ليس لورنس فيرلينغيتي شاعراً عادياً، فهو ينتمي إلى صنف من الشعراء الذين يرون أن جوهر الشعر يكمن في فنيته، وأن القصيدة رسمٌ بالكلمات كما اللوحة رسم بالألوان، إلا أن قصيدته ترفض أن تكون مجرد ترف أكاديمي، وموضوعاً لأطروحات الدكتوراه. يريد من الشعر أن يقترب من عامة الناس، أن ينزل إلى الشارع، وأن يسمعه الجميع، إنها ديمقراطية الشعر، الذي يجب أن يكون متاحاً في جميع الأمكنة، ولكن هذا الانفتاح الشعري على الناس لا يعني انحدار القصيدة إلى مستوى التقرير أو البيان السياسي، بل يجب أن تحافظ على جمالياتها وعلى لغتها الشعرية وحتى على غموضها المنفتح على التأويل. فمن الذي يستطيع أن يحدد طبيعة الجمهور، ويقسمه إلى جمهور نخبوي وآخر عام، أو جمهور مثقف وآخر جاهل؟ هذه ألعاب لا تمر على فيرلينغيتي، ويعتبرها ضد الشعر، بالتالي إن الناس في رأيه قادرون على الفهم وعلى تذليل الغموض وعلى أن يعيدوا خلق القصيدة عبر الاستماع والقراءة والمشاركة. وبالتالي فالشعر يجب أن يصل إلى الناس الذين يصنعون الحياة وتمتلئ بهم الشوارع والمقاهي والمطاعم وساحات الإضرابات والمظاهرات. وعليه فإن القصيدة الحقيقية تخاطب هؤلاء وتشعل ناراً في برد حياتهم وتثيرهم وتحمسهم وتفتح حواراً معهم بدلاً من أن تقضي حياتها في ثلاجات الأكاديميين حيث لن يُفك جليدها إلا بعد أن تصبح موضوعاً لدرس أو أطروحة أو ندوة مغلقة.
كان فيرلينغيتي شاعراً يعرف كيف يكتب عن القضايا الكبرى ومن أية زاوية يدخل وكيف يربطها بالتفاصيل الصغرى موحياً ومشيراً، كما أنه يعود إلى الطبيعة ويكتب عن الضوء كما لو أنه رسام، ويتابع تشكل الضباب وانحلاله وتدفق نور الشمس وهبوط الليل، ويقرأ في ماء البحر الحياة وتقلباتها، خالقاً أجواء قصيدته من مفردات هذه العوالم وقد اختلطت بالتاريخ العام والتاريخ الشخصي وبالذكريات وتفاصيل الحياة اليومية وسياسة العصر، وكل ما يجري حولنا، ما يجعل القصيدة ابنة اللحظة الواقعية والتي هي نتاج تشابكات وتواريخ لا نهاية لها. يولد الشعر لديه كالومض في ليل القارىء ويضيء له كاشفاً دروباً لم تسلكها قدماه من قبل.
لورنس فيرلينغيتي شاعر ومسرحي وناشر وناشط سياسي، ولد باسم لورنس مونسانتو فيرلنغ في ٢٤ آذار، ١٩١٩ في نيويورك. وكان والده مهاجراً إيطالياً. عاش فترة شباب عصيبة ومؤلمة وبائسة، ورغم ذلك قاوم ودرس، وحين تخرج من الجامعة التحق بالبحرية الأمريكية، وبعد تسريحه استفاد من قانون إعادة تكييف العسكريين، المعروف بإسم "قانون جي آي" وواصل دراسته. حصل على الماجستير من جامعة كولومبيا في ١٩٤٨، وأكمل الدكتوراه في جامعة باريس في ١٩٥١. ثم انتقل إلى سان فرانسيسكو حيث لعب دوراً في النهضة الأدبية فيها في الخمسينيات ولعب دوراً محورياً في تأسيس ما سُمي بحركة البيت. ألف أكثر من ثلاثين مجموعة شعرية بينها "قصائد سان فرانسيسكو" (٢٠٠١)، "هذه أنهاري، قصائد جديدة ومختارة"، ١٩٥٥-١٩٩٣، "كيف نرسم ضوء الشمس: قصائد غنائية وقصائد أخرى"، ١٩٩٧-٢٠٠٠. حصل على جوائز شعرية رفيعة أمريكية وأوربية بينها وسام الفنون الفرنسي. توفي في ٢٠٢١ بعمر مائة وسنة. عاش في مدينة سان فرانسيسكو حيث سمي أحد شوارعها باسمه بعد وفاته. اخترنا هذه القصائد من كتاب صدر حديثاً بعنوان "القصائد الأعظم لفيرلينغيتي"، والذي حررته نانسي جي. بيترز.
١- مع بيكيت
حلمتُ ليلة أمس أنني رأيتُ صامويل بيكيت
يسير في الحديقة الصغيرة
خلف البناء المظلم الكئيب
لكاتدرائية نوتردام
وكانت أوراقُ أشجار كستناء الخيل
ترتعشُ تحت المطر.
كان يرتدي معطفاً مهترئاً
من نسيج صوفي خشن
ياقته مرفوعة للأعلى
ظننتُ أنه خرج لتوه
من مسرح دي لا بوش
حيث قُدِّمَت بالفرنسية توّاً للمرة الألف
مسرحية "بانتظار غودو".
ولقد جلس على مقعدٍ مبلل
متظاهراً بأنه يبكي وهو يضحك
وبأنه يضحك وهو يبكي
وكنتُ أجلسُ معه هناك
تحت أشجار الكستناء
ياشبيهي، ياأخي!
٢- الضوء المتغير
الضوءُ المتغيّرُ في سان فرانسيسكو
ليس من صلب ضوئكم في الساحل الشرقي
ولا من صلب
ضوئكم الباريسي اللؤلؤيّ
إن ضوء سان فرانسيسكو
ضوءُ محيطٍ
ضوءُ جزيرةٍ
وضوءُ ضبابٍ
يغمرُ التلال
متقدماً نحو الداخل في الليل
عبْر "البوابة الذهبية"،
كي يستلقي على المدينة فجراً
ثم تعقبه صباحات هادئة متأخرة
بعد أن يحترق الضباب
وترسم الشمس المنازل البيضاء
بضوء اليونان البحري
بظلال نظيفة حادة
تجعل المدينة تبدو
كأنها رُسمت للتو
لكنّ الريح تهب في الساعة الرابعة
كانسةً التلال
ثم يجيء حجابُ ضوء أوائل المساء
تتبعه ستارةٌ أخرى
حين يطوف ضباب الليل الجديد
داخلاً
وفي وادي الضوء ذاك
وبعد أن تتحرر المدينة
من مراسيها
تندفع في المحيط.
٣- قواميس الضوء
الشمسُ الشمسُ
شارفتْ على الشروق
كفارسٍ متوهج من الزمن القديم
يعدو في المنظر الطبيعي
على خيول الصباح
هازاً رمحه فوقنا
مِن خدر الليل
يُوقظنا كي نتحدّث أو نغنّي
كي نطرد الموت والظلام
كلُّ حصان كلمة
كلُّ فعلٍ حصان
رُبيا ضد كل أنواع الجهل
كراديكاليين غير مروضين
في قواميس الضوء.
٤- تاريخ الطائرة
(الموسيقى: النشيد الوطني الأمريكي بنصف السرعة)
وقال الأخوان رايت[١] إنهما ظنا أنهما اخترعا شيئاً ما يمكن أن يُحقق السلام على الأرض (شرط ألا يقع في يد الأخوة الخطأ) حين أقلعت آلتهما الرائعة من كيتي هوك إلى مملكة الطيور، لكنّ الهلع دبَّ في برلمان الطيور من هذا الطائر الذي صنعه إنسان وهرب إلى السماء.
ثم أقلعت "روح سينت لويس"[٢] المشهورة نحو الشرق وطارت عابرة "البركة الكبيرة"[٣] وكان ليندي في غرفة التحكم يرتدي خوذته الجلدية ونظارته الواقية آملاً أن يشاهد حمامات السلام لكنه لم يرها رغم أنه دار حول فرساي.
ثم أقلعت اليانكي كليبر[٤] باتجاه معاكس وحلقت فوق المحيط الهادي الرائع، لكن حمامات المحيط الهادي خافت من هذا الطائر البرمائي الغريب واختبأت في السماء الشرقية.
ثم أقلعت الحصن الطائر[٥] المشهورة مليئة بالمدافع والتيستوستيرون كي تجعل العالم آمناً، بالسلام والرأسمالية، بيد أنه لم يُعثَر على طيور السلام في أي مكان لا قبل ولا بعد هيروشيما.
وهكذا صنعَ الرجال الأذكياء آلات طائرة أكبر وأسرع، وحلقت هذه الطيور الكبيرة التي صنعها الإنسان بريشٍ نفاثٍ أعلى من أية طيور حقيقية وبدا كأنها ستطير إلى الشمس وتذوب أجنحتها وتسقط مثل إيكاروس على الأرض.
أما الأخوان رايت فقد نُسيا منذ مدة طويلة في القاذفات التي حلقت عالياً وشرعت الآن تقدم بركاتها في عوالم ثالثة متنوعة زاعمة طوال الوقت أنها تبحث عن حمامات السلام.
وواصلت تحليقها وطيرانها إلى أن طارت مباشرة إلى القرن الواحد والعشرين. ثم في أحد الأيام الجميلة ردّ عالَمٌ ثالث الضربة، اقتحم الطائرات العظيمة، وطار بها مباشرة إلى القلب النابض لناطحة السحاب أمريكا حيث لم يكن هناك أقفاص طيور ولا برلمانات حمام وفي وميض يسبب العمى صارت أمريكا جزءاً من تربة العالم المحروقة.
تهبّ ريحُ من الرماد فوق الأرض
وللحظة واحدة طويلة في الأبدية
ثمة فوضى ويأس
وحالات حب وأصوات مدفونة
وصرخاتٌ وهمسات
تملأ الجو
في جميع الأمكنة.
٥- أسنان التنين
رجلٌ مقطوعُ الرأس يجري
في الشارع
يحملُ رأسه المقطوع
بين يديه
امرأةٌ تركض خلفه
تحملُ قلبه
بين يديها
وثمة طائراتٌ بلا طيار
تواصل قدومها
فيما الأشخاص يواصلون ركضهم
في شارع ترابي
لا أعني الشخصين ذاتهما
بل آلافاً من الآخرين والأخوة
وكلهم يهربون راكضين
من طائرات بلا طيار
تبذر كراهية صرفة
ومقابل كل طائرة بلا طيار تمرّ
فوق الناس الراكضين
يقفز ألف أسامة بن لادن
ألف إرهابي جديد
كأسنان التنين التي تبذر
والتي يقفز منها محاربون مسلحون
صارخين مطالبين بالدم والثأر.
٦- في البحر
(إلى بابلو نيرودا)
البحرُ من خلال الأشجار
بعيدٌ
ومتوهّجٌ
الواجهةُ المظلمة
جدارٌ حجري
بأشنات
ملحٌ قديم
يتوضّع محدقاً
إلى البحر
ريحٌ تؤرجحُ أشجارَ النخيل
أحياناً
نهار آخر يستعدّ
للحرارة والصمت
طائرةٌ صغيرة
تئزّ كذبابة
تزعج السماء
يأكلها الجو
بعيداً على البحر الغافي
يزحفُ مركب للصيد
الريحُ الآتية من الجنوب
تدفعُ الطعم في فم السمكة
البحرالمتثائبُ
يبتلع مركب الصيد
الأشنات تعيش
في حجرها البركاني
هادئة
أبدية
تنتظر دورها
في دورة الشمس
لن أعود أبداً إلى هنا
لن أتنفّس مرة أخرى
هذه الريح
على هذا الساحل البعيد
في رحابة هذا الصباح
حيث يهمسُ البحر
الصبرَ والملحَ
الشمسُ تحرق السماء
وتسقطُ كعود ثقابٍ مطفأ
في الليل
ما أزال حيواناً
ربما كنتُ مرة طائراً
طائر قاوند
يبني عشه في البحر
في طيراني القصير عبر
الخريطة الصغيرة
لوجودي
الحياة تستمر
ملؤها الصمت والصخب
في المدن الرمادية
في القرى البعيدة
في المدن البيضاء قرب البحر
حيث أواصل
كتابة حياتي
لا بالدم ولا بالنبيذ
ما زلت أنتظر تجلياً
قرب طبق بتري البحر
حيث بدأت الحياةُ
بالسباحة
غير أنه حان الوقتُ الآن
لحساب كل شيء
لشرح كل شيء
مثل:
لماذا هناك ظلمة في الليل؟
البحر يرتفعُ في جميع الأمكنة
هل سأغرق
مع بقيتهم
مع كل حيوانات الأرض
ويجرفنا المحيط بعيداً
أتحدث بشكل صاخب
في هذه اللحظة الهائلة
من تغير البحر الكارثي
بينما يختفي عالمنا الصغير
في زلزال للمحيط وخوف
على إيقاع همهمة العقل المتوسط لأمريكا
بينما المعتوهون الذين يرتدون ربطات العنق
يتساقطون من الأشجار؟
لا يهم إذاً
إذا انتهيتُ
في منزل متمردين
في جادة دي لوس كومون
أو أن أُطْرح
دون أن أفهم لماذا
في كوخ عم والدي ديسير
على الشاطئ في
سينت توماس
اعذروا سلوكي
إذا كنتُ لا أستطيع أن أقدم لكم
أي جواب نهائي،
أية نظرية نهائية متكاملة عن الوجود
لقد امتُص الفكر كله
في فكرة عظيمة واحدة
(رؤية طوباوية!)
بشر بكل أصواتهم
وأعدادهم التي لا تُحصى مثل
مقاطع البحر
لم يتمكنوا أبداً من سبر
مصير الإنسان
أو أن يخبرونا لماذا نحن هنا
مع ذلك سنظل
أحراراً كالبحر
كي لا نكون أي شيء سوى
ذواتنا الظلية
نتسكع على الشاطئ
كلنا في النهاية
في الزمن المستقبلي
حين تتوقف الأمم عن الوجود
وتمشط جحافل عرقية الأرض
بحثاً عن الطعام والمأوى؟
لستُ عليل الجسم ولا رائقاً
في وجه كل هذا
في بحر كل يوم
بمدّه وجزره
أركضُ أمام الريح
مَحصّناً ضد المرجان المخبأ أو الموانئ
أحدٌ ما يرمي لي
فاكهة كريستالية
على شكل حافظات للحياة
آخرون يلوّحون
من شواطئ بعيدة
وداعاً! وداعاً!
طُرحتُ على الشاطئ مرة ثانية
ابيضّ لوني
سأذهب إلى الغابات مرة ثانية
بأشجارها العريقة
التي تغني مثل آلات السيتار
في الريح
ألحاناً مرتجلة بلا كلمات
تحطمتْ سفينتي على الشاطئ
تحت رحمة نوارس شرهة
ورغم ذلك ورغم ذلك
ما نزال غير مولودين لليأس
الربيعُ يأتي بأية حال
ويظهر قطارٌ للمثليين يقوم برحلة
قائد الأوركسترا العريق
بقبعته الأنبوبية
وساعة جيبه الذهبية
يحيينا كمسافرين ضاعوا لوقت طويل
يضع
أكاليل حول أعناقنا
كأسلحة للعشاق
يعانقنا بجنون
أهناك المزيد للقول
قبل أن يحملونا
كموتى
بينما ما نزال نحلم
ما نزال نبحث
عن خبز الكلمة
المطروح على المياه
العجين الذي يتشكل
من خميرة الكلام
في الكلمة المكتوبة
في الشعر
مساراتٌ على الرمال
تركتها مجموعة من الحيوانات المطوقة
حصرتْها في زاوية الأخطاء والعادات
وقطارات مأخوذة
إلى الجهات الخطأ
أو رحلات تتم أو لا تتم
مع ملائكة الحب
إلى مرتفعات أدنى
بين موجتين
المحيطُ هادئٌ:
صمتُ عصورٍ
يستمرّ لحظة واحدة
بين موجتين
من العاطفة
كالعشاق
يلتفتون أحدهم إلى الآخر
أو بعيداً
للحب جَزْرٌ ومدّ
يأتي ويذهب
بين عاطفتين
لكنه يُرْغي ثانية
مع كل موجة جديدة
كمخلوق بحري من الأعماق
يكسر السطح بقفزة!
يهدرُ البحر لكنه
لا يقول مرة أخرى
آه الخيوط التي يمكن أن يغزلها
إذا أراد
بين حالات غضبه
تحت عين الشمس:
لصوص ودولارات إسبانية!
مدن لامرئية!
جماجم كريستالية
هياكل متحجرة!
استمناءات البحارة!
أو منيّ يوم أمس
ضائع في أعقاب مركب المتعة
آه لانهائيٌّ السرد غير المكتمل
غير المتماسك:
اعبرْ أيها الرحالة
لسنا آباءنا
ورغم ذلك نواصل
التنفّس مثلهم
ونحبّ ونقتل مثلهم
لنمض بعيداً إذا، بعيداً
في سفننا الكبيرة والطويلة
فوق تلال المحيط
إلى حيث أطلنطس
ما يزال يركب المد والجزر
أو إلى حيث الجبل السحري
الذي لا يبين على أية خريطة
ما يزال محتجباً
محاطاً بالألق.
هوامش:
[١]: مخترعان أمريكيان ينسب إليهما معظم المؤرخين اختراع أول طائرة والقيام بأول تجربة طيران ناجحة عن طريق آلة أثقل من الهواء في ١٧ كانون الأول ١٩٠٣.
[٢]: وهي طائرة ذات محرك واحد ومقعد واحد طار بها تشارلز ليندبيرغ في ٢٠ أيار ١٩٢٧ في أول محاولة طيران لعبور الأطلسي دون توقف.
[٣]: المقصود هنا المحيط الأطلسي.
[٤]: وهي الطائرة التي عبرت المحيط الهادي وقامت بأول رحلة حول العالم من كانون الأول ١٩٤١ وحتى كانون الثاني ١٩٤٢.
[٥]: طائرة البوينغ ب-١٧ وهي قاذفة بأربعة محركات صنعت في الثلاثينيات للقوات الجوية الأميركية.
[ترجمة واختيار أسامة إسبر، المصدر: Lawrence Ferlinghetti, Ferlinghetti’s Greatest Poems, edited by Nancy J. Peters, A New Directions Book].