عام 1974 وعلى أسطوانة غراموفون، انتشرت في مدينته وهران، أولى أغنيات الشاب خالد، "طريق الليسي"، وهي أغنية تليق كلماتها بفتى في الرابعة عشرة، يروي تحدياته العاطفية في انتظار فتاة على باب المدرسة، جاءت بقالب راي كلاسيكي جذاب بالنسبة إلى الفترة تلك، ومنحته بطاقة لعبور الطريق، ليس طريق الليسي، بل طريق الراي، أكثر الألوان الغنائية شيوعا في الجزائر، هكذا بدأ الشاب خالد مسيرته شابا فعلا، بيد أن كلمة شاب شاعت في الثمانينيات أكثر كلصيقة لأسماء مغنّي الراي، بعد مسابقة أطلقها التلفزيون الجزائري، منحت لقب "شاب" لكل فائز.
بعد 46 عاما، أي في العام 2020، وبالتزامن مع إطلاقه أغنية "دلالي"، حذف الشاب خالد كلمة "شاب" من اسمه، تمهيدا لإطلاق ألبومه الجديد، ربما اعتقادا منه بأن الزمن سرق منه اللقب، بعد أن بلغ الستين من عمره، فهل بلغ التصالح بين خالد وذاته هذا الحد؟ أم أنه تخلٍّ منطقي عن هذه الكلمة التي لم تعد قادرة على الاستقامة إلى جانب لقب زحف إليه عبر سنين من العمل، وهو لقب " ملك الراي"؟
وربما بسبب تداعيات جائحة كورونا، تأجل صدور الألبوم الموعود حتى آب 2022، لتتم بذلك عشر سنوات بينه وبين الألبوم السابق "هذه هي الحياة"، فجاء الألبوم الجديد مغايرا للخطة التي اتبعها خالد منذ انطلاقه مغنيا مجددا للراي، ومشتبكا مع ألوان مجاورة أو بعيدة.
تغيير الخطة
في الأغنية التمهيدية "دلالي"، التي جمعت بينه وبين "غاشي" اتبع خالد أسلوبا اعتياديا في المغامرة باتجاه المستقبل الموسيقي، إذ اعتمد إيقاعات غربية، ومقاطع غناء إنجليزية، بالإضافة إلى العربية الجزائرية، المزج الموسيقي جاء أيضا معاصرا وفريدا، إذ قدم صوت خالد بصبغة جديدة، منحته جِدة عبرت عن شغف قديم بالتجريب، لكن الخطة تلك أضرت على ما يبدو بالألبوم، الذي جاء بالاتجاه المعاكس، فبعد لمسة Red One، الموزع والملحن المغربي العالمي في ألبوم "هذه هي الحياة"، التي أكسبت خالد جمهورا جديدا من الشباب أضيف إلى جمهوره الواسع حول العالم، عبر استخدام النهج الإلكتروني في الموسيقى، عاد خالد بعكس الزمن إلى توزيعات تكاد تقترب من فترة التسعينيات أيما اقتراب، وهو ما يمكن تفسيره على أنه تربيت على أكتاف الجيل إكس، الذي يمتد من مواليد الستينيات إلى الثمانينيات، ممن شهدوا فترة التحول الموسيقي منذ مطالع التسعينيات حتى انفجار الألفية الجديدة، ففي أغنية “My Love” يتضح الجنوح إلى هذا اللون عبر إيقاع كراتشي المعد إلكترونيا، وعبر أسلوب المزج والماسترينغ، بالإضافة إلى اللازمات الصوتية (Vocals) المرافقة للفواصل الموسيقية في الخلفية، ما يحيل إلى أغنيات سوزان تميم وإلين خلف مطلع الألفية، وهو ما كان توزيعا ثوريا آنئذ، ولكن للحق فإن خالد يقدمه في هذه الأغنية على نحو فيه جِدة، قد تثير لدى الجيل المذكور حنينا، على أن الألبوم ألحّ على هذه المسألة في عدة أماكن، وتنازل عن سلطة الراي لمصلحة ألوان فنية جديدة بالنسبة إلى أعماله، لكنها في معظمها ألوان مكرسة على المستوى العالمي، فكأن النجم الكبير يدرك اليوم اتساع رقعة جمهوره، فيذهب إليه عوض أن ينتظره في الجزائر، أو في دائرة المجتمع الجزائري في فرنسا، هذه المغامرة واحدة من سمات خالد، لكنها في آخر الأمر مغامرة، ويجب أن يدرك خالد أنها قد تكون مكلفة، فهي بطريقة أو أخرى محاولة للقول إن الألبوم ليس موجها للمستمع الجزائري، أو المغاربي، أو حتى العربي وحده، إنما موجه لجمهور أوسع.
رحلة عالمية
الثيمة البصرية للألبوم هي رحلة عالمية، فالبوستر عبارة عن طابع بريد باللون الأخضر، إشارة إلى العلم الجزائري، حيث تنطلق الرحلة، ويحمل الطابع صورة خالد، مكتوب على قوسها العلوي اسم الألبوم "الشاب خالد" بالفرنسية، وهي المرة الثانية التي يستخدم فيها ملك الراي هذا العنوان لألبوم من ألبوماته، وعلى قوسها السفلي مكتوب منذ 1960 بالإنجليزية، وهو تاريخ ميلاده.
في الفيديو المتحرك للأغنية الأولى "طريق الليسي" ينطلق خط الرحلة من الجزائر، مكان انطلاقه، وقد أعاد تسجيلها بصوته الجديد الواثق، بعد مرور حوالي 50 عاما على نسختها الأولى بصوت الفتى المتحمس للشهرة، لكن توزيع دي جي سنيك للأغنية، وهو واحد من أهم نجوم الجزائر على المستوى الموسيقي اليوم، منحها ثوبا جديدا قادرا على إحداث المفاجأة والمتعة، ويتوجه في الأغنية الثانية نحو الكاريبي، حيث أغنية "Come Together"، التي أنتجها موسيقيا الفنان اللبناني الأميركي داون إيلدر، وغناها خالد بالتعاون مع نجم غناء الريغي إيلان آتياس، وكتبت كلماتها سميرة ديابي زوجة خالد، والأغنية عبارة عن بث لطاقة الحب بين الناس، تتحلى بالنغم الأفروكاريبي من جهة، ومن جهة أخرى كما قال أحد النقاد فهي صورة من صور تصالح الأميركتين، فإذ أنتجت موسيقيا في لوس أنجلوس، فقد أفرد فيها مقطع للحديث عن سهرات سانتياغو.
ومن الكاريبي إلى الجنوب الأميركي، يتحرك المسار حيث أغنية Diamantes بالتعاون مع شوقي، جاءت على أحد قوالب الموسيقى الأميركية الجنوبية الأكثر شيوعا اليوم، مما منح الأغنية سوقا أوسع من غيرها، وهي من كلمات خالد وشوقي وسميرة ومحفوظ عبد العزيز، وقام على إنتاج موسيقاها كل من خالد وسميرة، ومن هناك يطير المؤشر في رحلة بعيدة، نحو شمال الهند، في أغنية Forever Love مع رفعت سلطانة، وهي مزيج لذيذ من لون البانغرا الهندي، والراي الجزائري، مشاعر سخينة يبثها صوت خالد تقابلها سلطانة بمشاعر جريئة برغم خجلها، تمكن اللحن من إظهارها على نحو واضح، كتب كلماتها العربية كل من خالد وسميرة، أما الهندية فتكفلت بها سلطانة، وأنتج موسيقاها داون إيلدر.
المسافة الطويلة التي يقطعها المؤشر من شمال الهند إلى شرق أوروبا، توقع خالد في سهرة للغجر، تنتج عنها أغنيتهم Gitano مع المغني المغربي الفرنسي جلول بوشيخي المعروف بشيكو وفرقته ملوك الغجر، كتب كلماتها كل من خالد وسميرة وشيكو وأنتجها موسيقيا خالد وسميرة، وهي واحدة من أجمل الأغاني التي مزجت بين اللون الغجري وأسلوب الراي المغرّب، وقد أضافت مقاطع الكورال التي أدتها الفرقة حماسة لذيذة.
ومن هذه الرحلة يعود إلى الجزائر مرة أخرى، ليغني لزوجته سميرة، أغنية Come Tonight، وهي ليست أول أغنية تحمل كلماتها اسم زوجته، فقد سبقتها أغنية "سميرة" في ألبوم "هذه هي الحياة"، العجيب أن كلمات الأغنية وأغلبها بالفرنسية، قام على كتابتها ثمانية كتاب، منهم خالد وسميرة وداون إيلدر المنتج الموسيقي، وهي واحدة من أشد أغاني الألبوم رواجا، وربما السبب يعود لاتصال مقاطعها جميعا على إيقاع واحد، منحها سلاسة أطرتها الرومانسية الجزائرية التي تتمتع بالرجاء والقوة.
إلى إيران يتجه المؤشر بعد ذلك، في أغنية Salama So Good، مع المغني الإيراني الأميركي آندي مدين، من كلمات خالد وسميرة ومدين وباكسيما زكيبور، على مقام الحجاز وبإيقاعات غربية، في مزج مذهل قام به إيلدر أيضا، وربما لأن الحجاز محل التقاء حضارات عدة بكل ما يتفرع عنه من مقامات، جاء مساحة ملائمة للقاء.
وبالعودة إلى الكاريبي، يعود إيلدر إلى دفة الإنتاج الموسيقي في أغنية Love to the People التي تجمع العربية بالإنجليزية بالفرنسية، وتبدأ بتقسيم شرقي على الفلوت، يكاد يقول ما تقوله الناي، للمؤلف اللبناني بسام سابا، ثم تنتقل الأغنية سريعا إلى الإيقاع والتوزيع الغربيين، ميزة هذه الأغنية غناء خالد بما يمكن أن يسمى فرنسية جزائرية، إذ تتحرر من اللفظ الفرنسي لحرف R، فتبدو للمستمع كموقف أو كمحدد اجتماعي، في الأغنية عتاب جميل للقلب على الطريقة الجزائرية أيضا، كتبت كلماتها مجموعة كبيرة من ضمنها الشاب خالد، وامتازت بتوزيع عصري يعتمد على البلوز في قوامه العام.
مع تكرار أغنية Come Together مرة بالإسبانية وأخرى بالعربية، يتضمن الألبوم 10 أغنيات، منوعة من حيث اللون الغنائي والمزج الموسيقي، لكنها تجتمع على عدة أسباب، أولها الكتابة ضمن ورشة، وعدم إيلاء الكلمات أهمية كبرى في الوقت نفسه، وثانيها قيام "المنتج الموسيقي" على اللحن والتوزيع والمزج والماسترينغ في مهمة واحدة متعددة الأوجه، ما منح الموسيقى تماسكا من ناحية، وحرمها حق تعدد المزاجات من ناحية أخرى.
رأي الجمهور
يمكن اليوم التقاط رأي الجمهور بسهولة، عبر منصات الاستماع، وذلك بمتابعة عداد الاستماعات أو المشاهدات، وبمقارنة هذا الألبوم بسابقه، يمكن القول إنه لم يبلغ المنافسة معه بعد، إلا أنه اقتراح جديد، وجدير بالانتباه، خصوصا بعد رحلة خالد الطويلة، وإصراره على التجديد، وعدم استسلامه لموجات الموسيقى السائدة، هذه بحد ذاتها نقطة مثيرة للبحث في أسلوب خالد، الذي وإن غير اسمه، يبقى شابا في رأي جمهوره، الذي لم يستسلم بدوره للاسم الجديد.