لا أمر يجعل الأنثى ساخنة مثل الأمومة بلسم الشقاء الأموميّ ورادعة اليأس، وقاصمة الظهر أيضاً، كما ترى الكاتبة ملك اليمامة القاري، في باكورة إصداراتها القصصيّة "تاء التأنيث الساخنة"، عن الآن ناشرون وموزّعون، عمّان، 2021. ففي القصّة التي اختارتها القاصّة عنواناً عامّاً للقصص، "تاء التأنيث الساخنة" امرأة شارفت على سنّ اليأس هذا الذي: "سيسرق منها شغفها برفيق عمرها"، وبه تكاد روحها الذابلة تجفّ رغم زيارات الأبناء والأحفاد المتواصلة لها. تعتقد أنّ الدورة الشهريّة غادرتها إلى غير رجعة منذ أربعة أشهر ونصف، لتباغتها الطبيبة بحمل جديد، وتخبرها بأسف أن جنينها مصاب بمتلازمة داون. ترفض الأمّ إجهاضه، ليس لأن في ذلك خطراً على حياتها كما أبلغتها الطبيبة، بل لأن الجنين نفخ الروح في الرحم المتقاعد، وفي رعايته عودة الشغف بذاتها وبالحياة.
في قصّة "خطيئة" الجميلة المؤسية، امرأة متزوّجة في طريقها لتحقيق حلمها التي حرمت منه طويلاً. تعشق الموسيقا والعزف على العود، لكنّ ذلك يعدّ عاراً للعائلة وفضيحة في محيطها. وقد حدث في يفاعتها أن باغتها أبوها في إحدى الحفلات المدرسيّة، تحلّق روحها مع عزفها على العود، فسرعان ما اتجه صوبها، أمسك بالعود وانهال به عليها ضرباً إلى أن تكسّرت أضلاعه عليها، وتقوّست أوتاره حول معصميها. ثمّ حرمها من إكمال تعليمها لتزويجها درءاً لتمريغها شرف عائلته بالوحل، لتربط بقيد آخر بديل لقيد الأب. لكنّ عشق العود وشغفها بالموسيقا مكثا ينغلان في روحها، إلى أن تقرّر شراءه خلسة عن زوجها وعن عيون المحيط كلّها. تتجه إلى السوق بملابسها المعتادة؛ ثوب فضفاض ونقاب أسودين، تسير كمثل ذاهبة إلى خطيئة، فالسوق المقصود لا تدخله امرأة أبداً. وحين رجعت بالعود في محفظته السوداء إلى البيت، مخفيّاً بثنايا ثوبها الأسود فبدت مثل امرأة حامل: "لم تصدّق أنّها وصلت معه بسلام، لم تسطع يومها أن تضمّه أو تشمّه، كان لزاماً عليها أن تخفي هذا الطفل الخطيئة في مكان ما قبل وصول سجّانها!" ومعه تعود الموسيقا وتنطلق روحها السجينة شغوفة فرحة، في أثناء غياب الزوج عن البيت. لكنّ السرّ لم يدُم طويلاً حتّى ينكشف. ففي خاتمة القصّة، سيباغتها الزوج بعودته أبكر من العادة بسبب عارض صحّيّ، تراه: "واقفاً بالباب أمامها، يرى زوجته تحضن عوداً وتعزف لحناً في منزله!"
لا أمر يشلّ جسد الأمّ وروحها مثل موت أحد أبنائها أو اعتقاله. ففي قصّة "عودة"، يعود الشاعر الكبير إلى الوطن بعد أن نفي منه لزمن طويل، وقد دفعت عائلته أثماناً باهظة مقابل قصائده المناهضة للسلطة في البلاد؛ اعتقل الأب ولم يعد ثانية، تلاه ابنان آخران ما يزالان قيد الاعتقال. وفي النهاية، تستقبل الأمّ الثكلى/الأرملة من على كرسيّها المتحرّك، ابنها الشاعر العائد من منفاه صامتاً، ملفوفاً بالعلم الوطني. أمّا ما يشرخ الإحساس بالأمومة ويبدّد توهجه في قصّة "بوح المرايا"، فهو أمر الأمّ التي عانت في طفولتها من شرخ عائلي إثر طلاق والديها، وقضائها سنوات النموّ والمراهقة التسع في كنف حضانة الأب وزوجته جافّة القلب، بعدما كانت في حضن أمّها لتسع سنوات، ستدرك الفتاة، فيما بعد، أن الفارق بين نصفيّ عمرها، هو مثل الفارق بين سقف الخزانة في بيت الأمّ التي كانت تعتليها لتنعزل إلى أن يهدأ غضبها أو حزنها، وبين قعر خزانة بيت الأب الملاذ البديل لعزلتها المقهورة. واليوم، وقد أصبحت أمّاً، تعاني من شعورها بأنّ أمومتها لأطفالها غير سويّة، أشبه بأمومة مفتعلة لزوجة أب. أمومة أخرى نلقاها في القصّة العذبة "على سبيل الذكرى"، فيها تتماهى سيرورة تجربة المرأة الحامل مع شجيرة الورد الحامل هي الأخرى، في حالة من توحّد صوفيّ. تخاطب شجيرة ورود معمّرة جارتها الشجيرة الصغيرة، جارتان في أصيصين، تحدّثها عن خطوات حملها لأزرارها الصغيرة وأوجاعه، وتصف لها شغف الأمومة فيما بعد، وما قد تتعرّض له من مشكلات في الحياة، وحين حدوث فقدان وليدة من زهراتها، كأن تقطفها صاحبة البيت والأصص، فذلك لتضعها في مكان أجمل وصحيّ أكثر حيث نور الشمس والضوء والماء، فكأنما تلمح القاصّة برؤية صوفيّة إلى أنّ الروح تفيض في عالم نوراني أبهى بعد تحرّرها من الجسد. نلقى أمّاً أخرى كسائر النساء العربيّات غالباً ما تفقدن خصوصيّتهن، كتغييب أسمائهن الشخصيّة لصالح اسم الزوج والابن معاً، فتؤول إلى زوجة فلان أو أم علّان، غير أنّ الأمّ في قصّة "بالعين المجرّدة" تتوهّم، في حالة من وَهَن نفسيّ، أنّها فقدت ملامح وجهها لتحلّ محلّها صفحة جلديّة فارغة تماماً. ورغم تأكيد الطبيب لها أنّ ملامح وجهها طبيعيّة وغير منقوصة، إلّا أنّها ظلّت تعتقد، كما تقول إنّ: "الجميع يراني، وأنا لا أرى نفسي." ولن تستعيد رؤيتها لوجهها الأصلي وأجزائه سوى بانعكاسه في التماع عينيّ ابنتها الوحيدة يوم نيلها شهادة الماجستير بتفوّق. فلا عزاء لشقاء الأمّهات وتضحيتهنّ بذواتهنّ، يضاهي عزاءهنّ بنجاح أولادهنّ وبناتهنّ، كما تشير القصّة، أولاء الأمّهات من بين اللواتي ينسحق حضورهنّ في غياهب مشاغلهنّ العائليّة الشاقّة.
عديدة هي هواجس ملك اليمامة القاري، طرحتها في قصص تتسم بالواقعيّة، وفيه ترصد صوراً مختلفة من المجتمع، حاولت أغلب الأحيان اتخاذ التقاط زوايا مغايرة لموضوعاتها، في بعضها جدّة، كمثل قصّة "حبّة منوّم" وعن ممارسة الحبّ منوّم الأزواج المصابين بالأرق، أو في قصّة "العشق وشماً"،وفيها امرأة مدّعية وخائنة، تخون ما ادّعته من مبادئ وطنية، تنتمي سياسيّاً للمعارضة، كما تخون حبيبها الذي قد يفعل أيّ شيء لأجلها، ولأجلها عرف هموم الوطن وانشغل بها، حتّى أنّه وشم خارطته على ذراعه، لكنّ الخارطة الموشومة لم تشفع له أمام سجون الوطن وجلّاديه، ليعرف بعد خروجهمن المعتقل بخيانة حبيبته له وزواجها من أحد رجالات السلطة التي كانت تعارضها، فيرحل عن البلاد بنتيجة: "أنّ تعاطي الأوطان سيوصله إلى الجحيم، وأن الوطن مكان للعيش، لا أكثر!"
في قصّة "قهوة سيّئة السمعة"، كاتب حرّ لا يُخضع قلمه لمشيئة السلطة السياسيّة في البلاد، يزوره زوّار الفجر، يعرفهم تماماً، هم أنفسهم وغيرهم، يقضون الليالي الملاح في شقّة عاهرة تقطن في الشقّة التي تعلو شقّته مباشرة، يطرقون بابه بشدّة، يصرخ أحدهم قائلاً: "لا تخف، كلّ ما هنالك أنّنا ندعوك لشرب فنجان قهوة عندنا." هو يعرف أيضاً معنى هذه الدعوة، خبرها سابقاً هناك حيث لا قهوة ابداً، بل إنّ القهوة لطالما شربها المعزّون في بيوت أهالي المعتقلين!
وثمّة حكاية عن عجوز مصاب بالألزهايمر في قصّة" قمقم الروح" يتخبّط بذاكرته، يدوخ طول السرد، ويدوّخ معه ابنته التي ترعاه: "وهكذا على الدوام، زوّاري كثر، والذاكرة امرأة لعوب، وأنا حبيس القمقم العجوز، لا أغادره إلّا للبحث عن أسماء الوجوه."
تتجلّى في القصص بعض ملامح التجربة الأولى لقاصّة موهوبة، تنحاز إلى المرأة التي تحضر في أغلب القصص، انحيازاً موضوعيّا من غير صخب أو شعارات، كما أنّ الرجل ليس عدوّاً لها، فعدوّتها الذكوريّة المستبدّة، إنّما بروح نسويّة خجلى، آمل أنّها ليست خائفة، كشأن عديد من الكاتبات العربيّات! وقد تجلّت لديها النسويّة قويّة بهيّة بفكرتها وسردها الفنيّ الشيّق، لمرّة واحدة، وذلك في قصّة "خطيئة" آنفة الذكر. أمّا ما ورد من ذكر لنساء أخريات فهنّ في أغلبهنّ أمهات تقليديّات، لا هواجس لديهنّ غير تمجيد الأمومة، كما في قصّتي "تاء التأنيث الساخنة" و" بوح المرايا"، وسلبيّة خانعة تصمت عن المطالبة بحقّها من دون أيّ تبرير، في قصّة " كلّها أزهار". وقد انسردت القصص بأسلوب تقليديّ، وما حاولته القاصّة من فنيّة حداثيّة في قصّة "أضغاث أشواق" باعتمادها شخصيّة أسطوريّة إغريقيّة هي ميدوسا، ربّة الحكمة والثعابين، تسكن البحر مع عائلتها، أبواها هما إلها البحر، والتي لجمالها أغرم بها بوسيدان إله المحيطات، ومارسا الحبّ في معبد، وهذا مخالف لقوانين الآلهة، وعقاباً لها وحدها، لكونها إلهة فانية، حوّلت أثينا شعرها إلى أفاع. تغضب ميدوسا فتنتقم من جميع البشر، بأن تحوّل من ينظر في عينيها إلى حجر. بدا استناد القاصّة إلى هذه الأسطورة مقحماً ونافراً. فالقصّة تبدأ بواقعيّة مقنعة ومثيرة، إذ يغرق مركب يحمل مهاجرين غير شرعيّين، لا نعرف سبب هجرتهم، ما نعرفه أنّهم من بلد واحد غير مسمّى، يغرقون ويموت أغلبهم، وينجح بعضهم بإنقاذ أنفسهم وغيرهم، تتوقّف الواقعيّة هنا بغتة لتنقلب إلى الفنتازيا، من دون أيّ تمهيد أو إقناع فنّيّ، وبالتالي إلى سرد غير مقنع. إذ أنّ أحد الغرقى ينجو على يد ميدوسا، لا يتحجّر إسوة بغيره من الغرقى، وتنشأ قصّة حبّ بينهما سرعان ما تنتهي، ليبقى ذلك اليوم ذكرى لدى الناجي وأضغاث أشواق! كما يؤخذ على الكاتبة في قصص عديدة أنّها تفصح أكثر مما تواري. غير أنّ السرد القصصي لديها يتّسم بالعفويّة والصدق عامّة، سرد سلس رشيق بعباراته القصيرة المتواترة ولغته القصصيّة الشفيفة والمكينة، والإيجاز اللافت، فقد كتبت القاصّة ست عشرة قصّة في إحدى وسبعين صفحة فقط.
تدفع هذه القصص بقارئها لمتابعة قراءة كتابات ملك اليمامة القاري الموهوبة والجادّة، وانتظار إصدار قصصيّ جديد لها، تتجاوز فيه عثرات بواكير الإصدارات عامّة.