موجز المقال
تبحث هذه المقالة على جزئين في عملٍ سينمائي وثائقي يعود إلى عام 1957 تحت عنوان "برنامج الإسكان العراقي". وقد احتوى هذا التسجيل السينمائي على لقطاتٍ نادرة لعشوائيات الصرائف (أي تلك الأكواخ المصنوعة من القصب والطين) التي كان يسكنها مهاجرو الأرياف في مدينة بغداد في منتصف القرن المنصرم. وقد تم إنتاج ذلك الفيلم - الذي لم يكتمل أو يبصر النور – من خلال تعاونٍ بين المهندس المعماري اليوناني كونستانتينوس أ. دوكسياديس والمخرج ديميتريوس غازياديس، حيث قام الأخير بتصوير الفيلم ومونتاجه بين بغداد وأثينا. وتمثّل الغرض الأساسي من وراء الإنتاج حينها في إضافة الفيلم إلى عرض مكتب "دوكسياديس وشركاه" في معرض الإسكان القومي العراقي وتسليط الضوء على مشاريع الإسكان الحديثة التي صممها المكتب. وقد تم تصوير هذا الفيلم خلال فترة استخدمت فيها العديد من ممثلي نظام الدولة للفيلم الوثائقي باعتباره وسيطاً تمثيلياً ضمن محاولاتها لإعادة تعريف حدود مفاهيم المواطنة العراقية. وبذلك، يقدّم هذا الفيلم الوثائقي بوابةٍ سينمائية لبغدادَ أخرى صُوِّرَت باعتبارها مشكلة تنموية. وعلى خلفية تلك المناظر، ينتقل الفيلم في مَشاهِده اللاحقة لرواية الحلول المقترحة لتلك الأحياء العشوائية من خلال وضع إحدى عائلات الصرائف في منزل حديثٍ خُصِّصَ لذوي الدخل المنخفض، وذلك بقصد تحفيز الخيال التنموي للفيلم. كما يعرض الفيلم مفهوم ملكية العراقيين الشاملة للمنازل كشكل من أشكال المواطنة التي تقدّم المنزل باعتباره أداةً لتيسير الاتفاقات المالية والقانونية والاجتماعية بين مهاجري الأرياف والدولة العراقية. ومن خلال استجوابه للتساؤل المنهجي المتعلّق بكيفية تجميع أرشيفات المواقع المؤقتة وتوابعها، يقترح هذا المقال توسيع مفاهيمنا حول ماهيّة الأدلة التاريخية لحصد استيعابٍ أفضل للعلاقات المتشابكة ما بين العمارة والسياسات التنموية، وتمثيلاتها في وسائل الإعلام.
المشهد الأول: تنظيم الأرشيف
عُثر على لوح الكلاكيت أدناه يحمل العبارة التالية: "بغداد 3/5 صريفة".
يقف رجل ممسكًا بلوح كلاكيت مائل بيده اليسرى [شكل 1] في لقطة اختبارية لفيلم تحت عنوان "برنامج الإسكان العراقي" من إنتاج شركة "داج فيلم" (DAG-Film). وقد تم تصوير هذا الفيلم في عام 1957 دون أن يتم إكماله، وأشرف على إنتاجه المهندس اليوناني كونستانتينوس أ. دوكسياديس باعتباره فيلماً وثائقياً يروّج لمشاريع فرع مكتبه المعماري الاستشاري في العراق. إذ وظّف مجلس التنمية العراقي دوكسياديس في عام 1955 بالتزامن مع تحوّل استراتيجية المجلس الاستثمارية نحو البرامج الاجتماعية، وهو ما أملته جهود الحكومة العراقية للحد من مظاهر المعارضة السياسية التي شهدتها آنذاك{1}. وحول ذلك، تشير الباحثة الأكاديمية "بانايوتا بيلا" إلى أن اختيار مجلس التنمية العراقي لـ “دوكسيادس" قد جاء بشكل جزئي نتيجة لمنهجه متعدد التخصصات والمدعو "إكيستيكس" (Ekistics). حيث يهدف هذا النهج إلى إعادة تعريف المهندسين المعماريين والمخططين كخبراء تنمويين من خلال التركيز على أهمية البيئة المادية، والذي يتم بدوره من خلال دعمهم لنشاطات التنمية الاجتماعية والاقتصادية{2}. وعلى العكس من الحداثة الخيالية التي قدّمتها الأفلام البريطانية والأمريكية في هذا المجال في العراق، فقد وظّف "دوكسيادس" منهجه الفريد في دعوة المشاهد إلى النظر إلى مدينة بغداد من خلال عدسة سينمائية مغايرة{3} تستعرض الظروف الاجتماعية والمادية في بغداد باعتبارها مشكلة تنموية، وكموقع محتمل لتطبيق نشاطات الانتقال من الإنسان التقليدي غير الكفء إلى الإنسان الاقتصادي المنتج{4}.
[شكل 1: لقطة للوح كلاكيت من فيلم برنامج الإسكان العراقي كتب عليه "بغداد 3/5 صريفة"، 3 أيار 1957. العراق: (البكرة الثانية) الموصل، سورشينار، الوشّاش، بغداد، صور متحركة وتسجيلات فيديو/ 29158، أرشيف كونستانتينوس دوكسياديس، 3:15. مؤسسة كونستانتينوس وإيما دوكسيادس].
تشير الكتابة على اللوح أعلاه إلى تصوير طاقم العمل لتلك المشاهد في 3 أيار 1957، وخلف سد بغداد الشرقي في "صرائف العاصمة"، والتي كانت تعد أكبر عشوائيات صرائف بغداد حينها. تبدو خلف لوح الكلاكيت عشوائيةٌ مترامية الأطراف من الأكواخ، في حين يبدو قريباً منه بركة كبيرة من المياه الآسنة. ويبدو بعيداً في يمين الصورة طفلان انعكست صورتهما في المياه الراكدة، تحيطهما جدران هيكلٍ طيني غُطّي بحصائر من القصب. وفي حين يتم عرض هذا الموقع في سياق الفيلم باعتباره مشكلة واجبة المعالجة، تأتي الحلول اللازمة لمعالجة هذه الظاهرة في مشاهد الفيلم الوثائقي اللاحقة عند نقل العائلات الريفية من الأكواخ إلى صفوف من منازل مخصصة لذوي الدخل المنخفض، وذلك في تمثيلٍ لنموذجٍ جديد من المواطنَة الحضرية الواقعة ضمن رؤيةٍ طموحة للمدينة. ويجادل الفيلم ضمنياً بأن هذه هي بغداد "الجديدة" التي تميّزها إعلانات لافتات النيون وأضواء الشوارع والجسور والدوّارات (الفِلَك) وغيرها من مظاهر الهندسة المعمارية الحديثة، علاوة على اكتظاظها بالمقاهي وأطفال المدارس المرحين والنساء اللواتي يرتدين بدلات التنانير وفق أحدث خطوط الموضة. وهي بغدادٌ لا يمكن تحقيقها إلا عند تحويل "المسكن" إلى "إسكان" عبر نهجٍ من التخطيط الحضري الذي يمتاز بمركزيته وتركيزه على الاقتصاد الكُلّي.
صادف عثور مؤلفة المقال على هذا الفيلم أثناء اطّلاعها على مجموعة من بكرات الأفلام الصامتة بالأبيض والأسود من مقاس 35 ملم في أرشيف "دوكسيادس" في مدينة أثينا في اليونان{5}. وقد بلغ حجم الفيلم أربع بكرات مجموعها 1،046.40 متراً من التسجيلات التي تم تحميضها [شكل 2]. وتظهر كلمة (EAPI(I)EE) والتي تعني "صرائف" باليونانية في بقايا ملاحظاتٍ مختصرة دوّنها فريق المونتاج على عجلٍ على غلاف إحدى البكرات للإشارة إلى محتوى البكرة، والتي بدت وكأنها نوعٍ من شفرة الولوج إلى تاريخ لموقع تابعٍ ولعلاقته بالمنطق التنموي للدولة العراقية الحديثة [شكل 3]. إلا أن كتابة هذا التاريخ البديل هو بدوره أمرٌ يطرح سؤالاً منهجياً رئيسياً مفاده التساؤل حول قدرة المؤرخ على تحديد موقع الأرشيف الذي يوثّق تفاصيل تلك الأماكن المؤقتة والتابعة.
[شكل 2: شركة "داج فيلم" للإنتاج. بكرة معدنية لفيلم “برنامج الإسكان العراقي"، 1957. البكرة الأولى، سالب الصورة، برنامج الإسكان العراقي / 29200، أرشيف كونستانتينوس دوكسيادس. مؤسسة كونستانتينوس وإيما دوكسيادس].
[شكل 3: ΣAPK'EΣ - الترجمة الحرفية للكلمة اليونانية المرادفة لكلمة "صريفة" بالعربية، وقد وجدت داخل علبة بكرة الفيلم. العراق: بغداد ليلاً ونهاراً / 29156، أرشيف كونستانتينوس دوكسيادس. مؤسسة كونستانتينوس وإيما دوكسيادس].
يعمل هذا البحث من خلال سلسلة من المشاهد السينمائية على دراسة مساهمات هذا الفيلم ضمن مشروعٍ أوسع يهدف إلى تجميع أرشيفٍ لعشوائيات الصرائف السابقة في مدينة بغداد. وفي هذا السياق وإدراكاً منه بأن "تاريخ الجماعات التابعة هو مجزأ وعرقي بالضرورة"، فقد اقترح الفيلسوف الإيطالي أنطونيو غرامشي وجوب "اعتبار كافة المبادرات المستقلة من جانب المجموعات التابعة على أنها مساهمات ذات قيمة لا تثمّن للمؤرخ المتكامل. وعليه فلا يمكن التعامل مع مثل هذا النوع من التأريخ إلا بالتفصيل، متطلباً في كل دراسةٍ لكمية هائلة من المواد التي يصعب جمعها في كثير من الأحيان"{6}. وعلاوة على ذلك، جادل "بنجامين زاكاريا" مؤخراً بأننا نعمل على "ابتكارنا للأرشيف ذاته في كل مرة يواجهنا سؤالٌ نود الإجابة عنه، ومن ثم يقوم شخصٌ آخر بعد ذلك بإعادة ابتكار ذات الأرشيف مرة أخرى بغرض الإجابة عن سؤالٍ آخر جديد"{7}. وفي حين لا يخفى هنا بأن الجهود المعنية بمحاولة استخلاص وجهات نظر التابعية عبر الأرشيف الرسمي هي جهودٌ لا طائل منها، إلا أن طرح مجموعة متنوعة من الأسئلة المتطلّبة لوجود ذلك الأرشيف هو أمرٌ من شأنه أن يؤدي بدوره إلى ابتكار تنظيمٍ بديل، وتطويعٍ للأدلة التاريخية التي تضع تلك المواقع التابعة في صميم التواريخ الوطنية والعابرة للقوميات ضمن أنظمة الرأسمالية والتنمية وتشكيل الدولة الحديثة.
أما إذا قام الفرد هنا بتطبيق تعريفات "غرامشي"، فإنه سيجد أن هذا الفيلم لا يحقق عناصر "المبادرة المستقلة" إلا في حدود دنيا وذلك نظراً لمماثلته للعديد من ممارسات التوثيق التصويرية والنصية والمرئية الأخرى للصرائف، والتي تم جمعها من قبل ذات الجهات الحكومية المعنية بمحوها. وهنا تجدر الإشارة أيضاً إلى وجود بيئة عفوية مبنية ضمن السجل التاريخي المتفرّق تحيطها قضايا تمثيلها الخارجي. وفي سياق هذا الفيلم بالتحديد، يأتي هذا التوثيق متوغلاً في القضايا المتعلقة بالتمثيل الخارجي وامتلاك الصوت والمرئية، والتي تشاركها فيها أرشيفات النصوص والمرئيات. بل أن هذا الفيلم قد كان في الواقع جزءاً من نوعٍ راسخٍ من أنواع أفلام التخطيط الحضري الهادفة إلى حشد تأييد الرأي العام في دعم التحوّلات الحضرية أثناء فترات الاضطرابات على أنواعها. وهي أفلامٌ عكست في كثيرٍ من الأحيان تناقضاتٍ بصرية صارخة ما بين مشاريع الإسكان الحديثة وبين الأحياء التي كتب الدهر عليها الإشارة لها بالعشوائيات{8}.
وبغض النظر عن جميع ما سبق، يقدّم هذا الفيلم الوثائقي مدخلاً مرئياً عابراً إلى الصرائف التي اختفت من مشهد مدينة بغداد الحضري، والتي كانت عاجزة في وجه فيضانات النهر والتدخلات الحكومية على حد سواء. وبالنسبة للمؤرخ الساعي إلى جمع أرشيف حول البيئة المبنية غير الرسمية، تمثّل هذه اللقطات وعداً مغرياً وخطِراً بالتصوير المفاجئ لأولئك الذين تم محوهم من سرد السجل التاريخي الرسمي. علاوة على ذلك ومن خلال السكنى خارج الأطر المعيارية للبناء والتخطيط وتقسيم الأراضي، فقد تم سرد تاريخ تلك الهياكل وساكنيها في الفيلم من منظور العلوم الاجتماعية الصغرى، أو إبعادهم إلى الحيز الدارج "للعمارة دون معماريين" على وفق ما حرّض به "برنارد رودوفسكي" في عام 19649.
أما في "ما وراء التاريخ"، فيصف المؤرخ الأمريكي "هايدن وايت" المؤرخ باعتباره الوسيط ما بين "المجال التاريخي، والسجل التاريخي غير المعالج، والحسابات التاريخية الأخرى، وعامة الجمهور"{10}. ولا يسع الفرد هنا سوى التساؤل عما إذا كانت القيود التي تفرضها الأرشيفات هي سبب بقاء مثل هذه المواقع في هامشيتها، أم أن العلماء قد تجاهلوا حتى الآن وضع البيئة المبنية غير الرسمية في قلب سردياتهم، وذلك حتى على الرغم من الآثار الدالة على وجودها في الأرشيف. أما في السياق العراقي على وجه التحديد، فقد استجابت الأدبيات المتعلقة بالعراق حتى يومنا هذا لدعوة أخرى مقنعة بالقدر ذاته لتوسيع المعيار المعماري إلى ما وراء الغرب، وإبراز بغداد كموقع لتشريع وإنتاج الحداثة في منتصف القرن العشرين. ويجب التذكير هنا بأن التساؤلات التاريخية قد صيغَت في الماضي كردودٍ على "المجال التاريخي" و "الجمهور" الذي يمتلك في هذه الحالة اهتماماً دائماً بالاطلاع على إنجازات أبرز المهندسين المعماريين الذين عملوا في العراق أمثال ألفار آلتو، رفعت الجادرجي، لو كوربوزييه، كونستانتينوس دوكسياديس، والتر غروبيوس، قحطان المدفعي، محمد مكية، جوزيب لويس سيرت، فرانك لويد رايت، وشركة مياستوبروجكت-كراكوف، وغيرهم{11}.
نشرت الباحثة "سيسيليا بيري" في عام 2015 تقريراً تضمّن المسح الأكثر شمولاً إلى يومنا هذا حول تطور بغداد العمراني تحت عنوان: "بغداد: إعمار مدينة حديثة (1914-1960)" {12}. وقد نوّهت المؤلفة بأن هذا البحث يقتصر على "المنازل المبنية بشكل رسمي أو على البيئة الرئيسة" دون الصرائف التي ظهرت في ثلاثينيات القرن العشرين، والتي لم يتم الشروع في إيجاد حلول دائمة لها سوى في الستينيات"، وذلك نظراً لتشكيل هذا الجزء من المعلومات "لموضوعٍ منفصلٍ في حد ذاته"{13}. وفي حين كان هناك عددٌ من المحاولات ضمن النظرية الحضرية المعاصرة لإعادة اعتبار هذا "التمدن التابع" المزعوم، فإنه يبقى حتى اليوم موضوعاً هامشياً في سياق تاريخ بناء الدولة والحداثة المعمارية{14}. ولا يساهم هذا التقسيم ما بين الرسمي وغير الرسمي في ترسيخ الفروقات الاستطرادية فحسب، بل ويشكّل حقيقة اجتماعية ذات تداعيات اقتصادية وبيئية وسياسية على كيفية تنظيم المواقع والسكّان ودراستها وتقييمها. ولكن وإذا تمكّن العلماء من تأريخ ما يدعى بأنماط السكن "غير الرسمية" باعتبارها متوافقة مع مشروع الحداثة، فربما يمكننا عندها البدء في تغيير طرق استيعابنا للطبيعة البديهية للدولة ذاتها{15}.
وفي سياق الحيز المتواضع لتاريخ الفيلم الوثائقي العراقي، وظّفت منى الدملوجي مفهوم "الفيلم الاستعماري الجديد" في دراسة حلقات مجلة السينما التابعة لشركة النفط العراقية بين عامي 1951 و1958 {16}. وقد صادف كذلك مساهمة وحدة أفلام شركة النفط العراقية أيضاً في تسجيل "برنامج الإسكان العراقي" بمقطع سينمائي قصيرٍ، وكما سيتم مناقشته لاحقاً عند تناول المشهد الثالث في هذا المقال. ويعد مثل هذا التبادل للأفلام في حد ذاته دليلاً على تشارك برنامج الإسكان العراقي وشركة النفط العراقية في استراتيجياتهما الاستعمارية الجديدة، والتي تقوم من خلالها الشركات البريطانية والأمريكية بتزويد المواد والمنتجات والخبرات المطلوبة لتحقيق الرؤية الطموحة للعراق الحديث. كما تجدر الإشارة هنا إلى عدم ظهور صرائف بغداد في أي من أفلام شركة النفط العراقية ذاتها، واعتمادها بدلاً من ذلك على لقطات شاعرية لأشخاص يرتدون الملابس التقليدية ضمن مشهدٍ ريفي عام، وتقديمهم عوضاً عن ذلك باعتبارهم مواضيع نمطية للتنمية. فعلى سبيل المثال، يتضمّن فيلم "العراق الخالد" الذي أنتجته شركة النفط العراقية في عام 1954 لمشهدٍ مدته 35 ثانية يبدو فيه مجمّع من الصرائف في منطقة الأهوار في جنوب العراق، حيث كان يعيش العديد من المهاجرين إلى بغداد سابقاً. ويعلّق الراوي في الفيلم على ما يُنظر إليه باعتباره منظراً طبيعياً بريئاً، قائلاً: "هذه طريقةٌ ملائمة للعيش في كنف هذه البيئة غير المعهودة، وشاهدٌ في الوقت ذاته على ذلك الماضي البعيد حين استقر الإنسان على هذه المياه لتأسيس أولى المدن العظيمة التي عرفتها البشرية"{17}.
وفي حين تجنّبت شركة النفط العراقية تصوير مظاهر الفاقة الحضرية بشكلٍ عام، إلا أنها ركّزت في هذا المثال على الإرث التاريخي لهيكل الصريفة. وهو منظورٌ يشاركها فيه علماء الآثار العرقيّين أو الإثنيين المعاصرين، والذين يشيرون إلى نحت أشكال تلك الصرائف على الأختام الأسطوانية السومرية قديماً{18}. وفي حين تعد الصريفة نوعاً محدداً من أنواع حصائر القصب المنسوجة يدوياً والمرتبطة بالفلاحين وآل معدان (عشائر الأهوار الجنوبية)، إلا أنه تم في خمسينيات القرن المنصرم استخدام مصطلح "الصريفة" بشكل غير دقيق للإشارة إلى الإنتاج المعماري لمهاجري الأرياف من جنوب العراق، والذين قاموا بتكييف ممارسات البناء المتعارف عليها لديهم مع سياقهم الحضري الجديد في بغداد. وعلى الرغم من صنع العديد من تلك الهياكل من مزيجٍ من الطين والحصير والألواح المعدنية وسعف النخيل، أو الأعمدة الخشبية وجلد الحيوانات وغيرها من المواد التي كان يتم العثور عليها، إلا أنه تمت الإشارة إليها مجتمعة تحت مسمّى "عشوائيات الصرائف" وباختصارٍ بيروقراطي جسيم.
وبذلك، أصبحت تلك العشوائيات مأهولة بفئة حضرية جديدة هي "سكّان الصرائف"، وهو مسمّى جاء عبارة عن مزيجٍ عربي-إنجليزي يستحضر بشكل مباشرٍ لهيئة "سكّان العشوائيات" في المدن الصناعية الكبرى. وعلى النقيض من الأحياء الفقيرة في أوروبا والولايات المتحدة حيث تم دعم وتعزيز ممارسات حيازة الأراضي الحضرية المؤقتة وحقوق الملكية، فغالباً ما بنى عشرات الآلاف من المهاجرين الذين انتقلوا إلى بغداد منذ الثلاثينيات فصاعداً مساكنهم على أراضٍ حكومية أو خاصة مشغولة في الأحياء القديمة، أو على قطع الأراضي الفارغة في أحياء الضواحي الجديدة، أو تلك الأراضي الواقعة على امتداد المحيط الريفي للمدينة.
وبالتالي، تمثّل الصريفة وساكنيها أدوات منطقية لممارسات التخطيط الحداثية العابرة للحدود، وذلك نتيجة لتشكّلها ضمن الخيال التنموي للدولة العراقية الوليدة وتعاونها مع المستشارين الغربيين في هذا السياق. كما ولّدت هذه التحليلات العلمية في منتصف القرن العشرين مفرداٍت جديدة ونماذج اقتصادية وجمالية سعت إلى دمج سكان الصرائف ضمن الجهاز الدولة الحكومي. وقد تحوّلت تلك الصرائف في خمسينيات القرن الماضي إلى قضية قضّت مضجع كافة المسؤولين عن جهود التنمية الحكومية في العراق، وكان ذلك نتيجة لمشاركة ساكنيها في الانتفاضات الكبرى ضد النظام الملكي الهاشمي ومشاركتهم في الاضطرابات والإضرابات الشيوعية. فعلى سبيل المثال وفي 20 كانون الثاني من عام 1948، شارك عمال السكك الحديدية وطلاب الجامعات وساكنو الصرائف في مسيرة معروفة تاريخياً خلال الوطبة للاحتجاج على تجديد معاهدة عام 1930 بين بريطانيا والعراق. وقد أسفرت المسيرة عن مقتل عدة أشخاص بعد إطلاق قوات الشرطة النار على الحشود المشاركة فيها{19}.
وحول ذلك وفي كتابه المنشور في عام 1978 تحت عنوان "الطبقات الاجتماعية السابقة والحركات الثورية في العراق: دراسة حول الطبقة التجارية وطبقة ملاك الأراضي والشيوعيين والبعثيين والضباط الأحرار"، يلقي حنا بطاطو الضوء على حوالي مائة ألف من "الشروقيين" المنتمين إلى المذهب الشيعي في العراق. ويشير مصطلح "الشروقي" إلى الفرد القادم من الشرق، وهم في غالبهم المهاجرون من محافظة العمارة العشائرية. يؤكد بطاطو على لعب هؤلاء المهاجرين ("وصرائفهم المنتشرة طِينها وقصبها ضمن مشهد بغداد الكبرى العام") "كعاملٍ محوري في تشكيل الحزب الشيوعي العراقي"{20}. كما أدت تلك الهجرة الجماعية إلى العاصمة إلى هبوط التعداد السكاني في العديد من المناطق الزراعية بشكل سريع وإلى درجةٍ وصف بطاطو فيها التحضّر اللاحق للعاصمة بأنه "تعميرٌ" لبغداد (في إشارة إلى محافظة العمارة){21}. وعلاوة على ذلك، فقد جادل بطاطو أيضاً بالدور المحوري الذي لعبه المهاجرون من الأرياف إلى العاصمة في أحداث ثورة 1958 المناهضة للنظام الملكي العراقي{22}.
وإذا أخذ الفرد برؤية بطاطو لثورة عام 1958 باعتبارها ثورة الأرياف ضد الطبقات الحاكمة في العاصمة بغداد، فيصبح من الضروري عندها دراسة قيام الطبقة الحاكمة بالترويج لمشاريع برنامج الإسكان القومي والتخطيط الحضري باعتبارها محاولاتٍ لإثباط إمكانية نشوب ثورة يشارك فيها ساكنو الصرائف، وعندها يصبح فيلم "برنامج الإسكان العراقي" جزءاً مهماً من "الدليل التاريخي" على ذلك نظراً لوضعه عشوائيات الصرائف في قلب روايته السينمائية للتنمية. وكما سيحدث لاحقاً، فسيتم القضاء على الملكية الهاشمية التي رَعَت تلك التحولات الحضرية الواسعة النطاق بهَرَميّتها التنازلية في تموز من عام 1958 عبر انقلابٍ عسكري مدعوم بأغلبية ساحقة من سكان صرائف العاصمة الذين ظهروا في هذا الفيلم في العام السابق.
حاول مجلس التنمية العراقي قبل نشوب الثورة بثلاثة أعوام تغيير استراتيجيته الاستثمارية لتهدئة الانتفاضات الشعبوية. إذ اتّبع كبار مستشاري العراق أمثال اللورد جون سالتر في البداية للمنطق الحسابي للتطور الرأسمالي بهَرَميّته التنازلية، والذي لم يشجع على استثمار عائدات النفط - الشحيحة حينذاك - في القطاعات "غير الإنتاجية" مثل التعليم والصحة والإسكان{23}. إلا أن حجم الاستياء الشعبي والأيديولوجي المتزايد قد أجبر على إعادة تخصيص تلك الموارد بشكل عاجل، وهو ما عبّرت عنه الإضرابات العمالية (ومنها على سبيل المثال إضرابات عمال النفط والموانئ وسكك الحديد) وحركات الاحتجاج (ومنها على سبيل المثال احتجاجات عام 1948 والوثبة وانتفاضة عام 1952) وصحف المعارضة (انتفاضة صحيفة "الأهالي" على سبيل المثال) والاضطرابات البرلمانية. وهكذا وفي عام 1955، نصح سالتر مجلس التنمية العراقي بإطلاق "برنامج علاقات عامة من الدرجة الأولى" للإعلان عن إنجازات المجلس عبر "الوسائط المرئية والمسموعة للوصول إلى الشرائح الأمّية من الشعب"، ومصاحبة ذلك ببعض "المشاريع قصيرة الأمد في المدن [...] لتقريب المجلس من سكان الحضر [...] والمساعدة في التخفيف من آثار "البطالة الحالية والجزئية"{24}.
وعلى الرغم من عدم إسفار معظم توصياته لأي إجراء أو رد مباشر، إلا أن "النتيجة الأكثر دراميّة [لتقرير سالتر] تمثّلت في إطلاق مجلس التنمية العراقي في عام 1955 لبرنامج إسكان وطني خصصت له ميزانية كبيرة"{25}. كما تجدر الإشارة إلى أنه وفي ذات العام الذي نُشر فيه تقرير سالتر، قام مجلس التنمية العراقي بتعيين دوكسياديس بصفته مسؤولاً مساعداً لخطة مارشال، حيث أشرف الأول على تنسيق إعادة إعمار اليونان بعد الحرب. وقد كان العراق عند وصول دوكسياديس إليه في عام 1955 مفتقراً إلى وزارةٍ للإسكان، وبالتالي فقد كان على مكتب دوكسياديس وشركاه تولّى كافة وظائف الوزارة ذاتها وبشكلٍ فعال حتى إضافة مجلس التنمية لاحقاً للقسم الفني الخامس المخصص للإسكان، والذي قام الإشراف على أنشطة جدول أعمال التنمية.
أشار دوكسياديس على مجلس التنمية العراقي بحاجة القطر إلى إنشاء مساكن لمليون أسرة عراقية خلال الأعوام العشرين المقبلة. وبالنظر إلى أن الخطط الخمسية كانت لا تزال معياراً في ممارسات التخطيط لفترات ما بعد الحروب، فقد بدأ برنامج الإسكان العراقي بخطة خمسية تحت عنوان "البرنامج التأسيسي الأساسي" (1956-1962) استهدفت احتياجات 256,000 أسرة عبر العراق، في حين امتد برنامج الإسكان الشامل تحت عنوان "البرنامج العظيم" إلى 25 عاماً بعدها{26}. وقد كان من المخطط بناء 110,000 وحدة سكنية من أصل الوحدات المذكورة آنفاً في المناطق الحضرية، و125,800 منها في المناطق الريفية، إضافة إلى 20,200 وحدة سكنية تخصص للبرامج الخاصة (ومنها على سبيل المثال برامج الإسكان لموظفي الخدمة المدنية والعمال الصناعيين والحرفيين). وعلاوة على ذلك، فقد كان الهدف الرئيسي من برنامج إزالة العشوائيات في مدينة بغداد هو توفير المساعدة الذاتية أو الإسكان الممول حكومياً بشكل فوري لحوالي 8,100 أسرة، إضافة إلى مساعدة 28,500 أسرة أخرى في غضون خمس سنوات من تاريخه. وقد وُعِدَت كل أسرة من أسر الصرائف حينها باستلام قطعة أرض لبناء منزلها عليها، مصحوبة بإمدادات المياه والأساسات السليمة، إلى جانب نظامٍ للصرف الصحي وعدد من الملحقات السكنية متعددة الوحدات.
كان المبدأ التنظيمي الأساسي في برنامج الإسكان الجديد هو دخل الأسرة، وكان ذلك بهدف تعطيل منطق تنظيم الأحياء التقليدية المبني على أسس القرابة أو الدين أو الانتماء العشائري. وقد آمنت الممارسات في تلك الفترة بضرورة الفصل ما بين المجتمعات ذات الدخل المنخفض والمرتفع، وهو ما كان يتم غالباً عبر وضع الأحياء ذات الدخل المتوسط والتي تتمتع "بمساحات خضراء'' للفصل بهدوء بين تلك الطبقات{27}. وتماشياً مع معاصريه من أمثال تشارلز أبرامز وأوتو كونيغسبرغر، فقد روّج برنامج دوكسيادس للإسكان الرغبة في امتلاك المنزل باعتبارها "طموحاً إنسانياً فطرياً"{28}. وكما جادل إجلال مظفر، فإن إعادة تكوين المنزل باعتباره ظاهرة منطقية بدلاً من كونه حاجة مادية يخلق "تبادلاً متذبذباً ما بين الحداثي وما بعد الحداثي'. وهو تباينٌ يتيح بدوره تنظيم الهندسة المعمارية لموضوع التطوير الماثل أمامها، وتوجيه "نشاط البناء نحو دوائر التمويل والإنتاج الصناعي بغض النظر عن البنّاء الفردي"{29}. وحول ذلك تشير نانسي كواك عبر كتاباتها عن التصدير الدولي لنموذج ملكية المنازل الأمريكي في مواقع مثل العراق، واصفة برامج إسكان منتصف القرن العشرين على أنها نسخة "حديثة" من أساليب الملكية التي تشرف على تنظيمها الدولة، والتي تدفعها الديون وإن أعطت الوهم بتزايد الثروات والأمان". كما تؤكد كواك بإمكانية تشكيل هذا الأسلوب من الحيازة كذلك لطبقةٍ وسطى من شأنها المساهمة في "الاستقرار السياسي بالتزامن مع رعاية قطاع البناء المحلي وتعزيز أسواق العمالة"{30}.
وعلى الرغم من الترحيب الذي صادفته خطة الإسكان العراقية الجديدة، فقد حظي "برنامج العلاقات العامة" للخطة بالأولوية بدلاً من تنفيذ مشاريع الإسكان ذاتها، وذلك نظراً لهدف برنامج العلاقات العامة المتمثل في تحسين صورة مجلس الإسكان العراقي أمام عامة الشعب. وبذلك، سبقت الدعاية الخطة ذاتها. وعلى الرغم من تعيين دوكسيادس في عام 1955، إلا أنه قضى معظم ذلك العام في تأسيس فرع مكتبه في بغداد، وتعيين الموظفين، وإجراء رحلاتٍ استطلاعية للأبحاث في كافة أرجاء العراق. ولذلك فلم يبدأ تصميم وتنفيذ المخططات التجريبية قصيرة الأمد أو "برامج العمل الخاصة" لخطة الإسكان العراقية إلا في عام 1956، ولن تكتمل معظم تلك المشاريع قصيرة الأمد إلا بحلول عام 1957 أو 1958. ومع ذلك، إلا أن الدعاية التي صاحبت تعيين دوكسيادس في عام 1955 قد أدت إلى رفع التوقعات العامة بسرعة، ما سبب قلق دوكسياديس وتوتره{31}، كما زاد من التحديات اندلاع الانتفاضة في عام 1956. وبذلك كانت العديد من برامج العمل الخاصة قيد التنفيذ بحلول ربيع عام 1957، إلا أنه لم يتم الانتهاء من معظمها أو افتتاحها. ومع ذلك، كانت التوقعات الشعبية عالية للغاية وعلى الرغم من عدم تمتّع التغطية الصحفية للمشاريع الجارية ومقترحات الإسكان بالعديد من الأدلة حول التحسينات التي شهدتها حياة سكان الصرائف، والذين كان من المفروض تشكيلهم الدافع الأول وراء برنامج الإسكان الوطني.
وبغرض الترويج لنشاطاتهم الإسكانية، طلب مجلس التنمية العراقي من مكتب دوكسيادس تصميم معرض الإسكان العراقي الأول الذي كان سيعقد بين 23 آذار و5 نيسان في عام 1957 ليتزامن مع أسبوع التنمية العراقي السنوي الثاني. وقد جرت أثناء محادثةٍ غير رسمية بين دوكسيادس ومسؤولي مجلس التنمية مناقشة إمكانية إنتاج فيلم حول كلٍّ من المعرض ومشاريع الإسكان الجارية، وذلك بهدف الوصول إلى جمهور وطني ودولي أوسع. وعلى الرغم من عدم حصول دوكسيادس على تصريحٍ صريح بالفيلم أو بميزانيته، إلا أنه اعتبر تلك المحادثة بمثابة ضوءٍ أخضر للبدء في العمل{32}. وسرعان ما دعا دوكسيادس المخرج اليوناني الشهير ديميتريوس غازياديس (والذي استقدم معه المصور السينمائي أندرياس أناستاساتوس) لبدء التصوير في العراق [شكل 4]. كان غازيادس قد أسس نفسه كمخرج أفلامٍ معروف بحلول خمسينيات القرن الماضي، حيث بدأ مسيرته في وقت مبكر عبر فيلمٍ لم يبصر النور كلّفته به وزارة الخارجية اليونانية في عام 1922 تحت عنوان "المعجزة اليونانية"، والذي كان من المفروض أن يتناول تفاصيل البعثة اليونانية التي أرسلت إلى آسيا الصغرى لمحاربة الأتراك. وبعد إتقانه الحرفة من خلال تصوير الأفلام الإخبارية الوثائقية، أسس غازيادس شركة "داج فيلم" للإنتاج في عام 1927 منتقلاً إلى صناعة الأفلام الروائية. كما كان لغازيادس الفضل في تأسيس أسلوبٍ وطابعٍ "وطني" مميز لصناعة الأفلام اليونانية{33}.
[شكل 4: ديميتريوس غازيادس في الموصل وهو يخرج فيلم برنامج الإسكان العراقي.
العراق: غربي بغداد - الوشّاش - الموصل / 29139، كونستانتينوس دوكسيادس.
الأرشيف، 1:06. مؤسسة كونستانتينوس وإيما دوكسيادس].
تروي المشاهد التالية كيفية استخدام العوامل المتعلقة بإعادة تعريف حدود المواطَنة العراقية كوسائط تمثيلية للفيلم الوثائقي. وبدورها، تصوّر تلك العوامل العديد من المسارات الطموحة لتحويل سكان الصرائف من مهاجرين إلى مواطنين، ورفعهم من الطبقة الدنيا إلى المتوسطة، ومن الأماكن العشوائية إلى الأحياء المخططة، ومن المساكن المرتجلة إلى تلك ذات العمارة الحديثة، ومن العيش مع شبكة الأقارب الممتدة إلى العيش كعائلات نووية الحجم، ومن السكنى مع الحيوانات وسط المسطحات المائية إلى عزلهم بدرجة أكبر عن الهوام و"البيئة المحيطة" بهم. وبالتالي، فإن للفيلم توجهاً تعليمياً واضحاً يتمثّل في إيمانه بتحقيق الخيال المتصوَّر لعراقٍ متقدم فقط عند تغيير حياة المهاجرين من خلال الحلول التي تطرحها ممارسات التخطيط العمراني.
يعتبر هذا التسجيل السينمائي نادراً بشكل خاص نظراً لقمع الحكومة العراقية شبه الدائم لصورة وواقع وجود تلك العشوائيات. فقد سعت حكومة ما بعد الثورة العراقية في عام 1961 على سبيل المثال إلى منع العراقيين والأجانب على حد سواء من التقاط صور للصرائف. كما حظر النظام البعثي (دون جدوى) بناء أكواخ القصب في بغداد منذ عام 1965 للحد من المزيد من الهجرات إلى العاصمة{34}. وعلاوة على ذلك وكما سيتم مناقشته في المشهد الرابع، اقترح مسؤولو الحكومة العراقية الذين راجعوا الفيلم بعد الانتهاء منه إزالة لقطات عشوائيات الصرائف بالكامل. وكان من المستغرب قرارهم اللاحق بشراء تلك اللقطات غير المحررة "كسجل تاريخي" بدلاً من إكمال الفيلم، وهو ما قام عن غير قصد بحفظ سجلٍ سينمائي عن الصرائف. وعلى الرغم من تصنيفه الذاتي باعتباره جزءاً من ثقافة الفيلم الوثائقي الحديث حول التخطيط الحضري، إلا أن فيلم "برنامج الإسكان العراقي" كان محكوماً عليه بنسيانه منذ بدايته. ويوافق مصير حذف تنفيذه لمصير لقطات عشوائيات الصرائف في بغداد، والتي تم استئصالها بقوة من العصر الحديث، ونفيها إلى ذاكرةٍ مؤسسية لعراقٍ ما قبل الانهيار.
هوامش:
{1}: تأسس مجلس التنمية العراقي من قبل مجلس النواب في عام 1950 بموجب القانون رقم 23 وترأسه رئيس الوزراء. كان المجلس بحلول عام 1955 مسؤولاً عن توجيه الإنفاق لحوالي 70 في المائة من عائدات النفط العراقي. تألّف مجلس التنمية العراقي من عشرة أعضاء إضافة إلى ثلاثة آخرين يتم تعيينهم بحكم مناصبهم. كان الأعضاء في أغلبهم مسؤولين من القطاعين الحكومي والخاص، إلى جانب عدد من الخبراء (من المستشارين البريطانيين والأمريكيين في الأغلب) الذين أشرفوا على قيادة أربعة أقسام فنية غطت مجالات مثل الري والصناعة والنقل والتنمية الزراعية. لمزيد من المعلومات حول أنشطة مجلس التنمية العراقي، انظر فهيم قبين، "إعادة إعمار العراق: 1950-1957" (نيويورك: بريغر، 1958).
{2}: بانايوتا إ. بيلا، "العودة إلى المستقبل: خطط دوكسياديس لمدينة بغداد"، مجلة تاريخ التخطيط 7.3 (2008): 6-7.
{3}: سرعان ما قامت شركات النفط مثل شركة النفط العراقية باستخدام الأفلام الوثائقية كوسيلة لإعداد بغداد كموقع لحداثة النفط، حيث أنتجت شركة النفط العراقية أكثر من عشرين فيلماً ومجلة سينمائية ما بين عامي 1951 و1958. لمزيد من المعلومات انظر منى دملوجي، "تصوّر العراق: النفط والسينما والمدينة الحديثة"ّ، التاريخ الحضري 43.4 (2016): 642، 13 تموز 2019. تم استخراج المعلومات في 12 شباط 2019 عبر الرابط الإلكتروني.
{4}: إجلال مظفر، "المحيط الداخلي: العمارة الحديثة وصناعة العالم الثالث" (أطروحة دكتوراه، معهد ماساتشوستس للتقنية، 2007)، 26.
{5}: تم تخزين هذه البكرات البالغ عددها 21 بكرة فيما يبدو بأنه علب الفيلم المعدنية المستديرة الأصلية تصاحبها ملصقات روتينية باللغة اليونانية أو الإنجليزية. تم التصوير في الموقع في كل من بغداد وكركوك والموصل وسورشينار.
{6}: أنطونيو غرامشي، "دفاتر السجن: الجزء الثاني" (نيويورك: مطبعة جامعة كولومبيا، 2011)، 21.
{7}: بنجامين زكريا، "المسافرون في الأرشيفات، أو احتمالات التأريخ لما بعد الأرشيف"، ممارسات التاريخ: دورية حول نظرية وتأريخ واستخدامات الماضي 3 (2016): 27-11.
{8}: من الأمثلة الشائعة لهذا النوع من أفلام التخطيط الحضري ما يلي: "مبنى جديد في فرانكفورت أم ماين" لإرنست ميس (1928)؛ "مدينة الغد" لماكسيميليان ف.جولبيك (1930)؛ "يومٌ في بيت المجلس" لبييرو بوتوني (1933)؛ "تطوير مدينة باريس" لمارسيل بويت (1935)؛ "المدينة" لكاثرين باور ورستر ولويس مومفورد (1939)؛ "المدينة الأبيّة: خطة للندن" لباتريك أبيركرومبي وج. هـ. فورسو (1946)؛ "تشارلي في المدينة الجديدة" لوزارة تخطيط المدن والأرياف البريطانية (1948)؛ و"أعطي نفسك الضوء الأخضر" لجنرال موتور (1954)، ويظهر في الأخير كضيفٍ للفيلم مُخَطِّط الطريق السريع الأمريكي روبرت موزس.
{9}: أنانيا روي، "العفوية الحضرية: نحو نظرية معرفية للتخطيط"، مجلة التخطيط الأمريكي 71.5 (2005): 158-47؛ آصف بيات، "العولمة وسياسة المنظمات غير الرسمية في الجنوب العالمي"، كما ورد في "العفوية الحضرية: وجهات نظر عبر وطنية من الشرق الأوسط وأمريكا اللاتينية وجنوب آسيا"، المحرران: أنانيا روي ونزار الصياد (أكسفورد: ليكسينغتون للكتب، 2004)؛ برنارد رودوفسكي، "الهندسة المعمارية دون معماريين: مقدمة قصيرة للعمارة عبر الممارسة (نيويورك: دبلداي وشركاه المحدودة، 1964).
{10}: هايدن وايت، "ما بعد التاريخ: الخيال التاريخي في أوروبا القرن التاسع عشر (بالتيمور، ماريلاند: مطبعة جامعة جون هوبكنز، 1973)، 5.
{11}: مينا ماريفات، "إلقاء الضوء على ملعب لو كوربوزييه في بغداد"، دوكومومو 41 (2009): 30-40؛ بانايوتا إ. بيلا، "العودة إلى المستقبل: خطط دوكسيادس لمدينة بغداد"؛ لفتيريس ثيودوسيس، "الانتصار على الفوضى؟ كونستانتينوس أ. دوكسيادس وإكيستيكس: 1975-1945" (أطروحة دكتوراه، جامعة كاتالونيا للتقنية، 2015)؛ كنعان مكية، "كلاسيكيات ما بعد الإسلام: مقال مرئي حول عمارة محمد مكية" (لندن: دار الساقي، 2001)؛ ساميول آسينشتا ، "الإيمان بمستقبل أفضل: سفارة جوزيف لويس سرت الأمريكية في بغداد"، مجلة التعليم المعماري 50.3 (1997): 188-72؛ "ميساتوبروجكت إلى الخارج: نقل العمالة المعمارية من بولندا الاشتراكية إلى العراق (1958-1989)"، مجلة الهندسة المعمارية 22.4 (2017): 786-811؛ نيل ليفين، "عمرانية فرانك لويد رايت (برينستون، نيوجيرسي: مطبعة جامعة برينستون، 2016)؛ مينا ماريفات، "بغدادُ رايت"، كما ورد في "فرانك لويد رايت: أوروبا وما بعدها"، تحرير: أنتوني ألوفسين (بيركلي، كاليفورنيا: مطبعة جامعة كاليفورنيا، 1999)، 184-214.
{12}: كايسيليا بييري، "بغداد: بناء عاصمة حديثة (1914-1960)" (بيروت: مطابع المعهد الفرنسي للشرق الأدنى، 2015)؛ خالص هـ. الأشهب، "جغرافية بغداد الحضرية" (أطروحة دكتوراه، جامعة نيوكاسل أبون تاين، 1974).
{13}: كايسيليا بييري، "بغداد 1958-1921". تأملات في التاريخ باعتباره "استراتيجية من اليقظة"، في المؤتمر العالمي لدراسات الشرق الأوسط، تحرير: منى ديب (عمان: النشرة 2005)، 5.
{14}: يذكر ثيودوسيس على سبيل المثال في "الانتصار على الفوضى" الصرائف وساكنيها من حيث صلتهم ببرامج مكتب دوكسيادس الإسكانية في بغداد. كما يناقش بيلا التطور اللاحق لمدينة الثورة قائلاً: "أصبحت مجموعة الأحياء التي طوّرها مكتب دوكسياديس وشركاه في الجانب الشمالي الشرقي من المدينة نقطة انطلاق لمنطقة سكنية ضخمة توسّعت على امتداد شبكة مستقيمة وأصبحت تعرف فيما بعد باسم مدينة الثورة. بيلا، "العودة إلى المستقبل"، 17. أتقدّم بامتناني للبروفيسور نيل ليفين الذي شاركني تقرير مينوبريو وسبنسلي وماكفارلين حول الخطة الرئيسية للعراق، والذي ذكر أن "توفير منازل جديدة، وإزالة المناطق العشوائية، وتخفيف الازدحام'' كانت من العوامل الكبيرة في تلك الخطة الرئيسية غير المنشورة لمدينة بغداد في عام 1954: السير تشارلز أنتوني مينوبريو، هيو جريفيل كاسل سبنسلي، وبيتر ماكفارلين، "الخطة الرئيسية لمدينة بغداد: تقرير"، 3. أنانيا روي، "مدن المتشرّدين: إعادة النظر في التوابع العمرانية"، المجلة الدولية للبحوث الحضرية والإقليمية 35.2 (2011): 223.
{15}: حاولَت عدد من الدراسات التأسيسية الأخرى القيام بالمثل ومنها عمل جانيت أبو لغد حول عشوائيات المهاجرين من ذوي الدخل المنخفض في مدينة القاهرة، وعَمَل جيمس هولستون حول "المحيط غير القانوني" لبرازيليا، والذي يصنّفها بأنها "مدينة للتمرد" تناسب تاريخ بغداد. جانيت أبو لغد، "القاهرة: ألف عامٍ وعام من المدينة المنصورة" (برينستون، نيوجيرسي: مطبعة جامعة برينستون، 1971): 182-220؛ جيمس هولستون، "المدينة الحداثية: نقد أنثروبولوجي لبرازيليا" (شيكاغو: مطبعة جامعة شيكاغو، 1989).
{16}: الدملوجي، "تصّور العراق".
{17}: بكرة فيلم "العراق الخالد" الأولى (1959-1950)، شركة النفط العراقية، إخراج غراهام والاس، 1954، 9:50-9:15، تم استخراج المعلومات في 3 كانون الأول 2018 عبر الرابط.
{18}: بناء على الألواح الطينية القديمة التي وجدت في العراق، يربط علماء الآثار العرقيّون الصرائف المعاصرة بأكواخ القصب السومرية. لمزيد من المعلومات انظر إدوارد أوكسنشلاغر، "عرب الأهوار العراقيون في جنة عدن" (فيلادلفيا، بنسلفانيا: متحف جامعة بنسلفانيا للآثار والأنثروبولوجيا، 2004).
{19}: ماريون فاروق-سلوجليت وبيتر سلوجليت، "العراق منذ عام 1958: من الثورة إلى الديكتاتورية" (لندن: آي بي توريس، 2001)، 40.
{20}: حنا بطاطو، "الطبقات الاجتماعية القديمة والحركات الثورية في العراق: دراسة لطبقات العراق القديمة والتجارية والشيوعيين والبعثيين والضباط الأحرار" (برينستون، نيوجيرسي: مطبعة جامعة برينستون، 1978)، 49.
{21}: المرجع السابق، 134. انظر أيضاً مكي محمد عزيز، "الجوانب الجغرافية للهجرة الريفية من محافظة العمارة في العراق، 1955-1964" (أطروحة دكتوراه، جامعة دورهام، 1968).
{22}: المرجع السابق، 114.
{23}: اللورد سالتر، "تنمية العراق. خطة عمل" (بغداد: مجلس الإعمار، 1955)، 37، 132–34.
{24}: المرجع السابق، 117-18. انظر الصفحات 79-82 للتعليقات المباشرة حول برامج الإسكان.
{25}: هذا ما علّق عليه العضو البريطاني في مجلس التنمية مايكل إيونيدس وكما تم اقتباسه من لورين تيسديل في "التخطيط للمساعدة الفنية: العراق والأردن"، دورية الشرق الأوسط 15.4 (1961): 395.
{26}: لم يؤمن دوكسياديس بفعالية الخطط الخمسية دون أخذ طبيعة امتداد أجلها بعين الاعتبار، وقد ناقش ذلك في إصداراته اللاحقة وسلسلة محاضراته. انظر كونستانتينوس أ.دوكسياديس، "بين الديستوبيا واليوتوبيا" (هارتفورد: مطبعة كلية ترينيتي، 1966)، 53.
{27}: بيلا، "العودة إلى المستقبل"، 13.
{28}: مظفر، "المحيط من الداخل"، 264.
{29}: نفس المرجع السابق.
{30}: نانسي كواك، "عالمٌ من أصحاب المنازل: القوة الأمريكية وسياسات المعونات السكنية" (شيكاغو: مطبعة جامعة شيكاغو، 2015)، 2.
{31}: الثلاثين من تموز عام 1955، مراسلات بين دوكسياديس وج. ل. كرين (1954–1957)، ملفات الأرشيف/ رمز المرجع: 19255، أرشيف كونستانتينوس دوكسيادس.
{32}: مراسلات العراق، C-QB، مجلّد 79، 6.7.1957To Min of Dev، TS5 - (C-QB 2027) GHP 17 - تصوير معرض الإسكان / 23954، أرشيف كونستانتينوس دوكسياديس.
{33}: للاطّلاع على نبذة حول شركة "داج فيلم" للإنتاج، انظر فراسيداس كاراليس، "تاريخ السينما اليونانية" (نيويورك: مجموعة كونتنيووم الدولية للنشر، 2012، 43-1.
{34}: يصف فؤاد بعلي هذه القوانين في الهوامش 14 و16 في "العوامل الاجتماعية في الهجرة الريفية-الحضرية في العراق"، المجلة الأمريكية للاقتصاد وعلم الاجتماع 25.4 (1966): 363–64.