(دار مسعى، كندا، 2022).
[مترجم مصري من مواليد 1987. تخرج في كلية الآداب، قسم اللغة الإسبانية، جامعة القاهرة، بتقدير جيد جدًا مع مرتبة الشرف. يعمل مترجمًا ومحررًا ومراسلًا في الخدمة العربية في وكالة الأنباء الإسبانية (إفى) منذ 2008. يتنوع إنتاجه الأدبي بين الترجمة وكتابة القصة القصيرة].
جدليّة (ج): كيف اخترت الكتاب، ما الذي قادك نحوه؟
محمّد الفولي (م. ف.): أثار الكتاب اهتمامي منذ قرأت عنه في إحدى الصحف الإسبانية، فسعيت فورًا إلى الحصول عليه. لما قرأته، علمت أنه سيكون على رأس قائمة اختياراتي لأن يتماشى مع مشروعي: رواية ممتازة، وكاتب لم يُترجم من قبل. العمل نفسه يتضمن صعوبات تروقني تتمثل في تحديات لغوية وأسلوبية وترجمية، بخلاف كثافة السرد وجنون الفكرة الرئيسية.
(ج): ما هي الثيمة/ات الرئيسية؟ ما هو العالم الذي يأخذنا إليه النص؟
(م. ف.): تنقسم الرواية، على الرغم من صغر حجمها إلى جزئين يفصل بينهما قرن كامل. مع ذلك، ثمة رابط بين القصتين. هناك عدة أفكار رئيسية يتناولها النص، ففي نصفه الأول يحاول الكاتب أن يعرض لنا إلى أي مدى لا أخلاقي وغير إنساني قد يصل الإنسان مدفوعًا بالعلم أو المادة أو المصلحة الشخصية، وفي النصف الثاني يعرض لنا روكي لارّاكي أي حدود غير عقلانية قد يصل إليها الفنان للترويج لإنتاجه. هنالك بالطبع عدة ثيمات فرعية تظهر علنًا أو بصورة ضمنية داخل النص، مثل فكرة العنصرية وتاريخ الديكتاتورية والطبقية في الأرجنتين.
(ج): ما هي التحديات التي جابهتك أثناء البحث والترجمة؟
(م. ف.): التحديات كانت كثيرة، وأولها عنوان الرواية مثلًا الذي ابتكره المؤلف وصنع فيه كلمة ليست موجودة أصلًا في الإسبانية بالدمج بين كلمتين لتسمية عنصر مهم في الرواية، وأقصد بهذا الرابط بين القصتين اللتين يفصل بينهما مائة عام. وجدت نفسي أمام خيارين: كتابة المنطوق الصوتي للكلمتين أو ترجمة المعنى المقصود بهما. لما نظرت إلى بعض ترجمات الرواية إلى لغات أخرى للاسترشاد، وجدت أن بعض المترجمين استخدموا الخيار الأول، فيما لجأ آخرون إلى الخيار الثاني. اتخذت قراري في النهاية باعتماد الخيار الثاني لأنني اعتبرته الأنسب في اللغة العربية. بالطبع كانت هناك صعوبات أخرى، مثل بعض التعبيرات العامية الأرجنتينية والاصطلاحات العلمية والفنية، بل وبعض الجمل والعبارات والكلمات المكتوبة بركاكة في الأصل لتعكس وضعًا اجتماعيًا لهذه الشخصية أو تلك الأخرى.
(ج): ما هو موقع هذا الكتاب في مسيرتك الإبداعية؟
(م. ف.): ظني أن الكتاب ساهم في زيادة حساسيتي الترجمية كلما تعاملت لاحقًا مع اختلاف صوت الرواة داخل نفس الرواية، لأن النبرة التي يستخدمها راوي النصف الأول بكل هوسه وذكوريته، مختلفة تمامًا عن نبرة راوي النصف الثاني من العمل. أظن أن هذه الترجمة أهلتني بصورة غير مباشرة لترجمة رواية «حاصل الطرح» لأليا ترابوكو ثيران، التي تختلف فيها نبرة الراويين بصورة كبيرة. صحيح أن «حاصل الطرح»، التي أعتبرها من أهم وأصعب ترجماتي، صدرت قبل «آكلة الأم»، لكن ترجمتي لرواية روكي لارّاكي تسبقها في الترتيب الزمني، ولهذا فلها مكانة مهمة ليس فقط لأنها رواية ممتازة، وإنما لأنها ساهمت في تطوري كمترجم.
(ج): هل هناك نصوص كانت ذات تأثير خاص، أو قرأتها أثناء إنجاز الترجمة؟ ما هي المراجع التي اعتمدت عليها؟
(م. ف.): أغلب النصوص التي رافقتني أثناء الترجمة كانت حوارات للمؤلف، ومقاطع من كتب تاريخية عن الحقب الديكتاتورية المختلفة التي مرت على الأرجنتين، التي لولاها لما اتضحت لي بعض النقاط داخل النص، وهي المسألة التي سيلاحظها القارئ بنفسه في بعض الهوامش التوضيحية.
(ج): من هو الجمهور المتوقع للكتاب وما الذي تأمل أن يصل إليه القراء؟
(م. ف.): توقفت منذ فترة عن التوقعات. لا أستهدف فئة بعينها. التباين في الثيمات التي تتناولها ترجماتي واضح. لا أركز على نوعية معينة من الأعمال. أكررها: لا أستهدف فئة معينة. تهمني جودة وتفرد العمل أولًا. قد تروق الترجمات قارئ ولا تعجب قارئ آخر. هذا طبيعي. يمكنني فقط أن أقول إن هذه الرواية ستروق القارئ الذي يبحث عن تجربة روائية مغايرة لا تعتمد فقط على جمال وعذوبة اللغة، وإنما على حدتها وخشونتها وكثافة السرد والبنيان غير التقليدي.
(ج): ما هي مشاريعك الأخرى/المستقبلية؟
(م. ف.): المشاريع كثيرة: هنالك 4 ترجمات في انتظار النشر من دول متنوعة وبثيمات مختلفة. أخوض الآن تجربة جديدة بعيدًا عن ترجمة الروايات مع كتاب فكري لأحد أهم المفكرين الناطقين بالإسبانية، والقادم أفضل أكيد.
مقتطف من الكتاب
يُدخل ليديسما البطة إلى المقصلة عبر باب خفي في الجزء السفلي ثم يُخرج رأسها من الثقب الدائري ويُشغل الآلة على الفور. يقطعه النصل بسرعة لا تنساب معها نقطة دم واحدة. يظل رأس البطة الديكارتية فوق كلمة "إذن". يبدو أنها لم تشعر بشيء. ينظر الرأس نحونا؛ أو ربما أنه يفكر فيما يفكر فيه البط. يظل على هذه الشاكلة لعدة ثوان. ينعق فيها بين الحين والآخر حتى تنغلق عيناه وتنتهي مغامرته في هذا العالم. أعجز عن رؤية إن كانت مينيندث مهتمة أو أنها تفضل النظر في اتجاه آخر، لكنها هي على أي حال من يرفع الجثة. تلفها داخل خرقة نظيفة قبل أن تخرج.
يطلب منها ليديسما:
- لتكن كثيرة العصارة من فضلك.
ننتظر تفسيرًا فيقول ليديسما:
- خذوا هذه المسألة كمثال.
- ما الذي تود حضرتك أن تقوله لنا؟ أنك تبحث بيننا عن البطة السوداء؟ هل تفكر في تخفيض طاقم العمل؟ أن هناك رؤوسا قد أينعت؟ أهذا هو ما تقصده؟
يجيب ليديسما:
-لا يا بابيني. الهدف من هذه المقدمة، التي أتمنى أن تكونوا قد أحسستم بكونها حالمة وغير تقليدية، موجود في الأوراق التي سأقرؤها عليكم الآن:
"كان الإعدام قبل المقصلة عرضًا على الملأ له شخوصه المُحددة: الجلاد، المحكوم عليه والعوام. لم تُخفف نهايته التي لا تتغير من أثره التعليمي الذي يقلب البطون في الوقت ذاته. لقد تحول الإعدام بعد اختراعها إلى تقنية تضاءلت معها رمزية الجلاد إلى أقل صورها التعبيرية؛ إلى عامل مسؤول عن آلة، فالطابع التشغيلي المُحدد للطريقة الجديدة لم يترك مكانًا للناحية الأسلوبية، ورغم ذلك لم يذعن الجلادون لفكرة التخلي عن طقسهم الخاص برفع رأس المعدوم وإظهاره للعوام بمجرد انتهائهم من المهمة".
-
يقدم الجلاد هكذا دليلًا قاطعًا على تمكنه من أداء الوظيفة المنوطة له، وهذا ليس بدافع الاعتزاز بالنفس، بل لمراكمة الاستحقاقات والمكافآت.
-
يمارس العوام ورعهم بتلاوة صلوات بسيطة وصريحة، أما الرأس فهو نقطة النهاية التي تترك الجميع راضين، والجلاد كمن يُضرب به المثل.
قد يبدو أن النقطتين (أ) و(ب) تقدمان كل التفسيرات المنطقية لهذا الفعل، إلا أن الجلادين يعرفون أبجدية الموت حتى نهايتها؛ فمن الجيم وما يليها ثمة أسباب أكثر خصوصية تتضمن تقديم خدمة أو امتياز للمحكوم عليه، وعلى هذا الأساس يقوم فعل تمرد الجلاد.
ثمة حدث مجهول بالنسبة لمن لا يمارسون هذه المهنة وهو أن الرأس المفصول عن جذع الجسد يظل واعيًا وكامل الوظائف خلال تسع ثوان، وحين يرفع الجلاد الرأس فإنه يقدم لضحيته رؤية للعالم، رؤية أخيرة متناقصة. إن هذا الفعل لا يتعارض فقط مع فكرة العقوبة نفسها فحسب، بل يحول العوام إلى جمهور في عرض.
كي يظل الرأس واعيًا، فلا غنى عن تطبيق مجموعة من القواعد:
-
لا بد وأن يكون المحكوم عليه يقظًا في لحظة القطع. يتناسب تنفيذ هذه النقطة مباشرة مع مقدار شجاعته.
-
لا بد وأن ينظر مباشرة إلى حد النصل، أو بمعنى آخر نحو السماء؛ وهذه المسألة ليست كناية عن لقاء جديد مع الإيمان، بل هي وضعية عملية، فمن يتلقون ضربة النصل عند مؤخرة عنقهم يُغمى عليهم من قوة الضربة.
ج) مكان القطع عند الرجال أسفل تفاحة آدم، وبعد بداية العنق بقليل عند النساء ولا بد من تفادي القطع المائل.
8) يفضل دومًا وجود جمهور صاخب يثير حواس المحكوم عليه.
يُمرر الجلادون هذه القواعد جنبًا إلى جنب مع نقاط أخرى تدل على نفاذ البصيرة (كتوجيه نظر المحكوم عليها إن كانت امرأة في اتجاه معاكس للحشد) إلى أبنائهم كوصايا مستقبلية ويغتبطون بهذا السر في تواطؤ عذب يتكرر نقله من جيل إلى جيل كما هو الحال بين طائفة الرهبان".
تتركنا البطة والقراءة في حالة صمت. يشرح ليديسما أن هذه دراسة أجراها طبيب شرعي بارز في فرنسا وتُرجمت إلى الإسبانية عبر ترجمة عن الإنجليزية نقلها مستر ألومبي بنفسه من النص الأصلي المكتوب بالفرنسية. تُسلم مينيندث كلًّا منا نسخة مطبوعة تحمل اسم كل منا في الهامش. لقبي مكتوب بصورة خاطئة: كينطانا، بالطاء.
يواصل ليديسما حديثه:
- أعترف أنني قرأتها دون رغبة حينما وصلت إلى يدي، إلا أن نية مستر ألومبي حين أظهرها لي كانت معرفة إن كان يُمكن التحقق من صحة هذه الفرضية عبر أساليب علمية.
يسأله غوريان:
- أي فرضية؟ ثواني الوعي التسعة؟ ما يشعر به الرأس؟ أي فرضية؟
- المسألة الأولى يسهل التحقق منها وبطتنا خير دليل. أتحدث بالطبع عن الشق الثاني تحديدًا. طلب مني مستر ألومبي هذه الخدمة. لم أقدر على رفض المحاولة، حتى وإن اكتسحني الشك. لقد عملت طيلة عام كامل في هذا الشأن والنتيجة كانت مفاجأة سارة: اكتشفت أن هذه الفرضية يُمكن إثباتها.
يسأل أحد الأطباء المُطيعين بأي طريقة تمكن من إثباتها فيجيبه ليديسما:
- قبل هذا، أود أن تطرحوا شكوكم. رجاء، فلنفعلها من اليسار لليمين.
يستفسر خيخينا:
- ثمة بيانات ومراجع ناقصة. على أي شيء يرتكز الفرنسي في قول ما يقوله؟
- هذا الرجل مرجعية في الطب الشرعي الأوروبي.
يجيب خيخينا:
- إنه أمر جيد بالنسبة له.
يضيف مستر ألومبي:
- ولقد درس المقصلة.. بكل وطنية.[1]
تعود مينيندث إلى القاعة في فترة الصمت القليلة هذه.
يقول غوريان:
- زملائي الأعزاء، أود أن أشير إلى بعض الأمور المزعجة في هذه الوثيقة، إن كنا سنسميها هكذا. لا أضع في محل شك نوايا السيد المدير الطيبة التي يتشاركها معنا بكل تجرد لكي نبدي آراءنا، لكن ما يحدث هنا هو تقديم تراث شفهي للجلادين كحقيقة لا يُمكن دحضها، وأنا هنا لأتساءل عن الجلاد الأول المزعوم الذي اكتشف مسألة الثواني التسعة وكيف أدرك الأمر؟
يرد ليديسما:
- الأمر سهل. كان شديد الملاحظة. شعر أن العينين لم تكونا خاويتين، أنهما تنظران. ثم جاء جلاد آخر لا يقل عنه في دقة الملاحظة واكتشف أن الرأس تنعكس به أمارات على المتعة أو الاشمئزاز.
- علينا ألا ننسى، سيدي المدير، أن أغلب الجلادين كانوا أميين وأن هذه الوضعية تجعلهم معدومي الشعور تجاه الحقائق المجردة.
- أنت تراها كحقيقة مجردة لأنك رجل مثقف يا غوريان. نحن نتحدث هنا عن الحدس.
يُنهي غوريان حديثه:
- إذن سأسلم دفة الحديث إلى زميل أقل ثقافة مني.
التالي هو بابيني. يتنفس الصعداء وتفوح منه رائحته الحمضية لأنه سعيد، فنحن لسنا هنا لمناقشة أخطائه، وبالتالي يكاد ذيل المذنب يختفي تمامًا داخل عُصعوصه.
- في البداية، أنا منضم لأي تجربة يقترحها السيد المدير، لكن إن تحدثنا عن الرؤوس، فأظن أنه ما من داع للإشارة إلى ضرورة وجود دراسة في فرع علم فراسة الدماغ.[2]
يقول ليديسما:
- أنت تعرف كيف أفكر بخصوص هذا الأمر، لكن قد نأخذ اقتراحك بعين الاعتبار. التجربة التي سنقترحها عليكم تحتاج لاتساع في المعايير. وأنت يا سيسمان؟ ما رأيك؟
يجيبه الأخير بينما يتراجع بجسده نحو الخلف:
- أنا أعارض الفكرة.
يدمدم ألومبي:
- اشرح السبب.
يجيب سيسمان:
- لا نعرف ماهية التجربة التي يتحدث عنها السيد المدير.
يعلق ليديسما:
- لتفترضوا أن ما تقوله هذه الوثيقة صحيح. إن تمكنا من إثبات الأمر بطريقة علمية، فسنقدم إجابات لأسئلة كثيرة وقد نتمكن من تشمم ما كان حتى الآن إرثًا حصريًا لعالم الأديان وأقصد بهذا الموت، وما هو الموجود بعده.
أقول بصوت مرتفع:
- من المسلم به أن هناك شيئًا ما بعد الموت ومثل هذا الدافع لا يبدو شديد الجدية.
يرد ليديسما:
- نقطة انطلاقي لا ترتبط بأي دافع.
- وما تقوله يا حضرة المدير لا يبدو علميًا للغاية.
- وما تقترحه يا كينتانا هو علم بدون جرأة.
- أما حضرتك، فرواية مغامرات يا سيد ليديسما.
- أنت تجهل ماهية ما أقترحه.
هذا يكفي. أتوقف هنا عن ممارسة بلاغتي البهلوانية -المكرسة في الأصل لمينيندث- وأترك الكلمة للمدير الذي لم يشعر بالضيق لأنني أثناء مواجهته كنت مبتسمًا بفك عريض.
- هذا هو المقترح: سنختار مرضى يحتضرون. سنقطع رؤوسهم بطريقة لا تؤذي موضع النطق، وهي التقنية التي تدربت عليها بنجاح مع كفيات القدم[3] وسأشرحها لاحقا وبعدها سنطلب من الرأس أن يقص علينا ما يراه بصوت مرتفع، وفي مقابل المحاولة سنحصل على مدفوعات ممتازة للنفقات من مستر ألومبي.
هوامش:
[1]: المقصلة اختراع فرنسي الأصل. (المترجم).
[2]: فراسة الدماغ أو الفرينولوجيا هو علم قديم يدرس العلاقة بين شخصية الإنسان وشكل جمجمته ويرتبط بصورة مباشرة بعلم الأنثروبومتريا الذي يشكل أحد نقاط الهوس بالنسبة للطبيب بابيني. (المترجم).
[3]: كفيات القدم هي إحدى رتب الطيور ومن ضمنها البط. (المترجم).