[روائي ومسرحي وشاعر أيرلندي ١٧٢٨- ١٧٧٤].
بما أنني من صنف البشر المحبّين للتجوال، الذين يمضون القسط الأكبر من وقتهم في الحانات والمقاهي ومنتجعات عامة أخرى، فقد سنحتْ لي الفرصة لرصد ضروب من الشخصيات لا يُحصى لها عدد، وقدّم هذا لإنسان مثلي، يميل إلى التأمل، تسلية أكثر إمتاعاً من منظر كل الأشياء المثيرة للفضول في الفن والطبيعة. وفي إحدى نزهاتي الأخيرة، جمعتني مصادفة بستة سادةٍ كانوا منخرطين في جدل حام حول شأن سياسي وجدوا أنهم يجب أن يحتكموا إليّ في حسمه، بما أنهم كانوا منقسمين في آرائهم حوله بصورة متساوية، ما جذبني إلى المشاركة في جزء من المحادثة على نحو طبيعي.
وبعد أن ناقشنا مواضيع شتى استغلينا الفرصة كي نتحدث عن الخصائص المختلفة لعدة أمم أوربية، وحينها صرّح أحد السادة، وهو يزيح قبعته، ويضفي على نفسه جواً من الأهمية كما لو أنه يمتلك في شخصه كل مزايا الأمة الإنكليزية، أن الهولنديين مجموعة من الأخساء الجشعين، وأن الفرنسيين مجموعة من المتملقين المداهنين، وأن الألمان سكارى مدمنون، وشرهون كالبهائم، وأن الأسبان متبجحون ومترفعون ومستبدون قساة، أما الإنكليز فيبزّون في الشجاعة والكرم والرأفة، وفي جميع الفضائل الأخرى، العالم برمته.
استقبل جميع الحاضرين هذه الآراء المتكلفة والمتحيزة بابتسامة استحسان عامة، باستثناء خادمكم المتواضع، الذي حاول أن يحافظ على وقاره قدر استطاعته سانداً رأسه على ذراعه. واصلتُ الجلوس لمدة في وضعية من التفكير المصطنع كما لو أنني كنت أشغل ذهني بأمر آخر، متظاهراً بأنني لم أكن منتبهاً إلى موضوع المحادثة، آملاً بهذه الوسيلة أن أتجنب الضرورة غير المستساغة للتعبير عن رأيي وبالتالي حرمان السيد من سعادته الخيالية.
لكن الوطني المزيف لم يرد أن يجعلني أهرب بسهولة: ذلك أنه لم يقبل أن يمر رأيه مرور الكرام، وكان مصمماً على أن يثبت صحته باقتراع يشمل آراء كل الموجودين في الجلسة، ومن أجل هذه الغاية خاطبني بجو من الثقة يتعذر تفسيره وسألني إن كنت أخالفه الرأي. لم أكن من النوع الذي يندفع إلى التعبير عن رأيه باستعجال خاصة حين يكون لدي سبب وجيه للاعتقاد بأنه لن يكون مقبولاً، بالتالي حين أضطر للإدلاء به أتقيد بمبدأ الإفصاح عن قناعاتي الحقيقية. ولهذا قلتُ له إنه لا يجوز أن أتجرأ على التحدث بهذه النبرة الجازمة إلا بعد أن أقوم برحلة في أنحاء أوروبا وأدرس أخلاق أممها العديدة بانتباه ودقة شديدة، وإن حَكَماً نزيهاً لن يتردد على الأرجح في تأكيد أن الهولنديين أكثر اقتصاداً وكدحاً، وأن الفرنسيين أكثر لطافة ولباقة، وأن الألمان أكثر جرأة وصبراً في العمل وبذل الجهد، وأن الأسبان أكثر اتزاناً ووقاراً من الإنكليز، الذين رغم أنهم من دون شك شجعان وكرام إلا أنهم في الوقت نفسه طائشون وعنيدون ومتهورون ويغالون في الابتهاج والتمتع بالرخاء، واليأس في المحن.
استطعتُ أن أدرك بسهولة أن جميع الحاضرين بدأوا يرمقونني بعين الغيرة قبل أن أنهي جوابي، والذي ما إن أنهيته حتى نوّه السيد الوطني بسخرية وازدراء أنه في غاية العجب كيف أن بعض الأشخاص يمكن أن يطاوعهم ضميرهم كي يعيشوا في بلد لا يحبونه، وأن يتمتعوا بحماية حكومة يكنون لها البغضاء في قلوبهم. وبعد أن اكتشفت أنني، بهذا التعبير المتواضع عن أفكاري، قمت بتفنيد الآراء الحماسية لزملائي، وقدمت لهم الفرصة كي يشككوا بمبادئي السياسية، وتيقنتُ أنه من العبث مجادلة رجال معتدين بأنفسهم كثيراً، دفعت حسابي بسرعة وعدت كي أختلي في غرفتي مفكراً بالطبيعة العبثية والسخيفة للتحيز والتعصب القومي.
ومن بين كل الأقوال المأثورة للعصور القديمة لا يوجد قول يضفي شرفاً أكبر على المؤلف، أو يقدم متعة أكبر للقارىء (خاصة إذا كان شخصاً يمتلك قلباً كريماً ومحسناً)، أكثر من قول الفيلسوف الذي حين سُئل من أي بلد هو أجاب: أنا مواطن العالم. كم هم نادرون في الأزمنة الحديثة من يستطيعون التصريح بالكلام نفسه، أو من ينسجم سلوكهم معه.
لقد أصبحنا الآن إنكليزاً وفرنسيين وهولنديين وأسباناً أو ألماناً أكثر ولم نعد مواطني العالم، صرنا سكاناً محليين لبقعة محددة، أو أعضاء مجتمع صغير، ولم نعد نعتبر أنفسنا سكاناً عالميين للكوكب، أو أعضاء مجتمع مهيب يستوعب البشرية كلها.
لو أن هذه الآراء المسبقة انتشرت فقط بين الأحط والأدنى من بني البشر لعذرناهم بما أنه ليس لديهم إلا القليل من الفرص لتصحيحها عن طريق القراءة والسفر أو التحدث مع الأجانب هذا إذا كان لديهم أي منها، لكن الطامة الكبرى أن هذا التعصب يصيب بعدواه أذهان السادة ويؤثر في سلوكهم، وبين هؤلاء أعني أولئك الذين يستحقون هذا اللقب، لكن التحرر من التعصب يجب بأية حال، في رأيي، أن يعتبر علامة مميزة للسيد: ذلك أن رجلاً طيب الأعراق، ويتمتع بمنصب رفيع في الحياة، أو يمتلك ثروة كبيرة إذا لم يكن متحرراً من التعصب القومي وكافة الآراء المسبقة الأخرى، سأتجاسر على أن أقول له: إنه يمتلك عقلاً منحطاً وسوقياً، ولا يستحق لقب سيد بجدارة. وفي الحقيقة، ستجدون دوماً أن هؤلاء هم الأكثر نزوعاً إلى التباهي بالميزات القومية، وهم يمتلكون ميزات قليلة أو لا يمتلكون ميزات خاصة بهم كي يعتمدوا عليها، ولا ريب أنه لا شيء أكثر طبيعية من هذا: إن الكرمة الضعيفة تلتف حول شجرة البلوط القوية لا لسبب آخر سوى لأنها لا تمتلك قوة كافية كي تدعم نفسها.
وإذا ما زُعم دفاعاً عن التعصب القومي بأنه نمو طبيعي وضروري لحبنا لبلادنا، وأنه بالتالي لا يمكن أن نقضي على الأول من دون أن نؤذي الثاني، جوابي هو أن هذه مغالطة فادحة وخداع صرف. فإذا قلنا: إن هذا نموّ لحبنا لبلادنا سأسمح بذلك لكنني سأنكر بشدة أنه نمو طبيعي وضروري. إن الخرافة والغلواء هما نموّ للدين أيضاً، لكن من الذي يستطيع أن يثبت بأنه نمو ضروري لهذا المبدأ النبيل؟ إن الخرافة والغلواء، إن شئتم، أغصان غير شرعية لهذه الشجرة السماوية، وليست أغصانها الطبيعية والحقيقية، ويمكن استئصالها دون إلحاق أي أذى بالشجرة الأساسية: بل يمكن القول إنه، إذا لم يتم استئصال هذه الأغصان فإن الشجرة الخيّرة لن تزدهر أبداً وتتمتع بكامل الصحة والقوة.
أليس من الممكن جداً أن أحب بلادي من دون أن أكره السكان المحليين لبلدان أخرى، وأن أبدي الشجاعة الأكثر بطولية، وأتخذ القرار الأكثر حزماً في الدفاع عن قوانينها وحريتها دون احتقار بقية سكان العالم كجبناء ومنحطين؟ أجزم بأن هذا ممكن، وإذا لم يكن هذا ممكناً - لكن ما الحاجة لفرض ما هو مستحيل؟ - يجب أن أقر بأنني أفضّل لقب الفيلسوف القديم وأعني: مواطن العالم، على لقب إنكليزي وفرنسي وأوربي أو أية تسمية أخرى من أي نوع.
[ترجمة: أسامة إسبر، المصدر: The Oxford Book of Essays, Chosen and Edited by John Gross. نشر هذا المقال لأول مرة في عام ١٧٦٣].