاف الثرّ، يجذبه التشويق المغاير، إذ لا حبكة تقليديّة في هذا النصّ أو ذاك، ولا تراتبيّة لأحداث السرد المعهود، إنّما يكمن التشويق في الوعد بالحصول دوماً على الوجبات الفنيّة وهي تتدفّق بالحكايات تباعاً، دسمة شهيّة، تجرّ فضول قارئها النهم، ولعلّه مثلها يبحث عن طريق للخروج من متاهته هو الآخر، يركض معها في طرقات غير آمنة، فللطرق: "أساليبها في المكر بالسائرين، فكم من طريق يغري بالضياع فيه." ويتحمّل راغباً الزوابع الباردة الزرقاء المرعبة القادمة كلّ حين، فتخاطبه الساردة كشريك: "تمسّك بي جيّداً...اعذرني لأنّني ورّطتك معي!" فوسط هذا الدمار اللا أخلاقي واللا إنساني ما من طريق أو خلاص! ولو انبعث "امبدوكليس"، الفيلسوف اليوناني المجنون، من رماده، وأعاد حرق نفسه مئات المرّات فلن يستطيع تطهير هذا العالم شنيع القسوة، وتبديد ديجوره المرعب!
على التلّة مدرسة الساردة: "على الحائط الخشن رسمنا قلوب الحبّ. أبحث عن الرسوم التي طمستها الكتابات البذيئة وصور القتلى وبقع الدم." ثمّة أيضاً حديقة واحدة، موعودة بأن تصير ملعباً للأطفال: "تتحوّل إلى مكبّ للنفايات، وفي الحرب للجثث، ليس أوّلها ولا آخرها والدي وأخي الذين عثرنا عليهما في أعماقها." هي حديقة في الوطن الذي متى سُئلتْ عنه: "سال الدم من فمي." كان عليها أن تعرفه جيّداً لتعرف كتابة موضوع التعبير المدرسيّ عنه، فمكث هو والعلم، العلم الذي لا تني الريح تعصف به حتّى طمست ألوانه، فلا يهدأ حتّى تستطيع رسمه، مكثا على قصاصات ورقيّة هائلة تعلن فشلها!
تكتظّ جدران الغرف النصيّة بالصور تؤطّرها فلسفة العبث، وتختلف في مضامينها، فيها يبرز الحاضر والماضي ويتداخلان، في فضاءات فنتازيّة ونقلات سردية حدثيّة وزمكانيّة رشيقة مدهشة، وهذيانيّة فنتازيّة مؤثّرة توازي لا معقوليّة قسوة الواقع، وعبثيّة الحياة! "لا فائدة." قالت إحدى العجائز مرّة للساردة! في طفولتها لم تعرف الساردة معنى السعادة العائليّة إلّا من خلال رسومات لشخصيّات عائلة رباب وباسم، في كتاب القراءة المدرسيّ! ستسأل رباب ذاتها وهي تلوّح بجديلتها:" عمّا يحدث هناك؟" هناك التلاميذ يتمدّدون: "وهم ينزفون، والشوارع يملأها الأنين... صوت تقطّع شرايين، وأنين حادّ، ودماء على جدران الصفّ."
تعويضاً عن عجزه في تأمين حياة كريمة لأطفاله، يدخلهم الأب في أحلام اليقظة خاصّـته! فخلال انقطاع الكهرباء، وخروج الأمّ المتذمّرة دوماً: "يصفّق بيديه: هيّا يا شباب، فلماذا مُنحنا الخيال إذاً؟" ويبدأ بعرض "أفلام خياله" على الجدار: "فنشاهد ونسمع، كما لو أنّنا في عرض سينمائي... إنّما أحياناً تجري تنويعات بسيطة، ولكن سواء توقّفنا على بستان لوز أو غابة سرو، أو أيّ مكان، فسينتهي بنا الأمر بتقليب أسياخ اللحم والأكل بنهم إلى أن ننقلب فنجد أنفسنا فوق البطانيّات وأمامنا كأس شاي وخبز جافّ." أب لا يكلّ أو يملّ من أحلام اليقظة حتّى التصقت به سمكة همنغواي، ليكتشف فيما بعد أن موته؛ قتلته الحرب: "كان أمراً سهلاً، هو أقلّ ألماً من جرّ سمكة حياتي."
رغم بؤس بيت الساردة، إنّما هو البيت الذي تحبّ، وبحسب باشلار هو: "جذر المكان الذي تشكّل فيه خيالنا ومارسنا فيه أحلام اليقظة، فالحياة تبدأ بداية جيّدة، مسيّجة محميّة في صدر البيت." واليوم، وحياة الساردة، أصلاً، لم تبدأ بداية جيّدة: "اختفت أمسيات الجدار، والصورة الثلاثيّة، وتبعتها حسابات مرهقة... تثبت أن طريق الوهم أسلم وآمن من طريق الواقع." لقد دمّرت الحرب البيت!
ثمّة أيضاً جدران المؤسسات الرسميّة الرماديّة مثل لون جدران المعتقلات، جدران بمرايا مسنّنة الحوافّ، فالقمع السلطويّ يلغي مهمّة المرايا الأساسيّة في كشف الحقائق، يلغي كلّ ما يهدّد وجوده، فيصيّرها أداة للسحق عقوبةً حتّى لمجرّد التذمّر من الفساد الإداري الصفيق! ففي أحد المكاتب الرسميّة تكابد الساردة طقوس الفساد ذاتها التي تمارسها لجنة صنع الله إبراهيم، دون أيّ رادع قانونيّ أو أخلاقي وإنسانيّ، وفي شتّى الظروف، كقدوم التتار، في نصّ فدوى! ستُطرَد الساردة من طابور الانتظار مع عدم الموافقة لها بطلب إجازة لإنجاز كتابها! لم تحتجّ أو تتذمّر، تعلّمت جيّداً من سميث؛ جورج أورويل، ضرورة الكتمان: "حين يتعلّق الأمر بالأفكار السيّئة." أمّا دون كيشوت الذي كان يقف في الطابور، فيصرّ على محاربة الشرّ، ولا يجوز القبول به بتاتاً، فأُلقي به إلى إحدى المرايا المسنّنة! فهل تنفع النصيحة بأنّه يجب: "قبول الأمر!" تبعاً لنصيحة الساردة، والخيّاط لدروغو بوتزاتي، والمنتحر كافكا في المحاكمة؟!
خلال خروجها من المؤسّسة، تنتبه الساردة إلى أنّها تعتمر قبعة قصديريّة وتحمل سيفاً خشبيّاً! بلى، بالكتابة ستحارب طواحين الهواء!: "يداكِ في جيب معطفك وتفكّرين بالكتابة... تفكّرين في ترتيب الأحرف الأبجديّة من جديد فوق ثلوج حياتك! هل تفكّرين حقّاً بخلاص أخير غير الكتابة!؟ تريد فيما تريد أن تردّ لبنات شهرزاد والحفيدات المعنّفات أو المقتولات، حقّهنّ بامتلاك أنوثتهنّ، واسترداد شرف إنسانيتهنّ وكرامتهنّ، وقد بات قتلهنّ مثل فيلم "دعاء الكروان": "كلّ يوم يُعاد!" والساردة هي الأخرى صمتت خوفاً مثل صديقة هنادي المقتولة في الفيلم/ الرواية! وقد عرفت بقتل صديقتها سهام على يد أبيها الذي أرادها :"ضدّ الرغبة. امرأة فوق الرغبة. امرأة لا تنكسر." ربتوا على كتف الأب وصار بيته محجّاً! قتلَ ابنته لغسل عارها بالفأس؛ السلاح البدائيّ مديد الصلاحيّة مدد الاستبداد الذكوريّ.
مناهضة للذكور القتلة وعشّاق الحروب وصنّاعها، وللظلم في تجلياته المختلفة، وإعلاء صرخات ضحاياهم المسحوقة، تحدث الكتابة. وأيضاً إثباتاً لأمّها المتوفّاة التي لم تترك لها: "غير آلة خياطة وبضع لفائف صوف." رمزيّة لتبنّي النساء الثقافة البطريركيّة. فهي الأنثى المختلفة الواعية المثقّفة، ستكتب أشعاراً، فلن تنتحر أو تَقتُل أحداً، لن تكون قاسية أو مهزومة كما أرادوا لها. تقول: "سأقف فوق المنصّة وألقي خطبة الحياة." فثمّة أمر جيّد أحدثته الحرب، وهو أنّ الشارع الترابي، رمزيّة لرفض التغيير والتطوّر، حيث كبرت "المرأة التي تميل نحو الأرض" كامرأة دعد حدّاد، يثقلها الإرث المجتمعيّ المرعب وكوابيسه. ذاك الشارع محته الحرب عن الخريطة:" محاه الجنود بمن فيه، وحسناً فعلوا." فالمرأة يجب ألّا تعود إلى ما كانت عليه قبل الحرب! قياساً على قول الساردة: "لا يعود الزمن هو نفسه بعد كلّ قتل." وعلى النساء أن يقفن كالأشجار قويّات مثمرات، وارفات الحنان والرقّة، خالصات من أدران الاستبداد الذكوري وثقافته الشموليّة الاستعماريّة المديدة، وقد تقمّصنها لا شعوريّاً في خضمّ استلابهنّ المزمن، تجهيلهنّ، قمعهنّ وقتلهنّ، وتمثّلنها كمقدّس يستوجب التكريس، يحاكين الذكور في القسوة واضطهاد بنات جنسهنّ على وجه خاصّ، مثل الجدّة لدى فدوى، ونساء ديكنز، وجدّة إيرينديرا ماركيز! عادلة هي فدوى العبّود في تأكيدها على أنّ الأبويّة تفسد الجميع وتقتلهم، رجالاً ونساءً!
للمراهقة، التي "تفسد هي الأخرى كلّ شيء أحياناً...هي حمّى الزمن هذه التي في الحياة الإنسانيّة." تبعاً لباشلار، حكاية: فقد طالت هذه الحمّى الساردة، فتخرج ذات ليل، لتجلب سكيناً وملحاً لوالدها ليأكل البصلة الوحيدة في صحنه. يفصل المطبخ عن البيت ممرّ قصير، تمشي فيه، ومثل مسرنمة، تتجاوزه بعيداً، للقاء حبيبها الذي غدر بها واستباح كرامتها وسلخ عنها وجهها! لتكبر في عارها إلى أن تكتشف أنّه: "لم يكن سوى تدريب على عار أكبر!" ففي الحرب: "الناجي يحمل عار الوجود... وجوده لخطأ الرصاصة في إصابته." وعار فساد الحكومات المتسلّطة، وعار المحاكمات الأبويّة.
حالمة ويقظة، حيّة وميتة، تتذكّر الساردة وتتأمّل، تفكّر وتكتب، وتبعات الحرب نصب عينيها، لتدخل (أنا) خاصّتها، والـ(أنتِ) كما لو أنّها منفصمة، في حالة هذيان سرديّ! تخاطب الـ(أنتم)؛ القرّاء المتورّطون، ليصبروا ويتبصّروا في فضاءات اللوبان الأليم للعثور على إجابات وتبريرات، وليتحمّلوا انحباس أنفاسهم وسط هذه الهذيانات السرديّة التي لا تكاد تخبو قليلاً حتّى يشتدّ أوارها مجدّداً؛ حين تضيّع الساردة الطريق إلى البيت، أو تكتشف الاختلال الوجوديّ، أو في مصادفتها رجالٍ انتهت الحرب بالنسبة لهم، يسبحون فرحين في نهر أحمر، عيون بعضهم مفقوءة، ويتحرّشون بالنساء! أو حين تحاصرها الوعول المحنّطة/ القتلى العائدين للاعتراف أو لمحاكمتها على صمتها خوفاً، المساهم في استمراريّة هذا اليباب، ولمطالبتها بالكتابة عنهم! أو حين تتمدّد جثّة جانب جثّة قاتلها في القبر. لقد أخطأت رصاصته الأخيرة الهدف/طفلتها! رمزيّة لاجتثاث الحربِ مستقبل البلاد، لتقتل الأمّ/ الحاضنة لبذور المستقبل وراعيتها! جثتان لقاتل وضحيّته يتجاوران ويتحاوران، يخفّف عطشهما ماء ترويهما به ابنتها الطفلة معاً! بينما يستثني الزوّار الكبارُ القتلة من الماء، هم لا يغفرون! ليبق الأمل في الأطفال ومائهم البريء، يصبّونه على قبور الجميع، لإحلال المغفرة والنسيان في قادم الزمن.
"تبدو الأمور كلّها كما لو أنّها تجري في الأحلام!" تقول الساردة، والأحلام "لا يجب أن تكون ظالمة." فهي: "آخر شيء يمكن أن تشبه الحياة!" هي "أرض آمنة." و "أرض جيّدة لاستعادة المفقودات." فهل الأحلام آليّة دفاعيّة ضدّ ما يهدّد الوجود؟ أمْ أنّها تأكيد على اللا جدوى؟!
في النهاية، تعود الساردة الشابّة، "البكّاءة" في طفولتها، إلى مدرستها، حيث ما تزال قصاصاتها الورقيّة منتهية الصلاحيّة تتراكم، تعود لا لتصحيح الأخطاء، بل للدعوة إلى الضحك، لا للفكاهة كآلية دفاعيّة لمواجهة الخطر، إنّما للسخرية البحتة، السخرية أفضل ما يمكن فعله إزاء هذا اليباب الرهيب!
فلنضحك إذاً!