(منشورات جدل، الكويت، 2022)
[بهاء إيعالي كاتب وشاعر من لبنان. حاصل على إجازة في التاريخ من الجامعة اللبنانية، كلية الآداب. صدر له: «الضوء آخر عصفور في السماء» و«كونشيرتو لشفاهٍ ترفعها الريح».]
جدلية (ج): كيف اخترت الرواية وما الذي قادك نحوها؟
بهاء إيعالي (ب. إ.): قد تكون مسألة اختيار كتابٍ لمجرّد قراءته فقط، أمرًا في غاية الصعوبة، فماذا لو كان الاختيار لأجل الترجمة؟ ربّما ينبغي عليّ المرور بمرحلتي اختيار، مرحلة اختيار لغاية القراءة ومن بعدها مرحلة الاختيار لغاية الترجمة، إذ ليس كلّ ما أقرؤه تستهويني ترجمته.
جاء اختياري لهذا الكتاب اختيارًا مشتركًا بيني وبين الناشر، فبعد أن ترجمت لرينيه بازان روايته الشهيرة "الأرض التي تموت"، استهوت الناشر فكرة ترجمة بعض أعمال رينيه بازان، خاصّةً وأنّه لم يسبق أن تُرجِم عملٌ له للعربيّة. وبالتالي طلب منّي اختيار بعض أعماله التي أملك الرغبة بترجمتها، ومن بين اختياراتي كانت "دوناتيين".
إذًا أستطيع القول إنّ ترجمتي لرواية "دوناتيين" هي استكمال لمشروع ترجمة أعمال رينيه بازان، والتي ربّما أستكملها بنفسي أو ينبري لها مترجمون آخرون، لكنّ ترجمتي للكاتب الذي ترشّح لنوبل مرّتين (أعوام 1914 و1915) من أجمل المتع التي نلتها بمسيرتي في الترجمة.
(ج): ما هي الأفكار والأطروحات الرئيسية التي تتضمنها الرواية؟
(ب. إ.): شأنها شأن معظم أعمال رينيه بازان، يعود الكاتب في رواية "دوناتيين" إلى البيئة الريفيّة الفرنسيّة خلال القرن التاسع عشر، ويركّز تحديدًا على آثار تلك الحقبة التي حدثت خلالها الثورة الصناعيّة في أوروبّا كلّها، وتأثيرها على الريف الفرنسيّ لناحية إهمال الأرض وانعدام قيمتها كمورد للقمة العيش، ما أدّى لإفراغ الريف من سكّانه تدريجيًّا؛ وكذلك تأثيرها على النفس الإنسانيّة والحياة الاجتماعيّة هناك بحيث لم تعد العائلة بمثابة كيانٍ واحدٍ متآلف، بل سيطرت الأنانيّة على الأفراد وأخذت العائلات تتفكّك، وهذا ما كان، حسب رينيه بازان، أمرًا وبالًا على المجتمع الفرنسي.
"دوناتيين" هي تجسيدٌ لكلّ هذا، هذه المرأة التي تعاني رفقة زوجها من انخفاض مردود الأرض لديهم ممّا يضطرّها للذهاب إلى المدينة كي تعمل مرضعة. وهناك تأخذها مباهج الحياة بداية الأمر ومن ثمّ توقعها في أزمةٍ كبيرةٍ أوصلتها للجوء إلى صاحب مقهى جعلها عشيقته، متناسيةً أنّها زوجة وأمّ لثلاثة أطفال. هذا الإهمال من جانبها أدى إلى فقدان زوجها لأرضه وبالتالي مغادرته قريته وذهابه للعمل في مكانٍ آخر، وهو أيضًا تعرّف على امرأةٍ أخرى واتّخذها زوجة له.
(ج): ما هي التحديات التي جابهتك أثناء البحث والترجمة؟
(ب. إ.): قد يكون التحدّي الأبرز الذي واجهته أثناء عملي هذا هو اللغة التي كُتِب بها نص الرواية، فلغة بازان هي اللغة الفرنسيّة الكلاسيكيّة التي تختلف كثيرًا عن الفرنسيّة المتداولة اليوم، أكان لجهة المصطلحات أو التراكيب اللغويّة، وترجمة هكذا لغة يتطلّب جهدًا إضافيًّا يتوزّع بين البحث عن مترادفات المصطلحات في القواميس اللغويّة القديمة من جهة، وبين إجادة الصياغة العربيّة بشكلٍ يجعل من بنية النص العربيّ متماسكةً دون الإخلال بأسلوب الكاتب الشخصي من جهةٍ أخرى.
ثمّة تحدٍّ آخر واجهته أثناء العمل ويأتي بالدرجة الثانية عقب المذكور سلفًا، ألا وهو كلّ ما يتعلّق بتفاصيل الحياة الفرنسيّة في تلك الحقبة، بدءًا من تصاميم البيوت، وأنواع المزروعات، وأسماء البلدات والقرى والتي أصبح بعضها مهجورًا الآن، والاتّجاهات الدقيقة لمسارات شخصيّات الرواية... كلّ هذا يعدّ صعبًا حينما يكون المترجم مشتغلًا على عملٍ يعود إلى بدايات القرن العشرين، إذ سيحتاج المترجم إلى وثائق وأبحاثٍ خاصّة حول كلّ هذا. ربّما ما سهّل عليّ هذا التحدّي هو توفّر الانترنت الذي يزوّدني ببعض المقالات المتخصّصة والخرائط القديمة وغيرها، لكنّني أسأل نفسي: ماذا لو ترجمتُ بازان قبل ثلاثين عامًا؟
(ج): ما هو موقع هذا الكتاب في مسيرتك في مجال الترجمة والإبداع؟
(ب. إ.): من الصعب أن أحدّد موقعًا لهذا الكتاب، أو لأيّ كتابٍ آخر، في مسيرتي الإبداعيّة والترجميّة، فكلّ عملٍ كان له نصيبه من تعبي، نصيبه من اجتهادي ونصيبه من فرحي. رغم أنّني أفضّل أعمالي في الإبداع على أعمالي في الترجمة، لكنّني لم أستهن يومًا بنتاجي في الترجمة لأنّه عملٌ أيًّا كان شكله أو غايته. لكن لو طُلِب منّي تحديدُ موقعٍ لهذا الكتاب بالتحديد فسأقول إنّ قيمته لديّ هو أنّه، وكما ذكرتُ قبل قليل، امتدادٌ لمشروع ترجمة رينيه بازان للعربية، هذا المشروع الذي أفتخر أنّني أوّل من قدّمه كإضافةٍ للمكتبة العربيّة ولا زلتُ الوحيد حتّى الآن، والمشروع سيستمرّ بلا شك، وربّما أكون من يكمله وربّما لا، لكن سيظلّ القارئ العربيّ يتذكّر بأن بهاء إيعالي هو أوّل من ترجم بازان للعربيّة.
(ج): من هو الجمهور المتوقع للرواية وما الذي تأمل أن يصل إليه القراء؟
(ب. إ.): بما أنّها تصنّف كرواية، فإنّ جماهيرها واسعةٌ ولا يمكن حصرها، جماهير من مختلف الأذواق والمشارب، منهم من نعرفهم في الحياة الثقافيّة ومنهم من هم متوارون عن أنظارنا، منهم كتّابٌ ومترجمون وصحفيّون، ومنهم قراءٌ فقط... ومرتكزًا على هذه النقطة أستطيع القول إنّ الجمهور العام لهذه الرواية هو قراء الرواية على اختلافهم، والجمهور الخاص لها هو الجمهور الذي تستطيع هذه الرواية، بعنوانها ومضمونها واسم كاتبها، أن تجذبه لقراءتها.
(ج): ما هي مشاريعك الأخرى/المستقبلية؟
(ب. إ.): غارقٌ الآن في كتابة روايتي الأولى، والتحضير لصدور مجموعتي الشعريّة الرابعة، وأيضًا العمل على بعض الأعمال الترجميّة التي ستصدرُ تباعًا خلال العام المقبل.
فصل من الرواية: الأحد الأخير في الريف
قرعت الأجراس في الهواء الهادئ والشاحب جرّاء الأمطار الأخيرة، واجتمع سكان بلويغ في مجموعاتٍ حول أبواب الكنيسة وتحدثوا بصوتٍ عالٍ عند انتهاء القدّاس الكبير. وقد انتشر في الشوارع والطرقات عددٌ قليلٌ من الخادمات اللواتي ينتظرن سيّداتهنّ، أمّهاتٌ سارعن لتخفيف العبء عن الرجل الذي يعتني بالأطفال. ذاب صوت القباقيب وانفتاح الأبواب والضحك الخفي واختفى مع وابل رنين الأجراس، وهو ما أخاف لوارن، إذ تجول حول البيوت إلى الشرق خجلًا من ملابسه الملطخة بالطين، وحذائه الملون ووجهه الحزين الفقير الذي شعر به، وعلى عجلٍ نجح بالوصول إلى مدخل طريق بلويغ – مونكونتور دون أن يلتقي بأيّ شخصٍ تقريبًا. وهناك صعد الخطوات الأربع التي تقطع سور الحديقة وسار على الأجمّة، ودون أن يطرق الباب دخل غرفة الطعام في منزل الأب هورتييه عميد الساحل السابق، والذي كان مقطوعًا مثل تلك الصخور التي نجد تشابهًا لرجل فيها ومتقاعدًا في أبرشية بلويغ. كان الأب قد أنشد القدّاس للتو ويستريح جالسًا على كرسيّ من القش ويداه متّكئتان على الطاولة أمام أدوات المائدة المعدّة لتناول الغداء. وكان ضوء النهار من النافذة قد أعمى عيونًا غير عينيه، عيون الصياد مع صفاء مياه البحر تحت الجفون التي سئمت من الفتح.
عندما جلس لوارن بالقرب منه، يمكن للمرء أن يرى هذين الرجلين أنّهما من نفس الطول، من نفس الجنس ومن نفس الروح تقريبًا.
أحبّا بعضهما البعض لفترةٍ طويلةٍ وكانا يسلّمان على بعضهما البعض في الشوارع دون أن يدور حديث بينهما، لذلك لم يتفاجأ الأب بأنّ لوارن أتى لإخباره بالحكم الصادر بحقّه. لقد استمع إلى كثيرين ولطالما عزّى لهذه المصائب: حداد الأزواج أو الزوجات، الهجر، الموت المبكر للأطفال، اختفاء ربابنةٍ ابتلعهم البحر مع سفنهم، إفلاس أصحاب الثروات، تفكّك الصداقات وعلاقات الحب... لدرجة أنه بقي في أعماق نظرته الواضحة ظلٌّ من التعاطف الذي لم يتلاشَ أبدًا حتى أمام السعيد. شعر جان لوارن بالشفقة من النظرة المصبوبة عليه كالبلسم.
لست بحاجةٍ لأن تروي لي شيئًا يا جان... قال الأب. هذا مثيرٌ للحزن، لذا لا تقل شيئًا. اذهب! فأنا أعرف كلّ شيء.
لا أعرف كلّ شيءٍ ولستُ سعيدًا على الإطلاق! قال المزارع. إنّني أتألّم كالذي هناك على الصليب.
وبإيماءة من رأسه أشار إلى صليب الجبس الصغير المعلق بالقرب من النافذة، الزخرفة الوحيدة في الغرفة البيضاء والعارية بالكامل.
نظر السيّد هورتييه إلى الصورة بهيئة التعاطف المتزايد نفسها وقال:
ليس كلّ امرئٍ يشبهه في الألم يا لوارن المسكين، هل يشبهك في المغفرة؟
لا أجرؤ على قول ذلك. ما الذي فعلته لتجعلني أسامحها؟
ما الذي نفعله بأنفسنا يا صديقي؟ ليس سوى مجرد كوننا ضعفاء وسريعين إلى الألم. آه! الفتيات الفقيرات في الوطن يغادرن في العشرين لإطعام أطفال الآخرين! لا يزعجك أنني أتحدث إليك بهذه الطريقة يا جان لوارن، لكنني اعتقدتُ دائمًا أنّه لا يوجد بؤسٌ مماثلٌ لهذا. عندما أرى منازل مثل منزلك، حيث يكون الزوج والأولاد بمفردهم، فإنّني في الحقيقة أقول لك إن أعظم ما أشعر به هو الشفقة على الزوجة التي رحلت.
ونحن؟ قال لوارن.
أنتم أيضًا ستبقون في أرض بريتانيا، في المنازل التي تحرسكم، وما زال لديك قريبٌ منك لتحبّه. لديك نويمي ولوسيين وجويل، ولديك حقولك حيث ينمو خبزك. لقد انفصلت عن كلّ شيءٍ في لحظةٍ وألقت نفسها هناك... إذا زرعت حفنة من حبوب الحنطة السوداء في مستنقعك، فهل تلومها على هزالها يا جان لوارن؟ إنّني متأكّدٌ من أن زوجتك دوناتيين كافحت، وأنّها أُغوِيت لافتقارها إلى دعمك ولأنّ ألم الحياة جديدٌ عليها... بحال عادت...
بذل المزارع جهدًا كبيرًا للإجابة فطلعت أوّل دموعه إلى طرف عينيه، وقال:
لا، لن تعود من أجلي، فقد توسّلت إليها وفضّلت أن تترك كلّ شيءٍ يباع!
إنّها أمّ أيضًا يا لوارن. قال الأب بهدوء. ربما في يوم من الأيام... سأكتب لها... سأحاول... أعدك بذلك.
ذات مرّةٍ في غمرة حزني اعتقدت أنّها ستعود لأجلهم. تابع لوارن. دائمًا ما أحبّتهم أكثر مني. فقط سنكون بعيدين.
أين ستذهب؟
مدّ الرجل ذراعه نحو النافذة.
إلى فونديه يا سيّد هورتييه، يبدو أنّ هناك عملًا للفقراء عندما يحين موسم اقتلاع البطاطا. سأذهب إلى فونديه.
هذه البادرة الغريبة أبرزت الأفق بأكمله، فبالنسبة إلى لوارن، شأنه شأن العديد من البريتانيين أمثاله، كانت فونديه هي بقيّة فرنسا، البلد الذي ينفتح شرقًا على بريتاني.
لن يعرف أحد أين يكتب لك بحال عادت.
مرت ابتسامة حزينة كنوعٍ من التعبير الطفولي على وجه المزارع المتألم وقال:
حسناً، في الحقيقة لديّ صورتها التي لم أرغب في تركها، كذلك لا يمكنني حملها لأنّها ستنكسر في الطريق، لذا أتمنى لو تحتفظ بها. وبخصوص الرسائل التي تتلقّاها منها، ضعها خلفها حتى أكتب إليك، وإذا عادت فستجد على الأقل شيئًا خاصًّا بها.
واقترب من المدفأة، وسحب من جيبه الإطار الصدفي الصغير الذي وضع فيه صورة زوجته في اليوم التالي لزفافهما وهي واقفة على الرف.
حاولت يده الخشنة المليئة بالندوب الانزلاق في الزاوية التي شكّلها الإطار الصغير مع الجدار وقال:
هذا هو المكان الذي ستضع فيه الرسائل خلف الصورة.
كان الأب هورتييه واقفًا، طويل القامة كلوارن وبكتفين أعرض من كتفيه. هذان العملاقان القاسيان على الحزن خففّا عن بعضهما البعض وتبادلا العناق للحظةٍ كما لو أنّهما يقاومان.
أعدك بكلّ شيء. قال الأب بجديّة.
كثيرٌ من الأشياء التي لم يقولاها ينبغي أن تكون مفهومةً ومتّفقٌ عليها من روحٍ إلى روح. لم يعودا يتبادلان كلمةً واحدة وانفصلا عن بعضهما البعض في الحديقة، ووجهاهما غير عاطفيين كما لو كانا اثنين من المارة في الحياة، بدون ذكرياتٍ وبدون اتصال.