يدٌ تطرق على الباب، تندس في مقعدك كما لو أنه نهر رملي. يزداد الطرق، تزداد غرقًا، واثقًا أنَّك لا تنتظر أحدًا. الأبواب وُجِدَت لتُغلق، فمن أنت لتفتح بابك؟
في جيب سترتك ما يكفي من التبغ، تطفئ سجائرك في جسد أيامك. التي دون أن يتخثر دم جرحها تصرخ بصمت. كنت تحسب أن الحزن حكي تحكيه، هل أفزعتك الحقيقة التي استقبلتها كسكين دافئ يحفر دمك بحثًا عن دمٍ؟ أردت المغامرة، ولم يكُ ثمة مكان تذهب. أردت الحياة، ولم يكُ ثمة قلب في صدرك. أردت الحب، وبصقت أرقك قبل الخروج صباحًا إلى عالمٍ قتلك لتهنئته على قتلك.
عيناك فتحتان تمرُّ خلالهما أحداث مألوفة، كأنَّك عشت حياتك قبل ولادتك، لا شيء يحدث الدهشة فيك. ولا تنتظر أحدًا.
يداك لا تصلحان سوى للأعمال الخشنة، عليهما خدوش وجروح. صدرك بستان دخان، ومقبرة للنبضات. رأسك ريح تعصف وتخيف نفسها، تنهار جبال من الرغبة عليك. وقلبك غرفة تهدمت على نفسها يرزخ تحت الخراب طفلٌ قتلته بنفسك، وما هذا الطفل سوى أنت.
العالم جبل يصعده الناس أزواجًا وجموعًا، ويسحبون أيدي بعضهم. ستتسلقه وحدك. وحين تبلغ قمّته، لن تنتظر أحدًا. ستصعد وتصعد، لا خيار لك سوى المضي، لأنّك ببقائك تؤكد أنتظارك. نساء يطرقن، رجال يطرقون بابك، أهلك لا يعرفونك، ولا أصدقاء لك. حياتك هي ملكك، لأنَّك، لا تنتظر أحدًا.
لا تسمع الموسيقى، عشرات الأشباح تنادي في رأسك، أنت قبرك، كتبتَ على شاهدته تاريخ ما سيجيء. نهارات تتأبط أحداثها وتُرمى في مكب النفايات، دمك القاني يسري في جسد الليل حاملًا الطمأنينة. تعلِّق أجساد الكلام المتعفنة على دهشة الآخرين، ولا تقول إلّا ما لا يُقال. تشمئز من الصحبة. هذه الحياة حديقة تقتعد فيها مقعدًا وحدك، ولإن كان المقعد يتَّسع لآخرين، تجلس وحدك، أنت عائلتك ومجتمعك، وإيمانك وحدتك. لا وقت للحزن والشكوى، لا وقت للضعف، لا تكون ضعيفًا لعدم وجود أحد تلجأ إليه في ضعفك، أنت إله تخلّى عن ألوهيته لوجود العبيد، وعبد تخلّى عن إلهه لإلوهيته.
تلقي بسيل نظراتك نحو أوراقٍ مجعَّدة، كلمات حمراء، طبعتها على آلة كاتبة تعود للسبعينات، دم اللغة الذي قطَّرته على جسدِ الشجرة لا يبثُّ فيها الروح، لا يبثُّ فيكَ الحياة.
تقرأ:
بستان الخيم
رذاذ مطرٍ من ثلاجة الموتى، يُحرِقُ بستان الخيم، فتسقط ثمار سكنت فيها ذات يوم نوى الطفولة، رذاذ مطر من سماء الموتى يشعل جحيمًا عكف خامدًا في الجبال ويطلقه كسهامٍ على جسد المخيم، حديقة البيوت الغائبة.
أطفال النزوح لاذوا بحياةٍ تختبئ تحت أغطية المنظمات الإنسانية. وأسدلوا ستائر العيون على أحلامٍ من بخار. يروي أهاليهم على مسامعهم قصصًا عن المدن، عن الشوارع والعمارات، يسيرون متكئين على عكازات في أحلامهم، الأحلام مبتورة الأقدام في ماراثون التشرد..
امرأة تقطن في صدرك. عصفورٌ تخلّى عن جناحيه والسماء. مسجونٌ في قفصك الصدري، تهمس كالملاك في قلبك: لا توهب عشنا للنار، النار لا تعرف العصافير ولا الأشجار. سِر معي حَتّى البيت، حيث سرير من الحب. سِر معي حتّى البيت، حيث البيت. سِر معي، لا طوفان دون نوح، ولا سفينة دون نوح، لا تدّعي القوة كيلا نلقى الصعاب. تجرّد من ألمك، لينساب منك كدمع مخنوق، أو دم مهدور. وسر معي، حتّى البيت.
في رأسك سجونٌ للكلمات. مدن للصور، وفي رأسك مرايا ترهبك صورتك فيها. أنت كائن من الإبر المغروزة في كبدك، وأهلك سرابٌ يسافر للغيم فلا ريح تمطر غيمهم. أهلك جوعٌ تحسُّ به يكبر حتّى يلتهمك بشهيّة، أهلك مخيمٌ تنزف السماء دمها عليه..