على عينك يا تاجر
(ميتافورا للنشر والترجمة، القاهرة، ٢٠٢٢)
جدلية (ج): كيف تبلورت فكرة الكتاب وما الذي قادك نحو الموضوع؟
عماد فؤاد (ع. ف.): بحكم عملي الصحفي ومعرفتي بالوسط الثقافي المصري كما العربي، أنشغل منذ منتصف التسعينيات بالكتابة الصريحة عما أراه من مشكلات تملأ هذا الوسط، إلى أن بدأت منتصف عام 2019 في عمل سلسلة من التحقيقات والحوارات والمقالات الصحافية، تتناول كواليس سوق الأدب العربي في الغرب، ونشرتها مسلسلة في ثماني حلقات على موقع "ضفّة ثالثة"، بدأت في شهر يونيو وانتهت في سبتمبر 2019، وبسبب من انتشار هذه السلسلة وردود الأفعال التي تركتها لدى القرّاء والمنشغلين بالكتابة، ما بين متّفق ومعارض، كان أن جمعت العديد من مقالاتي الأخرى التي تغطّي هذا الموضوع، في محاولة منّي للإحاطة بسوق الأدب العربي في الغرب، ولذلك قمت بمحاورة عدد من الفاعلين في هذه السوق الدولية، لأعرف منهم خبايا هذا المشهد، ومن بينهم عرب وأوروبيين.
(ج): ما هي الأفكار والأطروحات الرئيسية التي يتضمّنها الكتاب؟
(ع. ف.): الكتاب يضمّ 27 مادة صحافية ما بين المقال الطويل والبورتريه والمقالة القصيرة والحوار الصحفي المتعمّق والدردشة الفيسبوكية وقراءات نقدية لكتب، وكلّها تدور حول ما يمكن لنا أن نسمّيه "سوسيولوجيا الأدب العربي المُترجم"، وبحث في واقع حضور هذا الأدب في الغرب، وخاصة في أوروبا. إلى جانب رصد لتأثيرات منصّات السوشيال ميديا على حركة الأدب في العالم اليوم، ولذلك جاءت هندسة الكتاب، في بنيته النهائية، كأنّها رحلة ميدانية للبحث عن إجابة سؤال رئيس هو: ما هو راهن الإبداع العربي اليوم في السوق الغربية؟ من هنا بدأت أسئلة أخرى تتولّد من هذا السؤال، ومنها ما يخصّ المؤسّسات الأوروبية، وكيف تتعامل مع الكتّاب العرب في المنافي، الذين أجبرتهم ظروف بلدانهم السياسية على التواجد فيها، وكيف تتحوّل الكتابة سريعاً إلى لعب دور "الضحيّة".
(ج): ما هي التحدّيات التي جابهتك أثناء البحث والكتابة؟
(ع. ف.): لم تكن هناك تحدّيات سوى غربلة قائمة أصدقائي، ذلك لأنّ الصراحة والمباشرة وتسمية الأشياء بمسمّياتها الحقيقية، التي انتهجتها في كتابة هذا التحقيق، لم تعجب الكثيرين.
(ج): كيف يتموضع هذا الكتاب في الحقل الفكري/الجنس الكتابي الخاص به وكيف سيتفاعل معه؟
(ع. ف.): الحقيقة أنّني أطرح السؤال ذاته على نفسي الآن، لسببين محدّدين، الأوّل أنّني أُصدر لأوّل مرّة عملاً يدخل في إطار التحقيقات الثقافية الصحافية حول ظواهر أدبية صارت متسيّدة المشهد الثقافي العالمي والعربي الذي نحياه اليوم، بعد ستّ مجموعات شعرية لي ورواية وحيدة، ولم أكن أتخيّل أنني سأجمع عملي الصحفي يوماً في كتاب. السبب الثاني يخصّ طرحك لفكرة الحقل الكتابي الخاص بهذه النوعية من الكتب، فنحن في عالمنا العربي اليوم لم نعد نشهد الكثير من الكتب الرزينة التي تعكف على تحليل ظواهر أدبية أو ثقافية معيّنة في لغة صحفية سلسة، كما كان يحدث قبل أربعين أو خمسين عاماً، أذكر مثلاً نوعية الكتب التي كان يصدرها سليمان فياض ويحيى حقي وصلاح عيسى ورجاء النقاش ومحمود السعدني وعلي شلش وغيرهم في الستينيات، وكيف كانت هذه النوعية من الكتب ذات الطابع الصحفي السلس، وغير المحمّل بالثقل الأكاديمي، تُحدث الكثير من الحراك في الحركة الثقافية والسياسية العربية، هذه النوعية كادت أن تختفي للأسف من حياتنا خلال الثلاثين عاماً الماضية. وتحت هذه الفئة من الكتب يحلو لي أن أضع "على عينك يا تاجر".
(ج): ما هو موقع هذا الكتاب في مسيرتك الفكرية والإبداعية؟
(ع. ف.): كما أشرت في إجابتي السابقة، يأتي "على عينك يا تاجر" بعد ستّ مجموعات شعرية صدرت لي حتى الآن، بدءاً من 1998 وحتى صدور آخر مجموعة شعرية لي في 2019، ورواية وحيدة صدرت في 2015، وعملين أنطولوجيين حول النص الشعري المصري الجديد، وبالتالي فهو أول عمل في مجال النقد الصحافي الذي يكتمل تحت يدي على هذا النحو، ولا أعتقد أنه سيكون الأخير، لأن هناك سحراً لا أحب أن أفتقده في السرد الصحفي.
(ج): من هو الجمهور المفترض للكتاب وما الذي تأمل أن يصل إليه القراء؟
(ع. ف.): أنا أومن أنّ لكلّ كتاب قارئ، كما أنّ لكلّ قارئ كتبه، وأعتقد أن "على عينك يا تاجر" سيعثر بسهولة على القارئ الذي سيهتمّ بما جاء فيه، لأنها كواليس تهمّ كلّ من على علاقة بالكتابة وسوقها العربي كما الغربي على حدّ سواء.
(ج): ما هي مشاريعك الأخرى/المستقبلية؟
(ع. ف.): ليس هناك من تركيز إلا على مشروع دار النشر التي أطلقتها مؤخراً مع عدد من الأصدقاء والكتّاب باسم "ميتافورا للنّشر والترجمة"، والتي كان "على عينك يا تاجر" إحدى ثمراتها الأولى، إلى جوار كتابين آخرين، فقد تمكنّا من الحصول على حقوق ترجمة ثلاثية روائية مهمّة للكاتب الإسباني الكبير خوان جويتيسولو، وأصدرنا الجزء الأول منها مؤخراً تحت عنوان "ملامح هويّة"، بترجمة مباشرة عن الإسبانية للمترجم المصري أحمد حسّان، كما أصدرنا مجموعة شعرية جديدة للشاعر المصري كمال عبد الحميد تحت عنوان "ندم المشيئة"، ونعمل حالياً على عدد من الترجمات والكتب الجديدة.
مقتطف من الكتاب: في مديح كائن «المديوكر» النّشط
على الرّغم من السّمعة السّيئة لكلمة «مديوكر»، والتي بدأت تنتشر مؤخّراً بين أوساط المثقّفين، عرباً وغربيّين، باعتبارها سُبّة، إلا أنّني أكتب هذه السّطور اليوم - على خلاف المعتاد - لمديح كائن «المديوكر» النّشط، فقير الموهبة الدّؤوب، الذي لم يقف صامتاً حيال فقر موهبته - أو انعدامها – الجلي، بل عمل على إيجاد مكانة لها وسط مواهب الآخرين، بإصرار وبأس يحسد عليهما، لكنّهما يستحقّان منّا اليوم تحيّة واجبة.
تُعرّف معاجم اللغات كلمة «mediocre» بـ«الاعتياديّ» و«العاديّ» و«المتوسّط»، كما تُعرّف كلمة «Mediocrity» كمفهوم اجتماعي بـ«الضّحالة» أو «التّفاهة»، إذن فكلمة «مديوكر» تُطلق هنا، ليس على الشّخص صاحب «الموهبة» العاديّة، بل على أصحاب «الأداء» المتوسّط أو العادي أو الضّحل، وبرغم هذه العاديّة في الأداء وقلّة الموهبة، نجدهم متواجدين بكثافة في المشهد، أيّ مشهد، إعلاميّاً وفنيّاً واجتماعيّاً وسياسيّاً وثقافيّاً، فهم الفئة الليّنة سهلة التّشكّل وفق أمزجة من يتربّعون على مراكز القوى والسّلطات، القادرون على تقديم المتوقّع منهم دون زيادة أو نقصان، الفئة التي قبِلت بأن يتمّ تعليبها فتسليعها وفق تواريخ صلاحيّة محدّدة، والتي بنت حضورها بالإصرار على طَرق الأبواب وطلب ما لا تستحقّه، وبسبب من هذا الإصرار على الطّلب والسّعي الدّائم للعثور على أماكن بارزة لأقدامهم وسط الآخرين، حصلوا على تواجدهم في الصّورة، فيما انعزل الأحقّ منهم، قانعين بإعلان استيائهم من اختلاط الحابل بالنّابل، مُلقين باللوم على رداءة المشهد الذي يتحكّم فيه أنصاف المواهب، والذي تحرّكه سياسة «تبادل المصالح»، و«الاستثمارات» التي تُؤتي أُكلها ولو بعد حين.
فنّ مجاراة اللحظة
الأمر إذن له علاقة بالقدرة على سرعة فهم ومجاراة متطلّبات اللحظة التي نحياها اليوم، ثمّة فئة لم تستطع أن تُجاري تغيّر مفردات المشهد السّريعة، والتي ساهمت فيها عشرات التّحوّلات السّياسيّة والاجتماعيّة خلال العقود الأخيرة، إضافة إلى التّأثير الكبير الذي لعبته ثورة السّوشيال ميديا في حياتنا خلال العقدين الماضيين، هذه الفئة التي انعزلت بنفسها عن الانخراط في المشهد، إلا من بعيد، وجدت أنّها لا تتمتّع بموهبة تسويق نفسها، على غرار الفئة التي يُطلق عليها اليوم كلمة «مديوكرز»، فآثروا الانعزال، متعفّفين عن النّزول إلى هذا المستوى الموحل من الصّراع على الفُتات، مُكتفين بالنّظر إلى مكاسب الآخرين الوقتيّة، باحتقار ممزوج أحياناً بكثير من الغضب.
قبل ربع قرن من الآن؛ كنّا نسمع ونقرأ كلمات تنتقد الاحتفاء بالأداءات «العادية» أو «المتوسّطة» في المجالات كافّة، من قبيل: «عديم موهبة».. «مُتسلّق».. «مُزيَّف».. «مُدّع».. «وصولي» أو.. أو..، وكلّها تصف الشّخص الذي أتقن اقتناص الفرص دون أحقّية، ويعرف جيّداً «من أين تُؤكل الكتف»، واليوم تأتي كلمة «مديوكر» لتلخّص لنا كلّ هذه المفاهيم في كلمة واحدة، نسمعها تُقال عادة بمزيج من الاحتقار والقرف، يردّدها النّاس - لبعضهم البعض - حين يرون أحدهم يمسح جوخ شخص هنا، ويجامل آخر هناك، لغاية ما في نفسه، أو حين يرون فقير موهبة يحظى بمكانة مستحقّة لغيره.
اطّلعت مؤخّراً على كتاب «المثقفون المُزيَّفون، النّصر الإعلامي لخبراء الكذب» (2011) للباحث الفرنسيّ باسكال بونيفاس، والمختصّ في القضايا الجيوسياسيّة ومدير معهد العلاقات الدّوليّة والاستراتيجيّة بباريس. في هذا الكتاب الذي أثار ضجّة في أوروبا آن ظهوره، بونيفاس يفتتح معركته بمقدّمة حادّة جاء فيها: «يُذهلني كلّ أولئك المثقّفين والخبراء الذين لا يتورّعون عن اللجوء إلى حجج مخادعة، وعن إطلاق الأكاذيب، من أجل حصد التّأييد، تبدو وقاحتهم وانعدام ذمّتهم بلا حدّ، وتشكّل ورقة رابحة. وبدلاً من مقابلتهم بالاستهجان العام، يُقابلون بمزيد من التّهليل. انعدام الضّمير ليس أمراً بلا مزايا، ويبدو خالياً من المخاطرة. «الكذب الحقيقي» يسير على أحسن ما يرام (...) الأخطر من أولئك الذين يَنخَدِعون، هم أولئك الذين يَخْدَعون: «المزيَّفون». ولكي يتمكّنوا، على نحو أفضل، من إقناع المشاهدين أو المستمعين أو القرّاء، يلجؤون إلى حجج، هم أنفسهم لا يصدّقونها. قد يؤمنون بقضيّة لكنّهم يعمدون إلى وسائل غير شريفة للدّفاع عنها (...) وهناك من هم أسوأ: «المرتزقة»، هؤلاء لا يؤمنون بشيء سوى أنفسهم. ينتسبون (أو بالأحرى يتظاهرون بالانتساب) إلى قضايا، ليس لقناعتهم بصحّتها، بل لأنّها في تقديرهم واعدة ولها مردود هام، وتسير في اتجاه الرّياح السّائدة».
بهذه الصّورة المباشرة، وعلى هذا النّحو الجريء، يعرّي باسكال بونيفاس على صفحات كتابه (الذي امتنعت 14 دار نشر فرنسيّة عن طباعته) العديد من المثقّفين البارزين في المشهد الإعلامي والثّقافي الفرنسي، ممّن تحوّلوا إلى «مديوكرز» مهمّتهم الأساسيّة هي التّزوير والتّزّييف والمغالطة، وعلى رأسهم برنار هنري ليفي الذي لا يزال الإعلام الفرنسي يقدّمه بوصفه فيلسوف القرن، فيما هو بحسب بونيفاس «إله وسيّد المغالطين والمزيِّفين».
في كتابه «نظام التّفاهة La médiocratie» الصادر في 2017، يرصد الفيلسوف الكندي آلان دونو أستاذ الفلسفة والعلوم السّياسية في جامعة كيبيك الكنديّة، الشّروط الواجب اليوم على كلّ شخص أن يلتزم بها كي يتحوّل إلى مديوكر ناجح في مجاله، فيقول: «ضع كتبك المعقّدة جانباً، فكتب المُحاسبة صارت الآن أكثر فائدة. لا تكن فخوراً ولا روحانيّاً ولا حتى مرتاحاً، لأنّ ذلك يمكن أن يُظهرك بمظهر المغرور. خفّف من شغفِك لأنّه مُخيف. وقبل كلّ شيء، لا تُقدّم لنا «فكرة جيّدة» من فضلك، فآلة إتلاف الورق ملأى بها سلفاً. هذه النّظرة الثّاقبة في عينيك مُقلقِة: وسّع من حدقة عينيك، وارْخِ شفتيك. ينبغي أن تكون للمرء أفكار رخوة (...) فقد تمّ شنّ الهجوم بنجاح: لقد تبوّأ التّافِهون موقع السّلطة». ثمّ يتساءل آلان دونو قبل أن يجيب بنفسه: «ما هو جوهر كفاءة الشّخص التّافه؟ إنّه القدرة على التّعرّف على شخصٍ تافهٍ آخر. معاً، يدعم التّافهون بعضهم البعض، فيرفع كلّ منهم الآخر، لتقع السّلطة بيد جماعةٍ تكبُر باستمرار”.
حكمة البقاء في الوسط
حال بحثي عما كُتب عن كائن «المديوكر» عربيّاً، وقعت على وجهة نظر لافتة للفنان التّشكيلي المصري عادل السّيوي، يعرّف فيها المديوكر بأنّه: «كائن محدود متوسّط القدرات، لم يكن الأصل اللاتيني للتّسمية يشير في البداية إلى صفة سلبيّة، بل إلى درجة «محمودة من الكياسة»، هي حكمة البقاء في الوسط الذّهبي aurea Mediocratis، ولكن الإنسانيّة غيّرت موقفها بعد ذلك، عندما تكشّفت قدرة المديوكر على حقن البلادة في تفاصيل الحياة كلّها، وعلى جرّ العالم إلى كوارث كونيّة إذا ما وصل إلى سدّة القرار».
ما يلاحظه السّيوي فيما يخصّ تحوّل معنى كلمة «مديوكر» في المرجعيّة الجمعيّة هنا إلى صفة سلبيّة، جاء على خلفيّة الصّعود القوي لنماذج بارزة من المديوكرز أو أنصاف الموهوبين إلى مقدّمة المشّهد السّياسي العالمي، ما يوضّحه السّيوي قائلاً: «كان نيرون يعزف على قيثارته وروما تحترق بفعله، كان عازفاً بليداً بلا جدال، كما كان هتلر رسّاماً رديئاً وموسوليني أديباً بلا موهبة (...) المديوكر هو جسم الحياة العريض، ولكن حضوره في مجالات الإبداع - خاصّة في الفنّ - كريه مثل القهوة الرّديئة. ولذا تنتقم الجماهير منه بالتّجاهل، ويردّ هو الصّاع بالإلحاح والكم».
أتصوّر أنّ ما يرصده السّيوي في تعريفه للمديوكر هنا، لهو أكثر من كافٍ لمعرفة أيّ مناخ فنّي أو إبداعي آلت إليه الأمور اليوم عربيّاً وعالميّاً، وتكفي نظرة سريعة حولنا لنعثر على عشرات من نماذج المديوكرز المجتهدين حقيقة دون أن يكون لديهم شيء من الموهبة، اللهم إلا شطارة في الوصول إلى غاياتهم بأسرع الطّرق وأسهلها، فهدف المديوكر في كلّ زمان ومكان هو الوصول إلى المكانة التي يطمح إليها بأسرع وقت وأقلّ جهد، وقانونه في ذلك: «الغاية تبرّر الوسيلة» النّهج الذي سنَّه ميكافيلي في القرن السّادس عشر.
فلنحتفل بأنصاف المواهب
بهذا المعنى؛ فإن المديوكر هو أكثر أعداء التّغيير، يدرك - قبل الآخرين - أنّه ليس موهوباً، لكنّه يستعيض عن قلّة الموهبة هذه بالاجتهاد المستمرّ، فيما تتكوّن في ذهنه يوماً بعد يوم هالةً كبيرة عن ذاته وعمّا يقدّمه من «ضحالة»، ومن ثمّ يكون من الصّعب على أيٍّ كان أن يقنعه بغير ما يظنّه عن نفسه، ستجده يعادي كلّ من يخالفه الرّأي أو ينتقد عمله بشكل مباشر. فيما يكون الموهوب دائم الشّك في موهبته، لأنّه مؤمن بأنّ ما يقدّمه من إبداع لن يُرضي الجميع، ولن تجده يتكلّم عن ذاته بالثّقة اللامتناهية التي يملكها فقير الموهبة. الموهوب شخص يشكّ في ذاته أصلاً وفيما يقدّمه من إبداع، كائن موسوس رهين شك وقلق دائمين، ولأنّه أبعد ما يكون عن نعمة اليقين الواثق التي يتمتّع بها فقير الموهبة، تجده منصتاً لنقد وملاحظات الآخرين كي يتعلّم، ما يجعله دائم التّطوير من نفسه ومن أدواته. أمّا المديوكر فلا يطوّر من نفسه لأنّه لا يملك فضيلة الإنصات، ستجده يجترّ ما قدّم عشرات المرّات، يدور في ساقية وعلى عينيه عصابة تمنعه من رؤية المكان الذي يدوس فيه، فقط يدور، مؤمناً بينه وبين نفسه أنّه يتحرّك.. وأنّه ينجز.. وأنّه يتقدّم.
تُعرِّف الكاتبة اللبنانيّة رشا الأطرش كائن «المديوكر» في أحد مقالاتها قائلة: «هو عموماً رجل الوسط: المناصب الوسطى، والمهام الوسطى، والأفكار والأداءات والمبادرات الوسطى. اللمعَة بالحدّ الأدنى، وكذلك المثالب، ما يكفي لاستمرار الإنتاج، بلا مفاجآت، لا سارّة ولا بغيضة، في الفنّ والإعلام كما في البزنس والسّياسة والأكاديميا». وهي الملاحظة التي يتناولها آلان دونو في كتابه من زاوية أخرى، محاولاً رصد تأثير ما يسمّيه بـ «نظام التّفاهة» الذي يتحكّم في عالمنا المعاصر، فيقول: «نظام التّفاهة هذا إنّما يؤسّس لوسطٍ لا يعود فيه «المُعتاد» هو محض توليف مجرّد يسمح لنا بالوقوف على كنه الأمور، بل يصبح هو «المعيار» الذي نُضّطر للخضوع له. بذلك، فأن يظن المرء نفسه «حرّاً» ضمن نظام مثل هذا هو أمر لا يعني، في حقيقته، إلا فعاليّة هذا النّظام». في إشارة واضحة إلى تغييب المعايير العليا لكلّ فعل أو جهد، واقتصاره على الحد الأدنى من الجودة أو القيمة، ليصبح «العادي» و«الضّحل» و«التّافه» هو المعيار الذي يقاس عليه.
إنّ ما يخلص إليه آلان دونو في كتابه المثير «نظام التّفاهة» هو ما نحياه اليوم على جميع المستويات حرفيّاً، حتى تحوّل المجتمع كلّه إلى مجتمع من المديوكرز على حد تعبير الشّاعر المصري مهاب نصر، والذي يقول في مقالة له: «مجتمع المديوكر دائم الصّراخ بسبب عري أصلي لا يدرك مكانه، ولهذا يستهلك الأفكار والمذاهب والنّظم والقيم مثل خِرَقٍ يداري بها دائماً المكان الخطأ للعري. مجتمع «المديوكر» لا يحترم التّعلّم، ولا يكتشف في الخطأ ما هو أعمق من الخطأ: الإمكانية المفتوحة دائماً للتّطور. مجتمع لا يحترم الفشل ولذلك لا ينجح إلّا في تكراره مع تغيّر يافطته. مجتمع المديوكر بلا زمن لأنّه يتعثّر طوال الوقت في طموحه، دون أن يدرك أن عجزه عن تحقيق طموحه هو بسبب من عدم نبل هذا الطّموح بالذّات».
تحيّة واجبة
أختتم استشهاداتي هنا بما جاء على لسان الشاعر المصري مهاب نصر حول مفهومه لمجتمع المديوكرز، رغبة منّي في طرح زاوية بديلة للنّظر إلى هذا الكائن النّشط، وردّ الاعتبار قليلاً إلى بعض مواهبه، لماذا لا نُقدّر هذه التّوليفة العجيبة لهذا الكائن الخرافي، المتفرّغ طوال اليوم للوصول إلى مآربه، والذي ينجح غالباً في إيهام متوسّطي الذّكاء بأنّ ما يفعله له قيمة ما؟!
نعم.. فعلى الرّغم من كلّ ما سقته أعلاه عن سطوة كائنات المديوكرز التي احتلّت جميع مجالات الحياة من حولنا اليوم، إلا أنّني أعترف بإعجابي الشّديد - والذي يزداد يوماً بعد يوم - بقدرات هذا الكائن الغريبة على التلوّن والتّبدّل ليتوافق مع مختلف الظّروف وجميع المناخات. مثل هذا الكائن، الذي لا يوقفه شيء عن سعيه أبداً، يحتاج منّا اليوم أن نعيد النّظر من جديد إلى جهده وإصراره ولو بحياديّة منصفة قليلاً، معترفين أنّه جدير بما حقّقه من أهداف، على الأقلّ لم يتكاسل عن أداء واجبه تجاه «موهبة» معدومة، أو - بالأحرى - يتخيّلها في نفسه.