تعتبر البيئة من بين الأنظمة ذات الحساسية التي تتأثر بالتغيرات الطفيفة في العوامل الابتدائية، وكما تتأثر بيئة كوكب الأرض بشكل واضح بكميات الانبعاثات من غازات الدفيئة، فإنها تتأثر أيضاً بالأنظمة السياسية وبطبيعة السياسات التي تنتهجها حكومات الدول.
لا تبدو العلاقة بين نتائج صندوق الاقتراع في دولة ما وبين البيئة واضحةً تماماً، إلا أن التأثير المتبادل بين البيئة والسياسة أكبر مما يعتقد الكثيرون، فالبيئة عاملٌ مؤثر بشدة في الاستقرار الاجتماعي والسياسي، عبر تأثيرها المباشر في الأمن الغذائي، وتأثير اضطرابات المناخ وما تؤدي إليه من سيول وفيضانات وجفاف على الأوضاع المعيشية في المجتمعات، وغيرها من التأثيرات المباشرة وغير المباشرة.
إن الأمثلة على أثر الاضطرابات البيئية والمناخية في الاستقرار السياسي على مر التاريخ لا يمكن أن تُحصر، وكما تؤثر البيئة في استقرار المجتمعات والأنظمة السياسية، فإن السياسات التي تطبقها الدول وتسعى لتعزيزها تلعب دوراً حاسماً في استقرار أو اضطراب النظام البيئي والمناخي.
بالنسبة لبيئة كوكب الأرض، تعتبر غابات الأمازون من أهم المناطق على الإطلاق، فالغابات الواقعة في أمريكا اللاتينية تعد بمثابة رئة الكوكب من ناحية إسهامها الكبير في التخلص من ثاني اكسيد الكربون وإنتاج الأكسجين، وبالتالي فإن الحالة السياسية في الدول التي تقع الغابات تحت سيادتها أمرٌ يهم العالم أجمع.
على مدى بضع سنوات حكم بها الرئيس اليميني جايير بولسونارو البرازيل، ومن قبله ميشال تامر، تضاعفت معدلات إزالة الغابات لتصل إلى أكثر من 13 ألف كيلو متر مربع سنوياً، إذ أسهم التخفيف التشريعي لإجراءات حماية الأراضي التي اتخذتها حكومة بولسونارو بالإضافة إلى تصريحاته المعادية للبيئة إلى المزيد من الشراسة في ممارسات التعدي على الغابات، حيث يعتبر بولسونارو - بحسب خطابه الأول في الأمم المتحدة عام 2019 - أن الأمازون غابة برازيلية وليست رئة الكوكب، ليتطور الأمر بعد ذلك مع خطته لتطوير الأمازون ليصبح تدمير الغابات المطيرة بمثابة سياسة رسمية، إذ أطلقت سياسات بولسونارو العنان لإزالة الأشجار لصالح الأنشطة الزراعية ومزارع الأبقار والتعدين وبيع الأخشاب.
على الجانب الآخر، نجحت ثماني سنوات من حكم الرئيس اليساري لويس ايناسيو لولا دا سيلفا، بين عامي 2003 و2011 إلى خفض معدلات إزالة الغابات من نحو 30 ألف كيلو متر مربع سنوياً، إلى نحو ستة آلاف فقط، واستمر التحسن مع حكم رفيقته في حزب العمال ديلما روسيف ليصل إلى أقل من خمسة آلاف كيلو متر مربع، قبل أن يتم الإطاحة بها في تصويت برلماني مَهّد للمزيد من التدمير للبيئة تماماً كما مَهّد لحكم اليمين الشعبوي.
قبل أيام، في نهاية شهر أكتوبر الماضي، صَوّت البرازيليون لصالح لولا دا سيلفا مرة أخرى، ليعود في يناير المقبل رئيساً للبرازيل، في انتخابات كانت تعني الكثير بالنسبة للبيئة وقضايا المناخ والاحتباس الحراري، فـ"لولا" يضع في صلب برنامجه الانتخابي الحفاظ على غابات الأمازون التي يهم أمرها العالم أجمع، ويبشر بسياسات أكثر حكمة تجاه البيئة، بالإضافة إلى وعده بتشجيع ودعم المزارع الملتزمة بحماية البيئة، وفي خطاب النصر وعد لولا بحماية غابات الأمازون، وبأن البرازيل جاهزة لاستعادة مكانتها في مكافحة تغير المناخ، فيما لم تغب البيئة عن خطابات وبيانات التهنئة التي تلقاها لولا، فعلى سبيل المثال، اعتبرت وزيرة الخارجية الألمانية أن الفائز الأكبر في هذه الانتخابات هو المناخ العالمي.
أمام لولا بالتأكيد تحديات كثيرة في المجال البيئي، أهمها أن الأحزاب الموالية له مثل حزب العمال والحزب الذي يقوده نائبه "الديمقراطي الاجتماعي" لا تمتلك أغلبية مقاعد البرلمان البرازيلي، ما يعني أن مشاريع القوانين التي يريد أن يعكس من خلالها التأثير السلبي الذي أحدثته حقبة بولسونارو ستواجه معارضة قوية، خصوصاً مع وجود شبكات مصالح استفادت اقتصادياً من "تطوير الأمازون" الذي شجعه الرئيس اليميني المنتهية ولايته، وتستطيع هذه الشبكات التأثير بشدة في نواب البرلمان. إن دعم المؤسسات البيئية الحكومية ورفع ميزانيتها وتشجيع الممارسات الصديقة للبيئة لن يعيد آلاف الهكتارات التي تم الاعتداء عليها خلال حكم اليمين الشعبوي، فمحو الأثر السلبي للكارثة التي حدثت في البرازيل قد يحتاج لسنوات من العمل وتطبيق سياسات صديقة للبيئة في الطريق نحو الانتقال إلى الاقتصاد المستدام الذي يبشّر به لولا.
إن الأمل في تشجيع دول العالم على تبني اقتصاد مستدام يضع الاعتبارات البيئية في مقدمة أولوياته سيأخذ دفعة كبيرة مع فوز لولا، الذي سيتولى السلطة في بلد كبير وشديد الأهمية، حيث يعتبر الاقتصاد البرازيلي التاسع عالمياً في حجم الناتج المحلي الإجمالي، وهي خامس دولة في العالم من حيث المساحة، والسابعة من حيث عدد السكان.
إن التداخل بين القضايا البيئية والسياسية في القصة البرازيلية يقودنا إلى التفكير مرة أخرى في أثر السياسات التي تتبعها دول العالم، وأثر التعهدات التي تقطعها بخصوص المناخ، وبهذا الصدد، أشارت دراسة نشرت في دورية نيتشر أن التعهدات المناخية التي قطعتها دول العالم في مؤتمر كوب 26 سوف تقي العالم من أن تتجاوز الزيادة في درجات الحرارة حاجز الدرجتين، ولكن هذا مشروط في تنفيذها، وتنفيذ التعهدات لا يكون إلا من خلال سياسات إقتصادية مستدامة، وكما تعودنا في عالم السياسة والاقتصاد بأن التغييرات العالمية تحدث عبر آلية شبيهة بالعدوى، فإن الأمل بإنتخاب لولا رئيساً للبرازيل يكمن في إمكانية أن تسهم سياساته المنتظرة في مجال البيئة والإقتصاد النظيف والمستدام بعدوى عالمية تنقل الاعتبارات البيئية إلى مستوىً أكثر أهمية عند صناع القرار في مختلف دول العالم.