(دار الخان للنشر والتوزيع، الكويت، 2022).
[بهاء إيعالي كاتب وشاعر من لبنان. حاصل على إجازة في التاريخ من الجامعة اللبنانية، كلية الآداب. صدر له: «الضوء آخر عصفور في السماء» و«كونشيرتو لشفاهٍ ترفعها الريح»].
جدلية (ج): كيف اخترت الكتاب وما الذي قادك نحوه؟
بهاء إيعالي (ب. إ.): لا بدّ لي في البداية إلى أن أشير إلى أنّ مجموعة "الجلّاد" القصصيّة لأونوريه دو بالزاك لم تكن كتابًا بعينه، أي أنّ القصص التي تحتويها لم تأتِ مطبوعةً ضمنِ كتابٍ واحد، بل إنّها قصصٌ كتبها بالزاك خلال أوقاتٍ متفرّقةٍ ونشرها بادئ الأمر في صحفٍ فرنسيّة مختلفةٍ منها La Mode، La Revue de Paris، La Silhouette وغيرها، قبل أن تُنشرَ ضمن المجلّدات التي حملت اسم "الملهاة الإنسانيّة" (La Comédie Humaine). بالتالي بُني اختياري على كلّ قصّةٍ بقصتّها، ومن ثمّ جمعتها ضمن هذا الكتاب الذي حملَ عنوان "الجلّاد وقصص أخرى" نسبةً لأوّل قصّةٍ في الكتاب والتي تحملُ العنوان نفسه.
أمّا عن سبب اختياري هذا فهو اسم بالزاك بحد ذاته، فلطالما رغبتُ منذ بدأت عملي بالترجمة في تقديمِ ترجمةٍ جديدةٍ لمن كان أحد كبار الكتّاب الكلاسيكيين الفرنسيين إن لم يكن أكبرهم. لكنّني اكتشفت أنّ قصصه بمجملها لم يسبِق أن تُرجِمت للعربيّة. من هنا قمت باختيار مجموعةٍ منها وعملتُ عليها، فكانت مجموعة "الجلّاد".
(ج): ما هي الأفكار والطروحات الرئيسية التي يتضمنها الكتاب؟
(ب. إ.): نظريًّا، لا تختلف مجملُ أعمال بالزاك بين بعضها البعض فيما يخصّ الأفكار والطروحات، إن لجهة الواقعيّة المنظورة التي أحدث بها ثورةً في عالم رواية ما قبل بالزاك، والتي تتناول التفاصيل الدقيقة للحياة الاجتماعيّة والأخلاقيّة للمجتمع الفرنسيّ ما بين الثورتين، أي ما بين ثورة عام 1789 على ملكيّة لويس السادس عشر وثورة عام 1848 على ملكيّة لويس فيليب الأوّل، وهي فترةٌ زمنيّةٌ تبلورت فيها معالمُ فرنسا الحديثة وحدثت خلالها تغيّرات اجتماعيّة كبيرةٌ في المجتمع الفرنسي. من هنا، وملتزمًا بواقعيّته، تركّزت أعمال بالزاك بمجملها على الدخول في عمق المجتمع الفرنسي ورسم شخصيّات توحى له من قبله، بل ولم يتورّع عن الاهتمام بالحقائق المطلقة التي لا يمكن للمرجع التاريخيّ أن يوثّقها، فهو الذي يؤمن بأن "الرواية أصدق من التاريخ".
بالتالي، فإنّ القصص السبع التي تتضمّنها هذه المجموعة لا تشذّ عن كلّ ما ذكرته أعلاه، وهي مستوحاةٌ من مشاهد حقيقيّةٍ سمعها بالزاك أو رآها، بالتالي فهي تقدّم للقارئ صورةً مستنسخةً عن المجتمع الفرنسيّ، بأخلاقيّاته والعلاقات بين أفراده وأوضاعه الاجتماعيّة والاقتصاديّة وحتّى السياسيّة.
(ج): ما هي التحديات التي جابهتك أثناء البحث والترجمة؟
(ب. إ.): بدايةً مع لغة بالزاك، تلك اللغة الكلاسيكيّة الصارمة التي تستدعي قواميس خاصّة بها، بحيث أنّ ثمّة عبارات ومفردات خاصّة ربّما باتت اليوم في طيّ النسيان بالنسبة للفرنسيّة الحديثة. هذا لو أردنا أخذ الشكل اللغويّ وحده في الاعتبار، فما بالك بالإيقاع اللغوي؟ لا أخفي أنّني كنت أستغرقُ وقتًا طويلًا لإيجاد صيغةٍ ملائمةٍ لعبارةٍ ما دون الإخلال بالإيقاع الخاص ببالزاك. وبالتالي أستطيع القول إنّ هذا الكتاب قد أخذ منّي أطول مدّة عملٍ مقارنةً بحجمه المتوسّط.
أمّا التحدّي الثاني، التحدّي الذي يواجه معظم المترجمين، فهو دراسة الوضع الاجتماعي والسياسي والاقتصاديّ والأخلاقي والعمراني لتلك الفترة الزمنيّة في فرنسا، صحيحٌ أنّ أعمال بالزاك هي صورةٌ مستنسخةٌ لواقع ذلك الزمن كما ذكرتُ آنفًا، ولكن بما أنّني المترجم فلا بدّ لي من الاطّلاع، ولو بالنذر اليسير، على هذه وضع كل المذكور هنا، وذلك لتحاشي أيّ خطأ في العمل الترجمي ولتوخّي الدقّة في كلّ تفصيلٍ مذكور. لهذا ليس من المستغرب إيجاد هوامش طويلة في الكتاب، هوامش غايتها الأولى والأخيرة توضيح ما هو مبهمٌ ويحتاج للتعريف عنه أكثر.
(ج): ما هو موقع هذا الكتاب في مسيرتك الترجميّة والإبداعية؟
(ب. إ.): قلت في السؤال السابق إنّه الكتاب الأصعب الذي اشتغلتُ عليه، كتابٌ استنزف طاقةً ووقتًا كبيرين منّي، ولكنّني لا أخفي سعادتي بإنجازه ولا أبالغُ لو قلت إنّه أهمّ مشروعٌ انبريت لنقله إلى العربيّة إلى جانب ترجمتي لكتاب "عزيزي السيّد جرمان" لألبير كامو. ناهيك عن أنّه عملٌ لبالزاك.
(ج): من هو الجمهور المتوقع للكتاب وما الذي تأمل أن يصل إليه القراء؟
(ب. إ.): شأنه شأن أيّ كتابٍ أدبي، لا يمكن توقّع جمهوره أبدًا. ولكن لو طُلِب منّي توقّع جمهوره فسأقول إنّه جمهورٌ مركّب، جمهورٌ يتألّف من قرّاء القصص والروايات القصيرة وهم يتزايدون اليوم، ومحبّي بالزاك الذين يحبّون قراءة أعماله، والقرّاء المهتمّين بدراسة أحوال المجتمع الفرنسيّ في تلك الحقبة من الزمن. هذا هو الجمهور المتوقّع، ولكن لن يكون مستغربًا أن يصل الكتاب لأيدي قرّاءٍ كلّ ما دفعهم لاقتنائه هو الفضول، أجل، الفضول للتعرّف على بالزاك.
(ج): ما هي مشاريعك الأخرى/المستقبلية؟
(ب. إ.): غارقٌ منذُ مطلع العام في مشاريع مختلفةٍ تكمّل بعضها البعض.
مقتطف من الكتاب: جزءٌ من قصّة "يسوع المسيح في فلاندر"
وحينما صعد الراكب المتأخّر إلى القارب، ألقى نظرةً سريعة نحو المؤخّرة ولم يرَ مكانًا يجلس فيه هناك، فاتّجه ليسأل الجالسين في المقدّمة عما إذا كان هناك واحد. هؤلاء كانوا فقراء. بهيئة رجلٍ عاري الرأس ملابسه وسراويله من الكاملوت البنّي، بحيث لم يكن لثنيتها الكتّانيّة المنشّاة أيّ زخرفة، والذي لا يحملُ في يده قلنسوة أو قبّعة، وبدون حقيبةٍ أو سيفٍ في حزام خصره، اعتبره الجميع كعمدةٍ واثقٍ من سلطته، عمدةٌ طيّبٌ ولطيفٌ مثل بعض هؤلاء الفلمنكيين القدامى الذين جرى الحفاظ على طبيعتهم وشخصيّاتهم الساذجة بشكلٍ جيّدٍ من خلال لوحات رسّامي البلد. عندئذٍ استقبل الركّاب الفقراء الرجل الغريب بمظاهر من الاحترام أثارت سخريةً تهامس بها أولئك الجالسين في مؤخّرة القارب. ثمّة جنديّ عجوزٌ، رجلٌ يعاني من التعب والإرهاق، أعطى مقعده للغريب وحافظ على توازن القارب من خلال الطريقة التي سند بها قدميه على إحدى العوارض الخشبيّة الشبيهة بنتوءات السمكة والتي تُستخدم لربط ألواح القارب. تراجعت امرأة شابّة، وهي أمّ لطفلٍ صغيرٍ ويبدو أنّها تنتمي إلى الطبقة العاملة في أوستند، كي تفسح المجال الكافي للوافد الجديد. لم تظهر هذه الحركة خنوعًا ولا ازدراءًا، فهي إحدى علامات اللطف التي من خلالها يكشف الفقراء، الذين اعتادوا على معرفة ثمن الخدمةِ ونعيم الأخوّة، عن صراحة أرواحهم وطبيعتها، وهم ساذجون في التعبير عن مزاياهم وعيوبهم؛ لذلك شكرهم الغريب بإيماءةٍ مليئةٍ بالنبل. ثمّ جلس بين هذه الأمّ الشابّة والرجل العجوز. خلفه يجلس فلّاحٌ وابنه البالغ من العمر عشر سنوات، وثمّة امرأةٌ فقيرةٌ عجوز ذات وجهٍ متجعّد، تحملُ محفظةً شبه فارغةٍ وترتدي ثيابًا رثّة، نموذجٌ من الأشخاص البائسين والمستهترين، قد استلقت فوق منقار القارب، وجلست القرفصاء بين حزمةٍ من الحبال. أحد المجدفين، وهو ملّاحٌ عجوزٌ يعرفُ أنّها جميلةٌ وغنيةٌ، سمحَ لها بالدخول، متبعًا المثل السائد لدى الشعب الرائع "من أجل حبّ الله".
شكرًا لك يا توماس. قالت السيّدة العجوز. هذا المساء سأرتّل لك في صلاتي "أبانا الذي في السماوات" مرّتين و"السلام عليك يا مريم" مرّتين.
مرّةً أخرى قام الربّان بالنفخ في البوق وألقى نظرةً نحو الريف الصامت، ورمى السلسلة الحديديّة داخل القارب ومشى على طول طرفه متّجهًا نحو دفّة القيادة، ومع أخذه الدفّة وظلّ واقفًا؛ وبعد أن نظر إلى السماء قال بصوتٍ عال لمجدّفيه، وذلك بعد أن أصبحوا في عرض البحر:
جدّفوا، جدّفوا بقوّةٍ، أسرعوا! البحر يبتسم لنداء الساحرة! أشعرُ بالموج الصاخب في حركة الدفّة، وبالعاصفة في جراحي!
هذه الكلمات المنطوقة بتعابير بحريّة، وهي ضربٌ من اللغة التي لا تفهمها سوى الآذان التي اعتادت على ضجيج الأمواج، تضفي على المجاديف حركةً متسرّعةً ولكنّها متقنة دائمًا؛ حركةٌ جماعيّةٌ تختلف عن طريقة التجديف السابقة، كما هو خببُ الحصان أثناء جريه. كان المجتمع الراقي الجالس في الخلف سعيدًا برؤية كلّ تلك الأذرع المهتاجة، تلك الوجوه السمراء ذات العيون المتّقدة، وتلك القوى البشريّة المختلفة التي تعمل بتناغمٍ لحملها عبر المضيق بتكلفةٍ بسيطة. وبدلًا من استنكار هذا البؤس، أظهروا أنفسهم على أنهم مجدّفون وهم يضحكون على التعبيرات الغريبة التي طبعها الجهد المبذول على وجوههم المعذبة. وفي المقدمة كان الجندي والفلاح والمرأة العجوز يحدقون في المجدّفين بهذا التعاطف الطبيعي للأشخاص الذين يعيشون على الكد ويعرفون الألم القاسي والتعب المحموم من العمل. ومن ثمّ، وبعد أن اعتادوا على الحياة في الهواء الطلق، فهم الجميع، من جهة السماء، الخطر الذي يهددهم، وبالتالي فإنّ كلّ شيءٍ خطير. هزّت الأم الشابة طفلها وهي تغني له ترنيمةً كنسيّةً قديمةً حتى ينام.
بحال وصلنا، فسيكون الربّ الجليل مصرًّا على تركنا أحياء. قال الجنديّ للفلّاح.
آه! إنّه السيّد. أجابت المرأة العجوز. لكنّني أعتقد أنّه من دواعي سروره مناداتنا بجواره. أترون هذا الضوء هناك؟
وبإيماءةٍ من رأسها أشارت نحو الغرب، حيث تبرزُ أحزمةٌ من النار بحدّةٍ فوق سحبٍ بنيّةٍ مشوبةٍ بالأحمر، والتي بدت على وشك أن تطلِق العنان لرياحٍ عاتية. كان البحر يُصدرُ همهمةً خافتة، نوعًا من الخنوع الداخلي، يشبه تمامًا صوت الكلب حينما يهدرُ فقط. ومن ثمّ لم تكن أوستند بعيدة. في هذه اللحظة قدّم كلًّا من البحر والسماء واحدًا من تلك المناظر التي ربّما من المستحيل، في الرسم كما في الكلام، أن تعطي مدّةً أطول مما هي عليه بالفعل. ما تريده الإبداعات البشريّة هو تناقضاتٍ قويّة. لذلك عادةً ما يطلب الفنانون من الطبيعة أروع ظواهرها، ولا شك أنّهم ييأسون من تقديم الشاعريّة الرائعة والجميلة لجاذبيتها العادية، وذلك على الرغم من أن الروح البشرية غالبًا ما تتأثر بالهدوء والحركة والصمت بقدر ما تتأثّر بالعاصفة. كانت هناك لحظة صمت فيها جميع من هم على متن القارب وتأمّلوا البحر والسماء، إمّا بدافع التوجّس وإمّا لطاعة تلك الكآبة الدينية التي تغرقنا جميعنا تقريبًا في ساعة الصلاة، في خريف النهار، في اللحظة التي تكون فيها الطبيعة صامتة، عندما تتحدّث الأجراس. ألقى البحرُ وهجًا أبيض باهتًا، لكنّه متغيّر ومثل ألوان الفولاذ. أمّا السماء فتلوّنت باللون الرماديّ بشكلٍ عام. ونحو الغرب كانت المساحات الضيقة الطويلة تحاكي تياراتٍ من الدم، بينما كانت الخطوط المتلألئة في الشرق، والتي تم تحديدها كما لو رُسِمت بفرشاةٍ رقيقة، مفصولةً بسحبٍ مجعّدةٍ مثل التجاعيد على جبينِ رجلٍ عجوز. وهكذا قدّم البحر والسماء في كلّ مكانٍ خلفيّةً باهتة، كلّها بألوانٍ نصفيّة، ممّا أدّى إلى إبراز الأضواء الخفيّة لغروب الشمس. أسفر مظهرُ الطبيعة هذا عن شعورٍ فظيع. إذا كان مسموحًا بإدخال الاستعارات الجريئة للناس في اللغة المكتوبة، فسيُكرّرُ ما قاله الجندي بأنّ الطقس في حالةٍ من الفوضى، أو كما أجاب الفلاح بأن السماء تبدو وكأنّها جلاد. فجأةً هبت الريح باتّجاه الغرب، وصاح الربّان الذي لم يتوقف أبدًا عن معاينة البحر أثناء رؤيته له وهو ينتفخ في الأفق:
هاو! هاو!
وعند هذه الصرخة توقّف البحارة على الفور وتركوا مجاديفهم تسبح.