(منشورات المتوسط، ميلانو، 2022)
[خضر الآغا، شاعر وكاتب سوري مقيم في ألمانيا - هامبورغ. أصدر العديد من الكتب في الشعر والدراسات منها: كتب يقول، أنوثة الإشارة، الجاهلي الذي أنا، البياض المهدور - مقدمة للشعر الجديد في سوريا، مابعد الكتابة - نقد إيديولوجيا اللغة].
جدلية (ج): كيف ولدت فكرة الكتاب وما هي منابعه وروافده ومراحل تطوره؟
خضر الآغا (خ. آ.): في مقدمة الكتاب ذكرت كيف ولدت فكرته. فقد طلب إلي معلم اللغة العربية، وأنا في المرحلة الإعدادية، أن أكمل الشطر الثاني لبيت من الشعر الجاهلي، وكنت لا أحفظه، فاضطررت لأن أكمله بجملة ما.. وقد أدهشني المعلم حين قال: الشاعر لم يقل هذا، لكنه صحيح! المعنى نفسه، والوزن نفسه.
فيما بعد، وقد بدأت الانتباه إلى الشعر والاهتمام به، وتوقفت عن النظر إلى ذلك الموقف على أنه مجرد موقف طريف، تذكرت تلك الحادثة وتساءلت: ما الذي يجعل طالباً في المرحلة الإعدادية يُكمل بيتاً لشاعر جاهلي بما فيه من صعوبة بالغة في الألفاظ والأوزان، خاصة أننا لم نكن تعلمنا العروض بعد؟
بقي السؤال يراودني إلى أن بدأت أقرأ الشعر القديم، ما قبل الكتابة، الشعر الذي حفظه الناس عبر آلاف السنين، قبل أن يخترعوا الكتابة ثم يدونوه؛ الشعر الشفوي! وخلال ذلك عرفت أن الشعر الشفوي لم يكن مجرد شعر غير مكتوب أو مدوّن، بل إن له خصائص دقيقة تجعل منه شعراً شفوياً. من أهم هذه الخصائص: الصيغة. أي: العبارة الجاهزة التي تنطوي على وزن. الأمر الذي يعني أن شعراء باذخين كامرئ القيس، وطرفة بن العبد، والشنفرى، وغيرهم... كانوا شعراء صيغ! يتداولون العبارات الجاهزة ويتبادلونها ويتناقلونها جيلاً إثر جيل. وأن ذلك الشعر العظيم المكتمل على نحو لا مثيل له هو شعر صيغة. الشاعر الشفوي يستخدم صيغة من الصيغ المحتشدة في ذاكرته كلما وجد ضرورة لذلك، طالما أنها تحمل القيمة الوزنية التي لقصيدته ذاتها، ودون أن يعبأ أن شاعراً ما قبله أو معاصراً له استخدمها، فالصيغة ليست ملكاً لأحد.
عندما أكملت البيت الشعري بجملة ما، أكملته، حقيقة الأمر، بصيغة من الصيغ التي كنت حفظتها من خلال الشعر الجاهلي الذي كنا نتعلمه في المدرسة، أو كنت أسمعه من أبي وأصدقائه، وقد استطاعت ذاكرتي اختيارها متناسبة إيقاعياً مع وزن القصيدة، فكما أنني اخترت صيغة مناسبة، وزنياً على الأقل، كذلك فعل الشاعر الشفوي، غير أنه استخدمها قاصداً، مدرَّباً، احترافياً، ووفق المعنى الذي أراد، ووفق أسلوبه في استخدام الصيغ.
من تلك الدهشة التي انتابتني لمّا قال المعلم ذلك، ولد هذا الكتاب.
(ج): ما هي الأفكار والأطروحات الرئيسة التي يتضمنها الكتاب؟
(خ. آ.): يتتبع الكتاب أصول الشفوية الأولى، ما قبل الكتابة، منذ هوميروس وفق ما سمي بـ"المشكلة الهوميرية"، التي تعني الشك بوجود شاعر اسمه هوميروس، الأمر الذي يعني تعريف الشفوية، ولماذا كانت، ماهي خصائصها... وقد توصل دارسو الشفوية إلى أن ثمة خصائص رئيسة يقوم عليها الشعر الشفوي، أهمها وبنيتها الأساسية هي الصيغة كما ذكرت قبلًا. وقد اضطرني البحث أن أدخل في جدل الشعر الجاهلي؛ حيث انقسم دارسوه بين رأيين تجادلا على نحو عظيم سواء في التراث العربي أو في العصر الحديث: ثمة من قال إن الشعر الجاهلي كتابي وثمة من قال إنه شفوي. من اعتبره كتابيًا نظر إلى الشفوية على أنها مرحلة متدنية لا يجب أن يوصف بها الشعر العظيم لامرئ القيس وعنترة وعمر بن كلثوم وغيرهم... وثمة من نظر إليه بوصفه شفويًا بدلالة العصر الذي وجد فيه حيث لم تكن الكتابة قد عُرفت بعد، إلا على نطاق ضيق لا يؤهل مرحلة تاريخية كاملة أن توصف بها. ونتيجة اطلاعي على النظرية الشفوية الذي دخلت حديثًا ثقافة العرب، فقد اعتبرته شفويًا، وأسميت الفصل الذي يناقش ذلك بـ الشفوية الجاهلية.
ثم بحثت عن الشفوية في العصر الحديث، العصر الراسخ في الكتابة، من خلال الشعر العربي الحديث الممتد منذ خمسينات وستينات القرن العشرين حتى الآن، فظهر لي أن الشفوية عادت في عصر يُفترض فيه أنه تجاوزها منذ قرون.
(ج): ما هي التحديات التي جابهتك أثناء البحث والكتابة؟
(خ. آ.): التحدي الأكبر كان هو المراجع. وقد كنت فكرت أن تكون مقدمة الكتاب بعنوان: نقد مراجع هذا الكتاب. إلا أن فكرة ولادته كانت الأكثر صحة لمساعدتي على إيضاح فكرتي ومناقشتها. فالبحث عن دراسات تتعلق بالشفوية، خاصة العربية، كان أشبه بالبحث عن إبرة وسط كومة من القش! لاسيما أنني دخلت في شعر الحداثة العربي (خمسينات وستينات القرن العشرين)، ثم في شعر السبعينات وما بعدها، لأتوصل إلى الفكرة الأساسية وهي عودة الشفوية بصيغ وطرائق أخرى. ولم أعثر على مراجع عن الشفوية بعد المرحلة الجاهلية.
(ج): ما موقع هذا الكتاب في مسيرتك البحثية\النقدية\الإبداعية؟
(خ. آ.): ليس لدي ادعاءات كبرى في الكتابة، وبناء عليه فإنني أرى أن هذا الكتاب هو استجابة لفكرة شغلتني وتقع ضمن اهتماماتي الثقافية من جانب، ومن جانب آخر يُكمل ما بدأته في أول كتاب نقدي لي والمتمثل في أن النقد الأدبي وصل إلى مرحلة لم يعد له فيها جدوى، وحل محله ما يمكن تسميته بـ النقد المحايث الذي لا يقرأ النص نصيًا، أو بنيويًا فقط، بل يقرأ البيئة التي أنتجته والظروف الاجتماعية والثقافية والسياسية التي ولد فيها، وربما الموقع الثقافي للكاتب أيضًا وغير ذلك.. وهذا مافعلته في أول كتاب وفي آخر كتاب (لحد الآن).
(ج): هل هناك نصوص ذات تأثير خاص أو قرأتها أثناء تأليف الكتاب؟
(خ. آ.): طبعا، فقد قرأت بمتعة لا توصف كتاب "مصادر الشعر الجاهلي وقيمتها التاريخية" لـ ناصر الدين الأسد. واستفدت على نحو بالغ من مجادلاته العظيمة مع كتب في التراث العربي وكتب في العصر الحديث، وبمعلوماته الغنية والذكية حول الأفكار التي عرض لها وناقشها جميعها، وأزعم، بكثير من الحياء، أنني اختلفت معه حول الشعر الجاهلي؛ فهو رآه كتابياً وقد رأيته شفوياً!. ومع أنني كنت قرأت الكتاب في مرحلة سابقة، إلا أن إعادة قراءتي له أثناء تأليف هذا الكتاب جعلتني أشعر أنني اكتشفته مجدداً، فقد ارتبطت قراءتي له بمصلحتي معه وفيه، وهذا يؤكد، على نحو ما، ارتباط المعرفة بالمصلحة التي ناقشها الفيلسوف الألماني يورغن هابرماس! وكذلك كان لمجادلات طه حسين العظيمة مع كتّاب عصره أثر عظيم، وغير ذلك من نصوص وأفكار.
(ج): كيف يتموضع هذا الكتاب في الحقل الفكري/الجنس الكتابي الخاص به وكيف سيتفاعل معه؟
(خ. آ.): أعتقد أن هذا الكتاب يقع في حقل النقد الثقافي. فقد بحثت فيه عن الأنساق الثقافية الكامنة وراء المقولات والسلوكيات الثقافية، سواء في العصر الشفوي الغارب أو في مرحلة الحداثة الشعرية العربية وما بعدها، ويمكن أن ينتمي أيضًا إلى النقد المحايث، حيث حاولت معرفة متى تم الانتقال من الشفوية إلى الكتابية عربيًا، وما هي الظروف الاجتماعية، وحتى العمرانية، التي أدت إلى ذلك وساعدت عليه. النقد الثقافي (والمحايث)، وليس النصي، هو الذي يضيء تاريخ الأفكار ويبين أسباب نشوئها، ويساعد بدوره على إضفاء القيمة عليها أو نزعها عنها، بما يعني اتخاذ موقف سلوكي وثقافي منها.
(ج): من هو الجمهور المفترض للكتاب ومن القراء الذين تأمل أن يصل إليهم؟
(خ. آ): بعد مرحلة متقدمة من الكتابة والقراءة والعمر يكتب الكاتب بصرف النظر عن النتيجة، ويكون سؤال القراءة متخفيًا، أو بالأحرى يظهر ويختفي مثل شيء تريده ولا يأتي، أو يأتي ولا تريده. مع ذلك فهو كتاب للمهتمين ليس بالشعر فحسب، بل بالنقد عموماً، وبالنقد الثقافي (والمحايث) على وجه الخصوص، كذلك يمكن للقارئ العام قراءته لما يتضمنه من يوميات و"نمائم" وسياسة لمرحلة طويلة من تاريخ العرب الحديث، وتاريخ سوريا بصفة خاصة.
(ج): ما الجديد الذي يضيفه الكتاب بالمقارنة مع الكتب الأخرى التي تتناول موضوعات مشابهة؟
(خ. آ.): أخشى أن تنطوي الإجابة على ادّعاء أوتشاوف! حاولت أن أطرح سؤال الشفوية في عصر كتابي راسخ وله تقاليد عريقة في الكتابة. وحاولت أن أبين أن شعر الحداثة العربية شفوي في قسم كبير منه على الرغم من اعتباره كتابياً وادعاء أصحابه ونقاد تلك المرحلة والمراحل اللاحقة ذلك! ثقافيًا ونقديًا تُعتبر مرحلة الحداثة الشعرية المرحلة الأبهى في تاريخ الشعر، وأن شعراءها أنبياء، وتبدو هذه التوصيفات مسلم بها، إلا أنني اعتبرت أنها المرحلة التي أنتجت فضيحة شعرية اسمها شعر الحداثة أو الشعر الحديث، وأنها مرحلة كانت تحفر قبر الشعر العربي في الوقت الذي كانت تدعي فيها تحريره... حاولت أن أبين أنه كما توجد شفوية "حكي وثرثرة"، فإنه توجد أيضًا شفوية مضادة مثّلتُ لها بـ رياض الصالح الحسين، على سبيل المثال. كذلك حاول الكتاب أن يجعل من يوميات الناس و"نمائمهم" مداخل نقدية في الأدب والشعر والثقافة.
(ج): ما هي مشاريعك الأخرى - المستقبلية؟
(خ. آ.): أنا الآن في طور المراجعة الأخيرة -ربما- لكتاب يتضمن نصوصًا حول سوريا الثورة والحرب واللجوء والمنافي و"الشرشحة". ليست نصوصًا شعرية أو أدبية بالمعنى المتعارف عليه، بل يمكن تسميتها "نصوصًا مختلطة" تنطوي على يوميات وفكر وسياسة وشعر وبكاء وشتائم... ليس لها بناء الشجرة من جذر وجذع وساق وفروع... بل هي أشبه بطفح العشب. نصوص تشبه الربيع العربي الذي يحتوي على حناجر ورقص وغناء وسخرية وموت وهروب وتحدٍّ وسجون ولجوء.
مقتطف من الكتاب
المرحلة الشعرية الأكثر حسماً هي مرحلة الحداثة التي كرستها وأشاعتها مجلة "شعر" التي أسسها يوسف الخال وأدارها مع أدونيس. تعتبر حركة الحداثة الشعرية العربية حركة ثورية وطليعية. فقد انقلبت على تاريخ طويل وصارم من الشعر العربي، ودعت لتجاوز الشعر الذي توقف طويلاً عن النمو وعن الاهتمام بقضايا الإنسان وشؤونه. (...) اتسع طموح حداثة الشعر العربي البازغ، وأنيطت بالشعر مهام برومثيوسية. وأعيد مفهوم الشاعر – الإله، والشاعر - النبي على نحو لا مثيل له! ولم تتوقف الأفكار عن التوالد، ولم يتوقف الشعراء عن الكتابة، وضمن البروباغندا الصحافية القوية والشديدة الانتشار آنذاك، خاصة في بيروت: المقر الأساسي لانطلاق مجلة “شعر”، تحوّل حداثيو العرب إلى نجوم في الثقافة والإعلام والمنابر، وتحولوا إلى سلطة جاهزة للانفجار في وجه من يحاول الاقتراب منها نقداً، ولو غير مسلّح!
الكثير من الشعراء العرب انخرطوا في حركة الحداثة تلك. وضمن هاجس التجديد والتغيير والتجاوز كتبوا ما لا يتقاطع، يميناً وشمالاً، مع تقاليد القصيدة العربية على مختلف مراحلها، لا يتقاطع حتى مع الشعر الذي اتفق العرب على أنه قوي! كتبوا لغة لا تشبه العربية، كما أنها ليست أجنبية، لغة جعلت القارئ مضطراً للتعامل مع النص كما لو أنه يتعامل مع حجر من الصوان، أقاموا علاقات بين الكلمات جعلت الوصف المباشر لها ينحصر في الركاكة، وتم اقتراح مصطلح "مسافة التوتر" لقياس العلاقة بين الكلمة وما تدل عليه، فكلما اتسعت المسافة كلما اتسع المعنى، لكن ما حدث لديهم أنهم أنتجوا، انطلاقاً من ذلك التوتر في المسافة، صوراً شديدة الوعورة والقبح، لا طائل من ورائها ولا تؤدي إلى شيء! كتبوا لغة لا هي لغة القاموس العربي، ولا هي لغة الناس في يومياتهم، ولا هي لغة الكتّاب في أحاديثهم أو كتاباتهم، كما أنها ليست لغة شعرية خاصة! حشد فظّ وغليظ من الألفاظ والتراكيب، و"مسافات توتر" وعرة مفروشة بالحجارة والأسلاك الشائكة والهباء، لغة ملمومة من هنا وهناك لا ناظم لها وبلا أفق.
وقد وقعت الثقافة العربية من حيث تدري أو لا تدري في هذه الأفخاخ التي أعدّتها لها الحداثة تحت يافطة: إما أنت مع التقدم والتطور وإنقاذ العرب من جهلهم وتخلفهم، أو أنت ضد بعثهم وتطويرهم وجعلهم متقدمين... فإذا كنت لست (شبّيحاً) لشعر الحداثة، فأنت متخلف ورجعي وما إلى هنالك، مما يُعتبر -حسب معطيات المرحلة آنذاك- كفراً وموتاً ثقافياً. وفي تلك المرحلة لم يكن للمثقفين العرب النقديين قدرة على عدم الانصياع لما تطلبه الحداثة تحت تلك اليافطة!
المصيبة أيضاً، أن بعض من وقف ضد ذلك، لم يقف ضد التّحقّق الشعري (أو التنظيري) لتلك المرحلة، لم يكشف عن الخلل الفني، والخلل في مضامين الشعر لتكون حجته مسموعة، بل وقف ضد فكرة الحداثة برمتها، وشاب تلك المواقف حسابات شخصية مع شعراء تلك المرحلة، عدا الصراعات السياسية التي أنتجت إما مدونة مضادة لشعر الحداثة، وإما مدونة تعلي من شأنه، وهذه التشابكات أفقدت النظر بجدية إلى بعض كلام النقد الحق، وبدا الأمر على أنه نقد بعيد عن الشعر وعن الثقافة.
أما القول الذي قدمه بعض شعراء الحداثة عبر هذه اللغة الوعرة، فهو القول السياسي والإيديولوجي، فقد بدا هؤلاء الشعراء مقاتلين على مذبح حرية شعوبهم وبلدانهم! وينتظرون ويصرخون بأعلى صوتهم ليقوم تموز من موته، ومعه يقوم العرب وأهالي المنطقة من كبوتهم! وقرّعوا الشعوب العربية وشتموها شتماً لا هوادة فيه لعدم قيامها بثورة شاملة ضد الظلم والطغيان..! والطريف أن هؤلاء أحبوا المرأة ذاتها، وتعذبوا العذاب ذاته لأجلها أو بسببها! ولإضفاء طابع شخصي على المأساة فقد خرجوا صفّاً واحداً من قراهم في تغريبة شعرية مريرة ليصطدموا بجدار المدينة الكتيم، تلك المدينة التي لا تعرف من هم، ولا تعرف قدْرهم، ولا تعرف أنهم شعراء، فأصابهم الحنين لقراهم الوادعة معاً، ودفعة واحدة..
لا يمكن إنكار أنهم حاولوا، بجدية، تقليب مفهوم غموض الشعر واستكشاف خفاياه، واقتنعوا بتلك الفكرة الشائعة في أن الشعر غامض بطبيعته. ونحن حتى لو اقتنعنا بذلك، فإننا لن نقتنع أن الشعر الذي كتبوه، في غالبيته، غامض بطبيعته لأنه ينطوي على مقومات الشعر ويتوه في سراديبه، بل هو ليس غامضاً أصلاً، وإن عدم فهمه كامن في ركاكته، وفي تلك اللغة المتكسرة التي كتبوها، وذلك التوتر المريع للمسافة بين الكلمة وما تدل عليه من جهة، وبين الكلمة وجارتها من جهة أخرى. أما أن نبرر كل غموض، وكل عدم فهم بالغموض الذاتي للشعر، فتلك خديعة لم تعد تنطلي على أحد بعد انكشاف الفضيحة الشعرية التي سميت "الشعر العربي الحديث"، أو "شعر الحداثة العربية" في غالبيته.
لقد ظهر أن العرب ظلوا طيلة المرحلة الحديثة والحداثية لشعرهم، تقريباً، بلا شعر، وأنها واحدة من أكثر المراحل الشعرية العربية بؤساً وانحطاطاً وخداعاً.
كرّس ذلك وجعله واقعاً مريراً تسخير إعلام الأنظمة السياسية الناشئة آنذاك، وتلك التي نشأت لاحقاً لهذه الموجة الشعرية الكاسحة وللثقافة الكامنة خلفها، أو الثقافة التي نتجت عنها، حيث إن المبرر القوي لبقاء الأنظمة السياسية في السلطة هو الأفكار ذاتها التي تبناها الشعر الحديث: التغيير والتحرير والتحرر ومواجهة الرجعية في الداخل والإمبريالية والصهيونية في الخارج... هذه الأفكار التي اكتسبت مشروعيتها التاريخية والثقافية عبر التبني والترويج الشعري لها الذي استمر أكثر من خمسين سنة، دفعت الشعوب العربية، وشعوب المنطقة، ولم تزل تدفع أثمانه الباهظة. كان النظام السياسي العربي بحاجة لرديف ثقافي، فكان أن وجد في طروحات الحداثة الشعرية العربية نظاماً ثقافياً يبرر بقاءه في القمع والعسف والديمومة تحت يافطة أفكار الشعراء الكبرى ذاتها! شكلت هذه الحداثة إحدى الجذور المؤسسة للاستبداد إذاً!. وإن ظهور بعض الأصوات المتمردة على (مؤسسة) الحداثة، ومن قلب تلك (المؤسسة) لم تنفِ الطابع العام لتوجهاتها، ولم تؤثر على قولها وأدائها العامين!
النظام السياسي العربي والنظام الثقافي العربي تبادلا خلق بعضهما بعضاً، كما تبادلا الفائدة: كلا النظامين تأسس على التأبيد فلا يتغير ولا يتبدل، وواصل إنتاج الأفكار والوضعيات التي تحقق له شروط بقائه على العرش مهما حدث في هذا العالم، وكلاهما منح الآخر كافة الطرائق والوسائل التي تبقيه مهيمناً، وكلاهما أمعن في طغيانه، فقد أخذ السياسي من حداثة العرب الشعرية الأفكار التي تبرر طغيانه، ونال الثقافي، الشعري هنا، حرية خلق طغاة صغار في الشعر والثقافة كلما وجد ضرورة لذلك! فطغيان النظام السياسي يلزمه طغيان النظام الثقافي، فكلاهما، كما ذكرت، صنيعة بعضهما بعضاً.
وعندما تكشّفت الأنظمة السياسية عن دكتاتورية وشمولية غير مسبوقتين، الأمر الذي وضع المثقفين أمام موقف أخلاقي إن لم يكن سياسياً، فكان لا بد لهم من الإعلان عن موقف من هذه الأنظمة، وعلى اعتبار أنهم يشكلون المنظومة الثقافية لهذه الأنظمة، وعلى اعتبار أن الثقة متوفرة بين النظامين اللذين هما قفا الورقة ووجهها، فكان أن أعلن الكثير من شعراء الحداثة عن موقفهم المعارض لهذه الأنظمة.. لكن حدث أن بطشت الأنظمة السياسية بمعارضيها الآخرين: سجناً ونفياً وتشريداً وقتلاً... فيما أبقت على بعض الشعراء والكتاب الحداثيين كواجهة معارضة لا تفعل أي شيء، أي شيء يسيء لنظامها السياسي، بل على العكس، لم تنفك تؤازره في ادعاءاته تحرير الأراضي المحتلة، ومواجهة المشاريع الخارجية والداخلية الهادفة إلى القضاء على بذور المقاومة...!
وعلى اعتبار أن الكثير من شعر الحداثة غائم واستعلائي ولا علاقة له بشؤون الناس، ولا بأي واقع معاش، لا يقول شيئاً كأنه لا يخص أحداً، وذلك تحت يافطة التوغل في طبقات اللغة وما ورائها، ككلام حق يراد به باطل، فهو، إذاً، لا يشكل عبئاً على طغاة السياسة وعسفهم..، أليس شعر الحداثة (غامضاً)؟!