(دار الفارابي، بيروت، 2022)
جدلية (ج): كيف ولدت فكرة النص، ما هي منابعه وروافده، ومراحل تطوّره؟
مروان عبد العال (م. ع.): ولادتها أيضاً حكاية، وحقيقة حدثت معي فعلا؛ اختياري لهذا العنوان بالذات: ضد الشنفرى، استمعت إلى ناشط سياسي يعيش في الغرب، أخبرني كيف جمعته الصدفة مع جنرال متقاعد في قسم المباحث، واعترف له بأنه أمضى ربع قرن من خدمته الرسمية بالتنصت على هاتفه. لم يكن الحدث عادياً بالنسبة لي، بدأت تتفاعل داخلي على مدى سنوات، مع موجات اللجوء الجماعية إلى الغرب، وولادة الغيتوات والهويات الموازية، في أحياء المدن الغربية، أخذتني قصة المراقبة إلى صراع الاندماج والهوية والتناقضات الجديدة بين الغربة والاغتراب، كنت منبهراً بملحمة الشنفرى، الذي ظلمه وأنكره قومه، وأعلن ثورته وتمرده وانتقامه، قرأت شعراً له وعنه، وحكايات بدأت تملأ روحي وخيالي منذ سن مبكر، حتى أنني كنت أرسمه كرمز أحياناً في بعض النشرات الطلابية والثقافية. بدأت بكتابتها انطلاقاً من قصة الجنرال المتقاعد وتفاصيل علاقته مع مناضل سابق ولكنه ظل شخصية متمردة تعاند الواقع لذلك أعطيتها لقب الشنفرى.
لم تكن كتابة الرواية سهلة، ظلت تختمر في ذاكرتي من حين لآخر، عدلتها مراراً وتكراراً، كلما أخذتني إلى طرق مجهولة، لا أتراجع بل أحاول اكتشافها وتفكيك أسرارها، وأسأل نفسي ربما لم أنجح فالفكرة تبدو صعبة وجديدة، ولكن هل ستصل بسهولة وتحقق غايتها؟ هذا ما أتمناه.
(ج): ما هي الثيمة/ات الرئيسية؟ ما هو العالم الذي يأخذنا إليه النص؟
(م. ع.): صراع الهويات، وقراءة المنفى وفهمه. في محاولة لتوجيه الزمن. الطور الجديد من هذا الصراع لا يتوقف على الهوية الفردية بل إن الصراع انتقل إلى عملية جماعية، الانضباط للسياسات العليا والقيم الجديدة، صهر جموع اللاجئين في المنظومة الغربية وحالات التمرد السلبي والإيجابي، أي تجريد اللاجئ في الغرب من هويته الوطنية وولادة حالات هجينة تنحصر في النشاط الحقوقي والمطلبي والاحتجاجي.
إنه عالم جمهورية "شلومو" المكان المتخيّل للرواية، جمهورية في جزيرة خبيئة وسط البحار، ومختبراتها الغرائبية التي أنتجت لقاحاً ضد الهوية، أتى بمفاعيل عكسية.
(ج): كتابُك الأخير عبارة عن رواية، هل لاختيارك جنسًا أدبيًّا بذاته تأثير فيما تريد قوله، وما هي طبيعة هذا التأثير؟
(م. ع.): الذي يأخذني إلى الرواية غاية من الرواية نفسها، وما مِن عملٍ روائي دون هدف. وفي نفس الوقت، أنا لا أتوخَّى كتابة أو توثيق لقصص، فكتابتي لا تتوخّى ذلك، بقدر ما هي محاولة لرؤية سردية مِن زاوية أخرى. فدائماً إنّ الحياة إذا ما أردت أن تفهمها بطريقة أفضل، حوِّلها إلى قصّة. لذلك هذه الرواية ليست معزولة عما سبق، هي عبارة عن حلقة في سلسلة روائية، الشخصية الروائية فيه، هي عبارة عن مسيرة، تلخص مرحلة فلسطينية، في تراكمات وتشعبات بكل ما فيها من صخب وانكسار وأحلام. ولذلك الرواية قادرة على استيعاب كل هذه التداخلات أكثر من أي جنس أدبي آخر. تترك الأثر الجمالي، الذي يضع في مكانة مقاومة سرقة واحتلال الرواية أو تزييفها أو استعمارها، لذلك أنت تكتب الرواية يعني أنت تسهم في تحرير الرواية.
(ج): ما هي التحديات والصعوبات التي جابهتك أثناء الكتابة؟
(م. ع.): أن تكتب رواية في ثلاثة أماكن، في بلد واحد، في ظروف مختلفة وعلى مدار سنوات ثلاث، ولكن تكتب عن مكان متخيل، ومع ذلك تعاني من القدرة على تقمص شخصيات وتركيبها وصلتها ببعضها. وأن تناقش بعض أسئلتها على محاوريك وتنظر ردود الفعل المتباينة، تدخلهم في الرواية دون أن يعرف أحد منهم مقصدك، مثلاً تسأل عن حادثة اغتيال غامضة لمناضل يحتمي في الغرب، ولماذا اختار الغرب ليكون مأوى آمن؟ وهل يمكن أن يكون هناك لقاح المضاد للهوية؟ لذلك مرت الرواية بتعديلات حسب نتائج الإجابات والاستبيانات غير المقصودة أحيانا.
(ج): ما هو موقع هذا الكتاب في مسيرتك الإبداعية؟
(م. ع.): لم أكتب ملحمة إغريقية، هي رواية تطرح أسئلتي المتواضعة وتعيدنا هذه المرّة إلى الواقع بكل تعقيداته. وأفضل من يضعها في موقعها الحقيقي هو القارئ نفسه.
(ج): هل هناك نصوص كانت ذات تأثير خاص، أو قرأتها أثناء إنجاز النص؟
(م. ع.): قصيدة الشنفرى الأشهر "لاميّة العرب" عن طباع وأخلاقيات الناس في زمن الجاهلية، وما قيل فيه، كذلك قرأت بروتوكولات حكماء صهيون، تاريخ ونصوص تاريخية عن وعد بلفور، مراسلات مع مهاجرين من عدة أمكنة وفئات.
(ج): هل تُفكّر بقارئ محدّد أثناء الكتابة، صفه لنا؟
(م. ع.): لا أفكر بقارئ محدد، لكن طبعا يهمني أنّ أستفزه ليبحث ويتخيل ويفكر وأفكر به مشاركاً لي في طرح الأسئلة وإن حصل هذا سأكون راضياً.
(ج): ما هو مشروعك القادم؟
(م. ع.): مواصلة المسيرة الروائية.
مقتطف من الرواية
أن تكون شخصاً مراقباً طوال الوقت، تصبح كالأطفال تتلفت للوراء كل الوقت، لعل المشاهد تنتهي بسرعة والأسئلة تصبح دون جدوى، كيف وأنا الشَنْفَرَى، يتربّص بي شخص غريب، يلاحقني في كل البلدان، يحمل جواز سفر غريب من عالم غير موجود، في زمن غير معروف. فالمكان الواحد يمكن أن يتكرّر عنده أكثر من مرة، أو أنه يمكن أن يكون في مكانين أو أكثر في الوقت نفسه، وانتهى إلى مكان يطابقه تماماً.
يريدونني أنا سبب الحروب العبثية والجلاد الرهيب والقاتل المتواضع والأسير المحتمل، القابل لأن يكون إنساناً يوماً ما، المشتبه الذي يُمكن أن يُقبض عليه بأي لحظة، وأن تُنتهك كرامته بموجب قوانين وقيود تافهة؛ لطالما اقتنعنا أن نصبح رماديين بدون خجل، وأنّ الهدف من وجود الصنف المعدّل من البشر هو تحقيق الأشياء النبيلة خدمة للمصلحة العامة، أنا الممنوع من الحياة في عالم موبوء بالقتلة، المسكون في عالم طبيعي خالٍ من الظلم. عندما نظرت في عينيه أيقنت أنني في حالة حرب، وجاءني سؤال الوطن، كان سؤالاً غائبا إلى أن عرفت هارون، الوطن يظل الحلم الذي يحرّرني والعشق الأبدي الذي يحتلني، تخيّل أنّ قلبك مثل بوصلة يدلّك في زمن الحرب عن من تحب وعن من لا تحب.
جلسَت الغجرية على شرفة بيتها في الشارع المجاور لسكني، كانت تحب ان أمازحها بمناداتها شوكلاته، نسبةً للون بشرتها الطينية الملساء الموشحة برائحة الشمس، تدهشني ملابسها الغجرية الفولكلورية المزركشة، فيها ألوان الغابات وتمازج ريش العصافير وانسياب الجداول في الحقول الخصبة. لقد أنهى الطلاق حياة عائلتها بعد خيانات دفع بأسرتها الغجرية إلى الترحال من الخزر إلى صقيلية، لتسير مؤخراً في جزيزة شلومو.
كانت صغيرة يوم هاجر والدها، فأصرّت والدتها على التمسّك بها وتربيتها، وأن تبقيها في موطنها في بلاد الخزر، وكانت أسرة فاشلة، فضلّت أن تُرافق والدها، وظلّت تعتز بما صنعت بها التجارب الصعبة. ورثت عنه منزلاً متوسطا واستغرقها عالم التنجيم.
لم يمل "هارون" من حكاية السفينة "آلتالينا" التي هاجر والده على متنها، تعرفت عليه في مدرسة تلمودية، ما برِحت أن تركتها، وكما قالت أنها لم تجد نفسها تنتمي إلى هذا المكان، فهي خزرية ومن الغجر ولم تكن يوماً يهودية، الآن تقرّب هارون المريب منها، محاولاً جذبها إلى المكان الذي عرفها فيه، لكن تحوّل إلى صديق مساعد لها والخيار الأخير في حياتها، سيّما أنه يصغرها بعدة سنوات، فقد أحزنها قوله الدائم أنه كان يمكن أن يكون في سفينة آلتالينا التي ابتلعها البحر، لكن والده لم يصطحبه لإحساسه بالخطر في ذلك الوقت، وكان من بين الـ 16عنصراً من عصابة "إيتسل" الإرهابية، التي كان والده "إلياهو" من بين صفوفها ولكنه نجا بأعجوبة، اعتقد إنها تعرف القصة الحقيقية، لذلك نظرت إليه بعين حزينة وباحتضان دافئ، حتى صارت تتحدث الحكاية كما يرويها، وأنه إبن أحد المهاجرين المتوجهين إلى الأرض المقدّسة، وكأنها كانت ترافقه على ذات الرحلة، ولأن وجودها في الجزيرة منذ مدة ليست بقصيرة، عرفت باقي الحكاية، فتوقفت عن تكرارها.
بحثاً عن الغابة المحرَّمة ولتكشف من جاء بفكرة "لقاح شلومو" منذ ان كانت تقطن بجانب مركز الصليب الأحمر حيث يجري التعرّف على ضحايا السفينة، وأثار فضولها أن تتعرّف على الناجي الذي كُتب له عمراً جديداً، لم تعتقد أنّ هارون ابن "إلياهو عميدي" راكب السفينة التالينا وعصابة "إيتسل" سيكون من نصيبها وقبل أن يعاود طريقه كي يتوجه إلى ميناء حيفا.
كان هارون ملقى على ظهره، عندما جاء خبر غرق سفينة والده المحمّلة بالمهاجرين والأسلحة الحربية، فقد وعيه وسقط أرضاً، بعد أن قضى أياماً في البحث عن حطامها على شاطئ الجزيرة، إلى أن وصلت فرق الإسعاف التابعة للصليب الأحمر، لم يعثر عليه ولكن حالته استدعت إدخاله المستشفى، وظلّ بعدها سنوات يعاني آثار صدمة السفينة، ودونا تواظب زيارته؛ تحاول التخفيف من صدمته، وخاصة أنّ السفينة لم تصل حيث كان يتمنى، واضطر للابتعاد عن أفراد عائلته الذين تفرّق جزء منهم واستوطن جزء آخر في الأرض المقدّسة، بعد أن تمّ طرد سكانها الأصليين. هارون بن إلياهو لم يصل إلى الديار المقدسة، وأصيب بانهيار عصبي، ولم تتركه الفتاة الغجرية الجميلة، قبل أن يطلق عليها إسمها الجديد "دونا" فقد رافقته بهذا الإسم، وترافق مع شهرتها كمنجّمة.
عالجته الغجرية بعقاقير هندية مختلفة، لم يمضِ على شفائه وقتاً حتى أعلنا زواجهما، تعرّفت عليه مصدوماً من غرق السفينة وبالنظرة الأولى بدا لي أنه شخص كتوم ومهذب وغامض وحذر، لا يهمّه من الحياة الفانية إلا الخلاص الجماعي، عندما سألته عن جنسيته، قال أنا يهودي! صرخت فيه: أنا لا أسأل عن دينك، بل عن جنسيتك عن بلادك.
لم يعد يجرؤ على القول أنّ اليهود ليسوا ديناً مثل سائر الأديان، وحتى أن يكرّرها أمامي، صار يقول: إنه من جزيرة شلومو في منفى شلومو وأضيف له : "بل أنت من البلقان جئت إلى هنا كعابر إلى بلاد ليست بلادك"؛ والمنجّمة الغجرية ترفض أي تكرار غير ذلك، إنّها ليست عبرانية فهي تعرف اللغة اليديشية، والذين ادعوا أنّهم ساميين ليسوا إلا غجر مثلها من بقايا مملكة الخزر، هي أيضاً ترحل ولكن ليس لسرقة أرض أحد، ودهشت دونا عندما قالت له أنت من بقايا القبيلة الثالثة عشر، الهارب من المملكة البيزنطية، فكيف صرنا يهوداً؟
بدأت تسأل عن هذه القبيلة وعلاقتها بجزيرة شلومو والغابة المحرّمة، وقالت انها كانت تسمع نفياً من هارون لوجود هذه القبيلة وإنها مجرد أكاذيب متعلّقة بالحروب البيزنطية، عندما أسألها عن مصدر هذه المعلومة تهمس لي إنها من رجل دين يرتدي القبعة السوداء ذات الحواف العريضة وتتدلى خلف أذني كل منهما الخصلتان الطويلتان اللتان تميزان الحاخامات المتزمتين.
يستنطقه لتخبره عن تفاصيل أصلي وفصلي، يود القبض على هويتي، وهو الذي تعلم في مدرسة تلمودية عبارة "الموت للعرب"؛ لذلك يسأل عن وجود الشَنْفَرَي هنا، ويريدها ان تتجسس هي الأخرى لتحصي له كل حركتي وخطواتي وطرق تفكيري ومشاريعي المستقبلية، ومِن جهتي كنت أطالبها أن تعمل كمنجمة للماضي للتاريخ الغامض قبل أن تعمد كعرافة للمستقبل.
هاجسي من يسكن الغابة المحرّمة، هل يعقل أن يكون حنظلة قد اختفى هناك؟ بحكم قدرتها على الفراسة، لمعرفتي أنّ الشعوب قديمة تملك في تاريخها تقويمين، استخدموا أحدهم للحسابات المدنية والآخر للحسابات الدينية، وقاموا بحساب مواقع الأجرام السماوية على امتداد مئات السنين لاعتقادھم بأن الأحداث الماضية يجب أن تتكرر في المستقبل.