(دار الرافدين، بيروت، 2022)
[روائي ومترجم مصري عن الروسية. صدرت له أكثر من 35 ترجمة عن الروسية والإنجليزية، من أهمها يوميات تولستوي في ستة مجلدات، علاوة على ترجمات أخرى لبولجاكوف وتشيخوف وبابل وكروبوتكين وسولوفيوف وبيرديايف وزوشينكو وفروم. صدرت له ثماني روايات. نال عدة جوائز في التأليف والترجمة، منها جائزة المجلس الأعلى للثقافة للترجمة فرع اللغة الروسية عن ترجمة معنى الحب لفلاديمير سولوفيوف 2021 - جائزة ساويرس الثقافية - فرع الرواية – المركز الثاني عن رواية: اللقاء الأخير. 2021].
جدليّة (ج): كيف اخترت الكتاب، ما الذي قادك نحوه؟
يوسف نبيل (ي. ن.): بشكل عام، أُجري عملية بحث دائمة ومرتبة في الأعمال الروسية الأدبية والفكرية التي لم تُترجم إلى العربية. وصلت في عملية بحثي إلى حقبة مهمة في العصر السوفيتي؛ ألا وهي الحقبة التي تُسمى "عصر التطهير". تُعد هذه الرواية القصيرة واحدة من أشهر الروايات التي تدور عن هذه الحقبة. من الأمور أيضًا التي ساعدتني على الوصول إلى الكاتبة علاقتها الوثيقة بكتّاب آخرين ترجمت لهم مثل ميخائيل زوشينكو. ثمة أعمال روسية كثيرة تتحدث عن هذه الفترة، ولكن لهذا العمل من وجهة نظري أهمية خاصة لأسباب عديدة، وعلى رأسها أن كاتبته عايشت هذا العصر فعلا؛ الأمر الذي يكسب كتابتها والتفاصيل الدقيقة في العمل مصداقية كبيرة.
(ج): ما هي الثيمة/ات الرئيسية؟ ما هو العالم الذي يأخذنا إليه النص؟
(ي. ن.): الثيمة الرئيسة في هذا العمل هي عملية غسيل الدماغ. أرادت الكاتبة أن توضح كيف يمكن تسميم شعب بأكمله بالأكاذيب. اختارت الكاتبة نموذجًا صعبًا على المستوى النفسي: نموذج الأم، لتُبين كيف يمكن للدعايا الأيدولوجية حينما تحيط بالمجتمع كاملًا وتزرع الهلع في نفوس الناس بدرجة مخيفة، أن تشوه حتى أقوى المشاعر الفطرية كمشاعر الأم. تقدم لنا الكاتبة عبر بطلتها الروائية نموذجًا مخيفًا للمواطن السوفييتي في تلك الحقبة، والصراعات النفسية التي ينخرط فيها حينما يجد الأيديولوجيا التي عبدها تختطف منه أفراد أسرته، ولا يصدق عينه.
العالم الذي نعايشه في هذه الرواية هو عالم المواطنين الروس في العصر السوفيتي. نعايش عوالم الشقق المشتركة التي تقطنها أسر عديدة، والدولة القوية التي تسيطر على المواطنين في كل مكان، والوشايات والاختفاء القسري اليومي. نعايش في هذه الرواية البيروقراطية السوفيتية في أعنف صورها والتشوهات النفسية التي تُلحقها السلطة بنفسية المواطنين وحياة الشعارات التي تفسد عقولهم.
(ج): ما هي التحديات التي جابهتك أثناء البحث والترجمة؟
(ي. ن.): ربما يُعد هذا العمل من أسهل الأعمال التي ترجمتها، ولا يمكنني أن أزعم أني واجهت صعوبة شديدة في عملية ترجمته. كل ما تحتاجه الترجمة الأمينة لهذا العمل من وجهة نظري هو إيجاد اللغة الملائمة. التزمت الكاتبة بطريقة كتابة خبرية أشبه بالكتابة الصحفية بعض الشيء، لتنقل لنا رتابة الحياة السوفيتية، وتعتمد على قوة الحدث وحدها في تحريك الإيقاع، دون أي لجوء إلى مجاز أو كناية أو لغة شعرية. التزمت بذلك بقدر الإمكان في لغتي العربية، وبعدت عن مواطن الزخرف وتحريت الدقة في استخدام عبارات واضحة ودقيقة كما فعلت الكاتبة. هذا أمر من المفترض أن يفعله أي مترجم، ولا يُشكِّل صعوبة حقيقية.
(ج): ما هو موقع هذا الكتاب في مسيرتك الإبداعية؟
(ي. ن.): تتمثل أهمية هذا الكتاب في مشواري الترجمي في عدة أمور؛ أولا أن هذا هو الكتاب الأول الذي يُترجم لليديا تشوكوفسكايا إلى العربية، وهذا يعني أني أواصل تعريف القارئ العربي بأسماء روسية مهمة في عالم الأدب لا يعلم عنها شيئًا. الأمر الآخر هو أن القضايا التي تناقشها الرواية قريبة الصلة جدًا بواقع الحياة في دول كثيرة في المنطقة.
(ج): هل هناك نصوص كانت ذات تأثير خاص، أو قرأتها أثناء إنجاز الترجمة؟ ما هي المراجع التي اعتمدت عليها؟
(ي. ن.): قررت منذ فترة قراءة الأدب والفكر الروسيين بشكل مرتب تاريخيًا، الأمر الذي يجعلني أراقب تطور المجتمع الروسي بشكل يسير. ساعدتني هذه الطريقة كثيرًا في ترجمة هذا الكتاب وغيره من الكتب. تتطلب ترجمة مثل هذا الكتاب الاطلاع على حياة المجتمع الروسي في الثلاثينات. ساعدتني مثلا قصص زوشينكو التي ترجمتها سابقًا على فهم طبيعة الحياة في الشقق المشتركة والعمل في المصالح الحكومية البيروقراطية في هذا الوقت. قرأت أيضًا مذكرات ديمتري شوستاكوفيتش، وقد تناولت هذه الفترة بتفصيلات شديدة الأهمية.
(ج): من هو الجمهور المتوقع للكتاب وما الذي تأمل أن يصل إليه القراء؟
(ي. ن.): موضوع الرواية شديد الإنسانية، حيث يركز على موقف أم تختطف منها السلطة ابنها، كما يتهدم عالمها بقسوة وبرودة غير عاديتين. يلائم هذا الموضوع الإنساني أغلب شرائح القراءة. علاوة على ذلك أظن أن الرواية مهمة بشكل خاص للمهتمين بمعرفة تفاصيل ما حدث في عصر التطهير الذي قتل فيه ستالين أعدادًا هائلة من الروس.
آمل أن يدرك القراء بقراءة هذه الرواية طبيعة الأنظمة الشمولية، وكيف تحدث عملية غسيل الأدمغة تفصيلا؛ الأمر الذي ربما يساعدهم على تكوين عقلية نقدية مستقلة.
(ج): ما هي مشاريعك الأخرى/المستقبلية؟
(ي. ن.): أعمل الآن على مشروع ضخم بعنوان "مختارات من الأدب الروسي" يُقدِّم الأدب الروسي بصورة جديدة تعتمد على طرح الأعمال الروسية الهامة والفارقة بترتيبها الزمني، مما يشكل أنطولوجيا للثقافة الروسية بشرط أن تعبِّر هذه الأعمال بشكل واضح عن قضايا ذات أهمية إنسانية واجتماعية، وأن يكون مؤلفوها من الأسماء الروسية المهمة في تاريخ الأدب الروسي، والتي لم تأخذ حقها من النشر والانتشار في عالمنا العربي.
أواصل أيضًا ترجمة الأعمال الفكرية والفلسفية. سبق وأن ترجمت أعمالا فكرية لتولستوي وبيرديايف وسولوفيوف وكوروبوتكين. أترجم الآن كتابًا آخر لبيرديايف، كما انتهيت من ترجمة كتاب فكري شديد الأهمية للفيلسوف الروسي/ الأمريكي بيتريم سوروكين، وأظن أن هذا هو العمل الأول المترجم إلى العربية له.
أرغب أيضًا في التفرغ قليلا في الفترة القادمة لكتابة عمل روائي. لدي فكرة منذ وقت طويل لكن الانخراط الشديد في الترجمة عطلني عن كتابتها.
مقتطف من الرواية
أخذت صوفيا بتروفنا أسبوعين عطلة من العمل من دون أجر. هل يمكنها أن تفكر في أي أوراق أو في إيرنا سيميونوفنا وكوليا في السجن؟ لن يمكنها أن تذهب إلى العمل إطلاقًا حيث سيتوجب عليها أن تقضي الوقت من الصباح وحتى المساء، ومن المساء وحتى الصباح في طوابير عديدة. قدَّمت طلبها لسكرتير الحزب الأعرج، فبعد القبض على زاخاروف عينوه مؤقتًا قائمًا بأعمال المدير. جلس في المكتب ذاته الذي جلس فيه زاخاروف، وأمامه المكتب الكبير ذاته والتلفون. لم يرتدِ السترة نفسها ذات الياقة المنحرفة، بل حلة رمادية من أحد متاجر لينينجراد، وربطة عنق وصدرية رجالية، وبالرغم من كل ذلك بدا عديم الأهمية. قالت صوفيا بتروفنا إنها في حاجة إلى عطلة بسبب بعض الظروف الشخصية. ظل تيموفييف يكتب القرار طويلًا بحبر أحمر. قال لصوفيا بتروفنا إن إيرنا سيميونوفنا هي التي ستتولى عملها في هذه المرة، وأمرها بأن تسلمها عملها. تساءلت صوفيا بتروفنا: «ولماذا لا تحل فرولينكو مكاني؟ إيرنا سيميونوفنا جاهلة لا تستطيع الكتابة من دون أخطاء». لم يُجِب الرفيق تيموفييف بشيء ونهض من مكانه. حسنًا، لا يهم. خرجت صوفيا بتروفنا من المكتب، وأسرعت إلى الطابور.
لم تعد الأيام والليالي تنقضي في العمل ولا في المنزل، بل في عالم جديد؛ إنه عالم الطوابير. تقف على ضفة النيفا أو في شارع تشايكوفسكي حيث توجد هناك بعض المقاعد التي يمكن الجلوس عليه، أو في الردهة الضخمة لمقر قيادة أمن الدولة أو على سلالم مكتب المدعي العام. لا تعود إلى المنزل لتناول الطعام والنوم إلا حينما تحل مكانها ناتاشا أو أليك. سمح المدير لأليك بالذهاب إلى لينينجراد لأسبوع واحد فقط، لكنه ظل يؤجل عودته إلى سفيردلوفسك يومًا فالآخر، آملًا في أن يعود بصحبة كوليا. عرفت صوفيا بتروفنا الكثير في غضون هذين الأسبوعين؛ عرفت أن التسجيل في الطابور لا بد أن يتم في مساء اليوم السابق، في الحادية عشرة أو في الثانية عشرة، وأن عليها أن تأتي إلى مكانها في الطابور كل ساعتين لتحضر تفقد الأسماء، ولكن الأفضل ألا تترك الطابور نهائيًّا، لئلا يشطبوا اسمها من القائمة. عرفت أيضًا أن عليها أن تأخذ معها معطفًا دافئًا وأن ترتدي حذاءً لباديًّا، فحتى في فترة ذوبان الثلوج يمكن للصقيع أن يُجمِّد الساقين بين الثالثة فجرًا والسادسة صباحًا، وتصيب قشعريرة صغيرة الجسد كله. عرفت أن موظفي المفوضية الشعبية للشؤون الداخلية يأخذون القوائم، وأن من يُعد القوائم يأخذونه إلى نقطة الشرطة. عرفتْ أن على المرء أن يذهب في اليوم الأول من الأسبوع إلى مكتب المدعي العام، وهناك لا يستقبلون بحسب الحروف، بل يستقبلون الجميع، واليوم الموافق لحروف اسم كوليا في شباليرنايا هو اليوم السابع واليوم العشرون، فقد كان وصولها في اليوم الأول إلى النافذة الصغيرة معجزة حقيقية. عرفت أنهم ينفون أُسر المقبوض عليهم خارج لينينجراد، وأن تصاريح السفر لا تكون موجهة إلى مصحات بل إلى المنفى، وأن من يسلم هذا التصريح في شارع تشايكوفسكي هو عجوز أحمر الوجه ذو شاربين رقيقين كشاربي القط، بينما تسلمها في مكتب المدعي العام شابة ذات شعر مجعد وأنف حاد. عرفت أيضًا أنه على المرء أن يقدم جواز سفره في شارع تشايكوفسكي، بينما لا يتوجب عليه ذلك في شارع شباليرنايا. عرفت أنهم قد اكتشفوا الكثيرين من اللاتفيين والبولنديين الأعداء، وهذا ما يُفسِّر وجود الكثير من اللاتفيين والبولنديين في الطوابير. تعلَّمت أن تُخمِّن من النظرة الأولى مَن مِن المارة ليس شخصًا عاديًّا، بل أحد الذين يقفون في الطابور، بل إنها حتى عندما تكون في الترام تعرف بنظرة سريعة مَن مِن النساء في طريقها إلى البوابات الحديدية للسجن. تعلمت الانتقال بين السلالم الأمامية والخلفية كافة للجسر وأن تجد بسهولة المرأة التي معها القائمة أينما توارت. عرفت أيضًا، بعدما تخرج من منزلها بعد نوم قصير، أنها سوف تُقابل في كل مكان؛ في الشارع وعلى السلم وفي الرواق وفي الردهة؛ في شارع تشايكوفسكي وعلى الجسر وفي مكتب المدعي العام، نساء ونساء ونساء؛ العجائز منهن والشابات، يرتدين المعاطف والقبعات، يحملن أطفالًا على صدورهن في الثالثة أو لا يحملن أطفالًا على الإطلاق، ومنهن من يبكي طفلها من فرط الإنهاك، ومنهن من تصطحب طفلًا هادئًا، نساء خائفات وأخريات مقتضبات، وكما حدث في طفولتها أن أغلقت عينيها بعد رحلة في الغابة ورأت ثمارًا وثمارًا وثمارًا، ها هي الآن تغلق عينيها فترى وجوهًا ووجوهًا ووجوهًا.
شيء واحد لم تعرفه في غضون هذين الأسبوعين؛ لماذا قبضوا على كوليا؟ ومن سيحاكمه؟ ومتى ستكون هذه المحاكمة؟ ما التهمة التي وجهوها إليه؟ متى ينتهي سوء الفهم الغبي هذا ويعود إلى منزله؟ نظر العجوز ذو الوجه الأحمر في مكتب الاستعلامات في شارع تشايكوفسكي ذو الشاربين اللذين يبدوان كشاربي القط إلى جواز سفرها وسألها: «ما اسم ابنك بالضبط؟ هل أنتِ أمه؟ لماذا لم تأتِ زوجته؟ غير متزوج؟ نيكولاي ليباتوف؟ التحقيق ما زال جاريًا». وألقى لها الجواز من النافذة، وقبل أن تنطق صوفيا بتروفنا بشيء سقط باب النافذة الصغيرة من أعلى إلى أسفل، ورن جرس يعني «التالي». لم يكن لدى صوفيا بتروفنا ما يمكنها أن تتحدث عنه من خلف باب النافذة، ومن ثم وقفت في مكانها للحظة ثم رحلت. في مكتب المدعي العام قالت لها الشابة ذات الشعر المجعد والأنف الحاد، وهي تطل من النافذة الصغيرة: «ليباتوف؟ نيكولاي فيدوروفيتش؟ لم تصل القضية إلى مكتب المدعي العام بعد. عودي إلى هنا بعد أسبوعين». أبعد الرجل السمين الناعس مالها وقال: «غير مسموح له». هذا كل ما عرفته عن كوليا؛ البعض يُسمح لهم بتلقي المال من ذويهم، أما هو فلسبب ما غير مسموح له. لماذا؟ لكنها فهمت جيدًا أنه لا طائل من توجيه السؤال للموظف من خلف النافذة.