منذ ما يقرب من القرن من الزمن صدر كتاب بعنوان "الإسلام وأصول الحكم" للباحث المصري علي عبد الرازق، والذي شكل صدمة للفكر المحافظ في ذلك الوقت، لا فقط بسبب موضوع الكتاب الذي يتناول إحدى أهم القضايا الشائكة في تاريخ التجربة الإسلامية، بل أيضاً بسبب كون الباحث أتى من واحدة من أهم المؤسسات الدينية في ذلك الوقت، جامع الأزهر، والذي كان أحد أهم مراكز تخريج علماء الدين الإسلامي في حينه.
استفز الكتاب المؤسسة الدينية الرسمية بمجملها، فطرد الباحث من جامعة الأزهر، وجرد من مناصبه العلمية التي كان يشغلها، وعندما لم يكفِ ذلك، تصدى عدد من المفكرين الإسلاميين لما اعتقدوه دفاعاً عن الدين. فكُفر الباحث واتُهم بالشيوعية تارةً وبالعلمانية تارة أخرى، أيضاً لم يكن كلّ هذا كافياً، فاتهم الباحث بأن كتابه منحول، وأن الكاتب الحقيقي هو باحث يهودي بريطاني يكنّ عداءً شديداً للإسلام والمسلمين.
وعلى الرغم من أن عبد الرازق كان في كتابه قد ساق العشرات من الحجج المستمدة من مصادر الشرع الإسلامي، إلا أن خصومه لم يتمكنوا من مقارعة الحجة بالحجة، وعجزوا عن الإتيان بالبرهان حول ادعاءاتهم، وعوضاً عن محورة النقاش في حقله المعرفي، وتوسيع دائرة النقاش في واحدة من أهم القضايا التي تهم المنطقة بالكامل، أي علم السياسة، ما حدث أن خصوم عبد الرازق اختاروا الطريق الأسهل، أي تشويه السيرة الذاتية للرجل وإلصاق التهم فيه والعاجزة عن الصمود أمام النقد.
لم تنتصر المؤسسة الدينية الرسمية على عبد الرازق، بل انتصرت على تيار فكري سعى مبكراً إلى فتح ثغرة في التاريخ وتقديم قراءة مختلفة عما كان سائداً، قراءة تنويرية أُجهضت مبكراً ولم يكتب لها الاستمرار.
يحاجج عبد الرازق عبر كتابه حول مسألة محورية، ألا وهي عدم وجود نص واضح وصريح حول الدولة ونظام الحكم السياسي، لا في القرآن ولا في السنّة. وأن الدولة الإسلامية ومنذ نشأتها كانت دولة سياسية، بينما مفاهيم الدولة، السلطة، الإمام، الخليفة، الخلافة فجميعها ملتبس ولا يوجد نص صريح حولها في المرجعيتين السابقتين، وهو ما يدعو إلى الاجتهاد والعمل على تأسيس علم سياسة هو غائب إلى حدّ كبير في تاريخ الفكر العربي والإسلامي.
تنصبّ محاولة عبد الرازق في هذا السياق، على وضع مفهوم الدولة وما يرتبط بها من مفاهيم أخرى في حقله المعرفي الحقيقي، أي حقل السياسة والاجتماع، في الوقت الذي وضع فيه الفكر الإسلامي التقليدي الدولة في حقل الدين، وتحول نقاش أساليب الحكم من قضية سياسية يصح نقدها وتطويرها إلى قضية فقهية يصبح المساس فيها مساساً بالمقدس. فنمت عبر التاريخ سلطة سياسية محاطة بالغموض والقدسية، وبات المساس بالسلطان إن كان خليفةً أو إماماً أو ملكاً مساساً بالمقدس، فالسلطان تحول وفق هذا الفكر إلى ظل الله على الأرض!
يراجع عبد الرازق كتاب القرآن "من الفاتحة وحتى أيها الناس" ولا يعثر فيها سوى على إشارات بسيطة حول مسألة الحكم وما يتعلق بها، وهي جميعها لا تصلح لبناء أسس معرفية ومنهجية بأساليب الحكم وكيفية ضبطه، يقول في كتابه: (ليس القرآن وحده هو الذي أهمل تلك الخلافة ولم يتصد لها، بل السنة كالقرآن أيضاً، قد تركتها ولم تتعرض لها. ص 16).
ينادي الفكر الإسلامي السائد وتحديداً بنسخته السلفية بإقامة دولة إسلامية، والتيارات الأكثر تطرفاً تنادي بدولة الخلافة، إلا أن التاريخ ومنذ اعتلى الأمويين عرش السلطة يشير إلى أن الحضارة الإسلامية لم تشهد وجود دولة إسلامية بالمعنى الديني للكلمة، وأن هذه الدولة كانت دائماً دولة سياسية أي أنها تنتمي إلى حقل الاجتماع الإنساني وما يصدر عنه من سياسة؛ ألم يقل عبد الملك بن مروان عندما اعتلى العرش ونظر إلى القرآن: "هذا آخر عهدنا بك هذا فراق بيني وبينك"؟
يرفض الفكر الإسلامي التقليدي كل أشكال الحكم السائدة قديمها وحديثها وفي مقدمتها الديمقراطية، ويزعم بوجود حكم إسلامي مكتف بذاته ويستمد شرعيته من الإسلام نفسه، ويعتقد أن (الأصل في الخلافة أن تكون راجعة إلى اختيار أهل العقد والحل (...) إذ الامامة عقد يحصل بالمبايعة من أهل الحل والعقد لمن اختاروه إماماً للأمة، بعد التشاور بينهم. ص25). بيد أن التاريخ –مرة أخرى- يقول غير ذلك، "فإذا ما رجعنا إلى الواقع وجدنا أن الخلافة في الإسلام لم ترتكز إلا على أساس القوّة الرهيبة" (ص 25). فما المُلك إلا التغلب والحكم بالقهر على حدّ تعبير ابن خلدون.
يدفع عبد الرازق التحليل خطوة جريئة إلى الأمام، ويتساءل هل كان النبي محمد ملكاً أم نبياً؟ أم أنه كان كلا الأمرين معاً؟ (ص48). على صعيد "الديني"، يورد الباحث العديد من الآيات القرآنية التي تثبت "ألّا إكراه في الدين"، (فتلك مبادئ صريحة في رسالة النبي (ص) كرسالة أخوانه من قبل، إنما تعتمد على الإقناع والوعظ وما كان لها أن تعتمد على القوّة والبطش) (ص53). ولكن كيف لنا والحال كذلك أن نفهم الجهاد؟ وما السياق الذي نشأت فيه حروب النبي محمد لا في الجزيرة العربية وحدها وإنما أيضاً خارج حدود بلاد العرب؟
نحن هنا أمام أحد أمرين، فإما أننا إزاء تناقض بين ما دعا إليه القرآن من جهة، وبين الممارسة السياسية التي قدمها النبي محمد من جهة ثانية، أو أننا أمام نبي وملك اجتمعا في شخص النبي محمد، فكان رسولاً لكتاب الله من جهة، وملكاً على المسلمين من جهة ثانية. يجيب عبد الرازق بالقول: (تلك مبادئ صريحة في أن رسالة النبي محمد كرسالة إخوانه من قبل، إنما تعتمد على الإقناع والوعظ (...) وإذا كان قد لجأ إلى القوّة والرهبة، فذلك لا يكون في سبيل الدعوة إلى الدين، وإبلاغ رسالته إلى العالمين، وما يكون لنا أن نفهم إلا أنه كان في سبيل المُلك، ولتكوين الحكومة الإسلامية، ولا تقوم حكومة إلا على السيف، وبحكم القهر والغلبة، فذلك عندهم سرّ الجهاد النبوي ومعناه) ص 53.
ثمّة عدم اتساق في السردية التي يقدمها الفكر الإسلامي السائد، وثمة تناقضات محايثة للتاريخ الذي يروى، فإذا كان النبي محمد كان قد جمع بين النبوّة والمُلك، أي جمع بين الديني والسياسي –وهو أمر مفهوم في ظروف الزمان- وإذا كان الديني واضحاً لنا في مصدره أي القرآن، فإن السياسي بقي خاضعاً للاجتهاد، هذا لأنه بالضبط شأن دنيوي ولا شروط تحدده في القرآن (فالمملكة النبوية عمل منفصل عن دعوة الإسلام، ص 81)، وهو ما يقودنا إلى التعامل مع السياسي بصفته شأناً مرتبطاً بإنتاج البشر لحياتهم المادية وإنتاج تاريخهم فيما هم ينتجون حياتهم، أي التأسيس لعلم سياسة هو غائب في تاريخ الفكر الإسلامي، كما يشير إلى ذلك عبد الرازق.
أما إذا ألغينا الحدّ الفاصل بين النبوة والمُلك، بين الديني والسياسي، وجعلناهما في الموقع ذاته، فالنتيجة الموضوعية ستكون إرساء القدسية على كلا الطرفين، أي الديني والدنيوي، وهو ما يقود إلى رفع (الخليفة، الإمام، دولة الخلافة... إلخ) إلى مصاف المقدس، بحيث يستمد الدنيوي قدسية مصطنعة من الديني، وينغلق بذلك على النقد، ويصبح كل مساس بالدنيوي مساساً بالمقدس، فيصبح الخليفة ظل الله على الأرض ويصبح المعارضون من الخارجين عن الملّة والمرتدين.
يقترح عبد الرازق قراءة أخرى للتاريخ، فماذا لو أن النبي محمد كان فقط نبياً لا ملكاً؟ وأنه (ما كان إلا رسولاً كإخوانه الخالين من الرسل، وما كان ملكاً ولا مؤسس دولة، ولا داعياً إلى ملك)، ص 65. يترتب على هذه القراءة نتيجة في غاية الأهمية، تكمن في الفصل الجذري بين الديني والسياسي، فوفق هذه القراءة يكون النبي محمد قد أوصل رسالته الدينية عبر القرآن، بينما بقيت شؤون الدنيا أمراً يتعلق بخيارات المسلمين وما يرونه ملائماً. فالإسلام يبقى رسالة سماوية حقلها الديني، بينما شؤون الملك والخلافة وما يترتب عليها تبقى من شؤون البشر أي التجربة الإنسانية.
تفتح هذه القراءة باب الاجتهاد وإعمال العقل في شؤون الدنيا، وتؤسس لحوار مبني على المعرفة، أي أنها تفتح باب التاريخ ما إن تسقط عنه قدسيته، وتغلق في الآن ذاته الباب على الخرافة والأساطير، وتمنع استثمار الديني لخدمة السياسي، وتؤسس مفهوماً عن الدولة يجعلها نتاج الصراعات الاجتماعية وتغير القوى الفاعلة في كل مرحلة من مراحل التاريخ.
يخلص الباحث إلى نتيجة مفادها أنّ (الخلافة ليست في شيء من الخطط الدينية، كلا ولا القضاء ولا غيرهما من وظائف الحكم ومراكز الدولة، وإنما تلك كلها خطط سياسية صرفة، لا شأن للدين بها، فهو لم يعرفها ولم ينكرها، ولا أمر بها ولا أنهى عنها، وإنما تركها لنا، لنرجع فيها إلى أحكام العقل، وتجارب الأمم، وقواعد السياسة. ص 103).
إن ما يعطي هذا النقاش أهميته رغم أنه قد يبدو أقرب إلى التاريخ منه إلى السياسة هو راهنية موضوعه، هذه الراهنية التي فرضها الصراع الدائر في المنطقة العربية منذ ثورة تونس وحتى الحرب في سوريا، وبروز تيارات الإسلام السياسي تحديداً في نسختها الجهادية التي تسيدت المشهد العام للصراع، وباتت جزءاً أساسياً فيه، وبات خطابها الأيديولوجي هو الخطاب السائد، فتمكنت خلال سنوات الصراع السابقة من استبدال مفهوم الدولة المدنية التي نادت به الثورات في عامها الأول بمفهوم الدولة الإسلامية أو دولة الخلافة بحسب أدبيات تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام، أحد أبرز هذه التنظيمات الجهادية السائدة، واستبدلت القانون بمفهومه الوضعي "بالحكم إلا لله" المستمد من القرآن، وأحلّت في مناطق سيطرتها محاكم شرعية عوضاً عن القضاء المدني، وفي كل هذا حاولت أن تؤسس لمشروع يستمد شرعيته من الديني في الوقت الذي تندرج فيه كل ممارستها في إطار السياسي، أي في إطار الصراع الدائر المحكوم بالمصالح الدنيوية لا الدينية، إلا أن تغليف هذا الصراع بغطائه الديني شكل أداة مهمة للاستحواذ على المشروعية وفرض الهيمنة وإحباط قوى الثورة الديمقراطية.