يبدو أن تسارع الزمن خلق تسارعا موازيا في الأنماط الفنية على مستوى الغناء وغيره من الفنون، وهذا ما يفسر وجود فنانين من أجيال مختلفة يقدمون أعمالا متباينة زمانيا وسياقيا، بلغة أخرى، يقدم المغنون الناشئون والشباب مقترحات غنائية جديدة تلقى رواجا، في وقت يواصل فيه فنانون مكرسون - كبار تجربةً وصورةً- تقديم ألوانهم الفنية التي نجحوا من خلالها، ويلقون الرواج ذاته تقريبا، إلا أن الجديد له لمعان دائما، لذلك يلجأ الكبار إلى الاعتماد على وسائل أخرى لترويج أعمالهم الجديدة، ليتمكنوا من إدارة المنافسة.
جورج وسوف: إصرار على البقاء
ومن أبرز الأمثلة على الفنانين الكبار الذين يواصلون نشاطهم، بإصرار على البقاء في المقدمة، سلطان الطرب جورج وسوف، فالمتتبع لمسيرته يلاحظ بسهولة عدم تنازله عن لونه الغنائي، برغم المتغيرات التي طرأت على شكل الأغنية منذ أن بدأ الغناء، إذ تتسم أغنيته منذ أن كانت بالاكتناز الموسيقي، والاعتماد على إيقاعات حية، وكمنجات حية، وأحيانا آلات موسيقية أخرى، إلى جانب الموسيقى المنتجة إلكترونيا، مما يمنح الأغنية صبغة عربية ورصانة كلاسيكية.
إلا أن جورج وسوف بدأ اتباع آلية جديدة للترويج لأعماله، وهي الاعتماد على نجوم الدراما السوريين في كليباته، إذ بدأ التعاون مع عابد فهد وميلاد يوسف بالإضافة إلى الممثلة اللبنانية تاتيانا مرعب، في أغنية "سكت الكلام" 2019، في الكليب الذي أخرجه أحمد المنجد، وتضمن مشاهد تمثيلية حوارية مع عابد فهد، واستمرت الآلية في الأغنية الجديدة "بيتكلم عليّا".
بيتكلم عليّا
الأغنية الجديدة من كلمات أمير طعيمة، وهو رقم صعب في كتابة الأغنية المصرية، إذ يثق جورج وسوف عادة في من تعامل معهم سابقا، أو في من حققوا نجاحات وراكموا منجزات كبيرة، وبدأت القصة بدعوة وسوف لطعيمة في منزله في بيروت، حيث يشارك الأخير في لجنة تحكيم ستار أكاديمي، وتتسم كلمات الأغنية بطابع مراجعة الذات ولومها، على التهاون في الحرص من الآخرين، وهي ثيمة اشتغل عليها سلطان الطرب مرارا واستُقبلت بنجاح دائما، مثل: دول مش حبايب، وسلف ودين، واسكت، وسيبهم، وغيرها كثير.
"بيتكلم عليا.. ويقول فيا وفيا.. وأنا عمري ما جبت سيرته غير بخير
يلي ما عمريش جرحته.. سايبه يغلط براحته.. مع إني أقدر أقول حاجات كتير
بيقول.. ما يقول.. ماهو كل يا قلبي ما نتألم.. بالوقت أنا وانت هنتعلم
علشان ما نكررش غلطنا
ما يقول.. ع الحب اللي زمان جمعنا.. على أشواقنا وعلى أوجاعنا
كان وهم قابلناه في سكتنا
ما يقول".
واضطلع بتلحين الأغنية النجم اللبناني زياد برجي، في تعاون هو الثاني بينهما، بعد أغنية "بيحسدوني" 2011، وإذ يضخ برجي دماء جديدة في أغاني وسوف، يحافظ في الوقت ذاته على قالب سلطان الطرب، من حيث التطريب ومنح أدوار بطولية للفواصل الموسيقية، تتيح للموزع اللعب بأريحية على تصميم أطقم موسيقية وافية وفخمة، كما فعل موزع العمل الجديد زاهر ديب.
زياد برجي وروح التشابه
يمكن اكتشاف التشابه بين "بيحسدوني" و"بيتكلم علي" بسهولة، فاللحنان على مقام الصبا، وفيهما اعتماد كبير على الإيقاع الصعيدي، لكن ذلك لا يمكن أن يعد عيبا، فمن الطبيعي أن تشترك ألحان الملحن الواحد بروح واحدة، كما أن الفواصل الموسيقية في "بيتكلم عليا" تبدو أكثر نضجا منها في "بيحسدوني"، ويشترك في هذا الفضل كل من برجي وديب، والمنتج الموسيقي رودلف جابر، ثمة تشابه آخر أيضا بين لحن مقطع "هيبيع اسمه وغرامه" ولحن قديم لوسوف في أغنية "كلام الناس" في مقطع "وليه يا حبيبتي نسمعهم" وهذه مسألة ممكنة الحدوث في سياق الاقتراب من لون المغني، والحق أن برجي تمكن من إعطاء سلطان الطرب أغنية معاصرة دون التنازل عن لونه، وهذه نقطة تضاف إلى رصيدهما معا.
اجترار الماضي بصورة مقنعة
في الأغنية الجديدة ثمة اقتباسان متوائمان مع ثيمة الأغنية موضوعا ولحنا، الأول تمثل بمقطع "العشرة غالية لو في ناس يؤتمنوا" وهو مقطع من أغنية وردة الجزائرية "ولاد الحلال" من كلمات سيد مرسي وألحان بليغ حمدي، والثاني "أي دمعة حزن لا" من أغنية عبد الحليم حافظ، من كلمات محمد حمزة ولحن بليغ حمدي أيضا، وقد اجتمعت الجملتان على لحن واحد تماما، وهو ما يمكن اعتباره عقدة موازية، للعقدة الأساسية لسيناريو تشابه لحني "بيحسدوني" و"بيتكلم عليا"، مما يؤكد طبيعة تشابه لحنين لملحن واحد، فهل من دليل على ذلك أبلغ من ألحان بليغ حمدي!
فيديو كليب أم فيلم؟
يقدم الكليب اقتراحا جماليا متفوقا، فهو فيلم قصير يوكل أداءه المخرجُ إيلي السمعان، لكل من عبد المنعم عمايري وعابد فهد وزينة مكي، ويبدأ بحوار بين عمايري ومكي عن طريق مغازلته إياها، ولفتها انتباهه إلى أنها مرتبطة بصديقه الذي يمثل دوره عابد فهد، لكن عمايري يهمس في أذنها بصوت غير مسموع، فتقبل عرضه.
هنا تبدأ حفلة لجورج وسوف، وسط هتاف الجماهير في مسرح فخم: "أبو وديع، أبو وديع"، فيدخل إلى المسرح عابد فهد، ولا يتجاهل "أبو وديع" دخوله، إذ يطير له قبلة، في الأثناء يلتفت فهد إلى مكي وعمايري، وتبدأ ملامحه بالتغير، في أداء مواز لموضوع الأغنية.
إلى جانب السيناريو الجميل والأداء المحكم، يمتاز الكليب بانتباهه للتلوين الجميل، والقطعات الصورية المتناغمة، وقدرة الشوتّات على إخفاء عرج "أبو وديع" الذي تسببت فيه جلطة تعرض لها في السنوات الأخيرة، برغم وقوفه على المسرح طوال الأغنية.
صوت صامد ومحبوب
منذ أن أجرى سلطان الطرب عملية جراحية تسببت في خشونة صوته قبل عقود، ظل هذا الصوت محل جدل، من الناس من استهجنه ومنهم جورج وسوف نفسه، ومنهم من استحسنه واتخذه مثالا ومدرسة وراح يقلده، مثل الفنان الراحل جورج الراسي، والفنان وديع مراد، إلا أن الجوهر يكمن في الأداء وليس في خامة الصوت، فأداء سلطان الطرب ينسيك خامته، هذا التحكم في الأغنية الذي يمنحه قدرة قيادتها كسائق محترف، يأخذك نحو مشاعرك ويدلك على أماكن حلوة في مزاجك الموسيقي، مُنْسِيًا إياك الجدل حول الخامة، وهذه ضارة نافعة بالنسبة إلى جورج وسوف، فمهما هرم صوته أو تغير بمرور السنين، يبقى التركيز منصبا على أدائه الممتع، وهذا ما جرى في "بيتكلم عليا".