صار الشعر العظيم أشبه باللقى الأثرية، أو بالكنوز المدفونة التي تحتاج للاكتشاف، أي الشعر الذي يمتلك قيمة متجددة على مر الأزمنة وهناك قصص كثيرة تُروى عن شعراء لم يحظوا بالمجد في عصرهم نالوا المجد وهم موتى. وكان الشعر في الزمن القديم صوتاً شفوياً ينام في الذاكرة وتوقظه الألسن ويُدندن به أو يُلقى في المجالس. وكان يجب أن تكون صاحب حظوة ومن مجالسي الأمراء والحكام كي تستمع لشاعر كالمتنبي مثلاً. لكن العلاقة بين المتلقي والشعر اختلفت الآن في ظل التطور التكنولوجي المذهل والآفاق التي لا تكف عن التوسع للإعلام الاجتماعي. صار الشاعر يأتيك إلى بيتك عبر شاشة جوالك أو حاسوبك، وتحولت مواقع فيس بوك وإنستغرام وتويتر وغيرها إلى منابر شخصية بافتتاحيات وقصائد وحكم وأقوال ومداخلات وثرثرات ونكات وصور عارية وكل أشكال الاستهلاك المرتبطة بالتلقي. وصارت شهرة الشاعر تُقاس لا بقيمة نتاجه بل بعدد قرائه ومتابعيه أو بعدد اللايكات التي يحصل عليها. وفي خضم هذا النهر الإعلامي المتدفق صارت الشهرة آنية، يومية، والقصيدة التي تقرأ اليوم تُنسى غداً، أو ربما تُمحى، ولم تعد القراءة تقتضي جهداً وعزلة وبذل مال. صارت كبسة زر وإلقاء نظرة. وبدأت الدواوين تتحول إلى رقمية ونسخ بدي إف وصار توزيعها أكثر سهولة ولكن رغم هذه التطورات ما يزال جمهور الشعر ينحسر على نحو متواصل.
معظم دور النشر التي ما تزال تصدر الدواوين لا تقدم أرقاماً توضح حجم مبيعاتها سواء تلك التي تنشرها هي أو التي تُطبع على نفقة كتابها، إذ تغيب الشفافية لأن الأمر مرتبط بالمبيعات ولن يستطيع شاعر أو روائي أو قاص أو مسرحي عربي أن يرسل وكيله القانوني مع لجنة إلى مستودعات دار نشر ما كي يقوم بجرد قانوني للنسخ الموجودة ولحساب النسخ المباعة، إذا حدث خلاف كما يحدث في الغرب. لن يتجرأ معظم الناشرين العرب على فعل هذا وأخص منهم الذين لا تربطهم علاقة مع الكاتب أو المترجم أو الشاعر قائمة على الشفافية. وربما لا يوجد حتى من يكترث بإحصاءات كهذه.
إن قارئ الشعر الحقيقي، المتذوق بالمعنى الفنى، الذي يعرف طعم ورائحة ونسيج القصائد الشعرية، قارئ لا يكتفي بشعر يثير ذكرياته، أو يصف له العالم بطريقة مألوفة، أو يتحدث عن مشاكله الحياتية أو يصف حياته اليومية في ومضات تضيء تفاصيل مكررة، ويهمه وسط كل ما يُكتب، في خضم هذا المد اللغوي، الاختراقات الشعرية الإبداعية التي تثير أسئلة أعمق وتؤكد على البعد الفني وعلى أن اللغة الشعرية هي غير اللغة المألوفة وأنها تتجاوز النثر العادي، وتشحنها روح قادرة على تجديد شعلة الإيحاءات الحية.
كم عدد الذين يقرؤون الشعراء الجدد أو القدامى أو يعيدون قراءتهم؟ هل هناك الآن جمهور يقرأ المعري والمتنبي وأبا العلاء المعري وأبا تمام وغيرهم من شعراء العربية خارج الاهتمامات الأكاديمية والبحثية والتأصيل الشعري الذاتي؟ هل هناك فعل قراءة يعيد التفكير بقدرة شعرهم على الاستمرار؟
تأخذ القصيدة الآن شكل المنتج، شكل السلعة، تُستهلك مرة واحدة وتُرمى، هذا هو الشكل السائد للعملية، كما تُقرأ رواية مرة واحدة وتُشاهد مسرحية مرة واحدة ويُشاهد فيلم أو مسلسل مرة واحدة، لا وقت للعودة، رغم أن هناك نتاجات إبداعية فنية تقتضي العودة إليها أكثر من مرة وتتحمل أكثر من قراءة.
هذا التراجع في القراءة صار أكثر وضوحاً مع تنامي وسائط النشر الحديثة، وتهاوي سلطة إكليروس المجلات الأدبية، أو الموظفين الأدبيين الذين تعينهم الدوائر الثقافية كمشرفين على المجلات والذين في غالب الأحيان لا يلعبون دور المحرر المطلع والخبير بل ينشرون ما هب ودب كما لو أن المجلات الثقافية امتداد لفيس بوك. كما أن الجماهير لم يعد يشغلها الشعر، صارت جماهير ملاعب ومطربات ومغنين وراقصات أكثر مما هي جماهير شعر، رغم أن الشعر لا يحتاج إلى جماهيرية. لا يحتاج الشاعر إلى أن يكون مارادونا أو بيليه أو رونالدو. كل ما يحتاج إليه هو أن يكون مخلصاً للشعر، وكل ما يأتي بعد ذلك تفاصيل.
ربما يتحمل النقد الأدبي السائد جزءاً من المسؤولية، فقد صار هذا المصطلح أكبر مولّد للضباب في الثقافة العربية، ذلك أنه يمارس آلية سلطوية بحتة في والدمج والإقصاء وتسليط الضوء والتعتيم والتنصيب والفصل، بحيث تتدخل الخلفيات والانتماءات والعلاقات في تنصيب شعراء وإبعاد آخرين، ويتولد جو ثقافي تسود فيه السياسة والعلاقات العامة والمنافع المتبادلة والبعد الأيديولوجي ويغيب جوهر النص. هناك كثير من المداخلات النقدية التي يُقدم فيها النقاد كلاماً عادياً على أنه شعر عظيم. هناك أيضاً طبيعة النصوص الأدبية التي يروج لها النقد الوظيفي الجامعي، بمعنى أن النقاد يختارون النصوص المدروسة لا لأنها تشكل نقلة إبداعية خارجة عن المألوف الأدبي بل ربما لسهولة تناولها ولانسجامها مع المعايير الأكاديمية والنقدية السائدة، أو كون كاتبها ينتمي إلى تيار أيديولوجي معين، وبالتالي ما يمدحه النقد الجامعي في كثير من الأحيان قد لا يرقى إلى مصاف الإبداع وهناك أطروحات دكتوراه تطبق منهجيات نقدية غربية على نصوص باهتة. لهذا يقول لنا تاريخ الأدب المهمش القديم والحديث الكثير عن شعر لا يحظى بفرصة في عصره لأن مسار الاستهلاك الأدبي والنقد الأدبي والتغطية الصحفية، موجه في اتجاهات معينة.
في مسح تم حول واقع قراءة الشعر في أمريكا في ١٩٩٧ نُشرت تفاصيله في صحيفة الواشنطن بوست اكتُشف أن ١٧٪ من الأمريكيين قرأوا ديواناً على الأقل مرة في الأعوام الماضية. بعد عشرين سنة انحدر هذا الرقم إلى ٦،٧. جاءت هذه الأرقام من ما يدعى ب ”المسح القومي للمشاركة العامة في الفنون“، والذي اكتشف أن الانحدار في قراءة الشعر حالة فريدة بين الفنون الأخرى وخاصة الأدبية، ومنذ عام ٢٠٠٢ تقلص نصيب قراء الشعر بنسبة ٤٥٪.
لا شك أن مسحاً دقيقاً لواقع قراءة الشعر في العالم العربي سيصل إلى نتائج مزرية أكثر، ولذلك من الأفضل عدم إطلاق أحكام نهائية حتى يتسنى لنا الاطلاع على مسوحات دقيقة تكشف الغطاء عن حال الشعر، عربياً.
لا ريب أن تنمية قراءة الشعر تحتاج إلى جهد تربوي، فنحن لا نحب الشعر ونندفع إلى قراءته دون دليل يقودنا في البداية، أو مؤثرات من محيطنا، وهذه المؤثرات هي نتاج احتكاكنا مع قراء أفراد داخل العائلة أو خارجها في محيطنا الاجتماعي، غير أن هذا لا يكفي ومن أجل توسيع دائرة القراء في المجتمع يجب أن تلعب المدرسة دوراً حقيقياً لجذب الأجيال الجديدة إلى الشعر على غرار ما يحدث في المدارس الأمريكية والأوربية، ففي الولايات المتحدة مثلاً حين يدعى شاعر أجنبي إلى مهرجان أو مشغل أدبي، يكون ضمن برنامجه زيارة بعض المدارس واللقاء مع الطلاب، أضفْ إلى ذلك أن مدرسي اللغة أو الأدب المكتوب باللغة الإنجليزية في المدارس الأمريكية يختارون قصائد ويزكون كتباً ويخرطون الطلاب في قراءة الشعر ومناقشته، ويديرون منافسات بين الطلاب لتأليف الشعر أو إلقائه على المنبر.أما في بلداننا العربية فلا أظن أن هذه المسألة شغلت المسؤولين عن التعليم ولا يحدث أن يُدعى شاعر إلى مدرسة إعدادية أو ثانوية ونادراً ما يدعى إلى جامعة، كأستاذ محاضر مثلاً يتحدث على الأقل عن تجربته أمام الطلاب. إن أنشطة كهذه كفيلة بأن تجعل الشعر يكسب قراء بالتدريج وتضمهم إلى جمهور يمكن أن يتسع مع مرور الأيام.
زدْ على ذلك أن المدارس والجامعات لا تطور مناهجها بشكل دائم، ولا تدرج فيها أهم ما أنجزه الشعراء العرب على صعيد الإبداع الشعري كي تفتح وعي الجماهير الشابة على أهمية الشعر ودوره التعبيري بين الفنون وتساهم في صناعة جمهور يشتري الكتاب ويتابع النصوص الشعرية ومن ثم يغربلها بطريقته، وبحسب رؤيته النقدية وثقافته ونظرته إلى فن الشعر.
إن دور المدرسة والجامعة محوري وما يسهم في تردي القراءة هو مناهج تقصي الإبداعات الشعرية العربية المختلفة، ولا تدرّس عن الأدب العربي إلا ما قاله نقاد تقليديون لا يهمهم تثوير ذائقة الطالب العربي ولا تغييرها كون الجامعات العربية (باستثناءات فردية تعد على الأصابع) تقتضي فكراً متماشياً مع السلطة والتقاليد للحفاظ على الوظيفة.