(دار التكوين، دمشق، 2022)
[شاعر سوري مقيم باليابان، ذهب إلى هناك سنة 1990 كأستاذ لتدريس اللغة العربية لطلاب جامعة طوكيو للدراسات الأجنبية، وقد استقر به المقام هناك واستقر به].
جدلية (ج): ما الذي دفعك إلى ترجمة هذه الكتاب؟
محمد عضيمة (م. ع.): بعد تقديم مختارات من الهايكو الياباني، تمتد من القرن السادس حتى العصر الحديث: "كتاب الهايكو الياباني"، الذي يحتوي ألف هايكو وهايكو، وبعد تقديم مختارات من أعمال الهايجين الكبير إيسّا ـ كوباياشي: "بريد الهايكو الياباني"، الذي يحتوي ألفي هايكو، وجدت أنه لا بدّ من تقديم أعمال مؤسس الهايكو الكاملة، وأعني به ماتسؤ ـ باشوأو. كنت قد ترجمت له عدة نصوص في الكتاب الأول بالتعاون مع الصديق المستعرب كوتا ـ كاريا، لكن كنت أشعر أنني لم أنجز المهمة وكما يجب بالنسبة إلى هذا المعلم، معلم الأجيال حتى اليوم. فوجدت نفسي متورطا في محاولة تعريب نصوصه الهايكو، وكان هذا الكتاب.
(ج): ما هي الثيمة/ات الرئيسة، ما هو العالم الذي تأخذنا إليه نصوص الكتاب؟
(م. ع.): ثيمات الهايكو التقليدي معروفة، أو بالأحرى أضحت معروفة: الطبيعة بكل ما فيها من عناصر حية أو غير حية، هي المصدر الأساسي الذي يمتح منه هذا الكتاب وكل كتب الهايكو التقليدي. الطبيعة وتحولاتها بفصولها الأربعة، والتي يعيش الياباني على إيقاعها سواء كان هايجيناً أو لا، هي الكتاب المفتوح الذي لا أحد في الجزر اليابانية يمل من قراءته منذ القديم حتى اليوم. ستجد نفسك مثلا تحت وابل مفاجئ من المطر الشتوي وأنت بلا مظلة، أو ستجد نفسك أمام مشهد ضفدعة تقفز في جرن ماء داخل معبد، أو أمام زيزان صريرها ينسل داخل الصخر، أو أمام غروب خريفي يدعو إلى الحزن والكآبة، أو في بيت صديق يطلب منك أن تكتب له هايكو تخليدا لهذا اللقاء بالمصادفة، أو في حقل بري من الأقحوان، أو تحت أشجار كرز مزهرة، أو في صومعة ناسك تشرب الشاي الأخضر نهاية الصيف، أو على شاطئ بحر في الخريف تجمع القواقع لأجل العشاء، أو في استراحة على الطريق وقد أجهدك التحال والسفر. باختصار، في هذا الكتاب لن تغادرك الطبيعة في فصولها الأربعة، تارة الخريف وتارة الشتاء، وأحيانا الربيع ثم الصيف.
(ج): ما هي أهمية المؤلف كشاعر في سياق اللغة التي كتب بها؟
(م. ع.): بشكل عام لا يوصف بأنه شاعر، بل هايجين، وصار من الأفضل ألا يسبق اسمه أي لقب أو توصيف. يمثل ماتسؤ ـ باشوأو في اللغة اليابانية ما يمثله أبو الطيب المتنبي في اللغة العربية، لا بل أكثر. فهو كتاب اللغة اليابانية المقدس، إلى جانب الكوجيكي "وقائع الأشياء القديمة"، وربما أكثر من الكوجيكي لأنه مقروء أكثر ومتداول أكثر. لذلك أوردتُ في المقدمة أنني حاولت نقله إلى العربية بمقدار ما يسمح به النص، ولم أدّعِ أكثر من ذلك، على الرغم من الجهد المبذول على مدى سنوات ستة.
(ج): ما هي التحديات والصعوبات التي جابهتك أثناء الترجمة؟
(م. ع.): ترجمة الهايكو تبدو للوهلة الأولى سهلة فقط لأنه نص قصير ولا يتعدى بضعة كلمات. هذا هو الفخ الذي طالما وقع فيه المترجمون الغربيون، الذين يجيدون اللغة اليابانية لكن دون أن تكون لهم خلفية شعرية في لغاتهم الأم. لذلك جاءت أغلب ترجماتهم مشوهة وبعيدة من روح الهايكو الحقيقية، أو جاءت تفسيرية، تأويلية في أحسن الأحوال. وهذا هو الفخ الذي حاولت عدم الوقوع فيه بمقدار ما أستطيع. مفهوم الشعر شيء ومفهوم الهايكو شيء آخر تماما، مقاييس الشعر تختلف عن مقاييس الهايكو. فالشعر يقوم بشكل عام على تقاليد البيان والبلاغة المعروفة، وتقاليد الموضوعات الشعورية المعروفة، وعلى كون القصيدة عدة أسطر أو عدة صفحات وفيها تفصيل لموضوع ما صغير أو كبير، بينما الهايكو يكتب على سطر واحد مركِّزاً على واقعة/لقطة واحدة، بصرية أو سمعية أو لمسيّة أو شمية، وبعيداً من تقاليد البيان والبلاغة والتقاليد الأخرى. وهنا التحدي الكبير الذي يواجه أي مترجم: سطر الهايكو الذي أترجمه وأوزعه على ثلاثة أسطر للإيهام أنه شعر، سيبدو للقارئ، ولاسيما قارئ الشعر أو حتى للشاعر، كلاماً عادياً، وسيبدو أقل من كلام عادي إذا التزمتُ بسطر واحد كما هو في الأصل. ومع القارئ حق في ذلك، لأنه يقرأ الهايكو المترجم والموزع فوق ثلاثة أسطر، على أنه شعر وهو ليس شعرا، بل هايكو. {أراني مجبرا على استخدام لفظة هايكو في هذا السياق للتفاهم، مع أنها لا تصح في نظري إلا على الهايكو في اللغة اليابانية، ومن الأفضل ترجمتها إلى العربية بـ"تغريدة"}. لكن ما هو الهايكو؟ ترجمة اللفظة حرفيا: كلمةٌ مسليةٌ، نصٌ للتسلية، فكاهةٌ، لكنها مع الوقت صارت تعني هذا النص البسيط، المكثف، السريع، المكتوب بجرة قلم واحدة والذي أصبحت موضوعاته أوسع من أن تحصى، مع الاحتفاظ الكامل والدقيق بإيقاع السبعة عشر مقطعا صوتيا.
(ج): ما مقياس نجاح ترجمة الشعر إلى اللغة العربية برأيك؟
(م. ع.): ترجمة الشعر تختلف عن ترجمة الهايكو. فنحن لدينا تقاليد شعرية يمكنها أن تتقاطع مع الشعريات الأخرى بما في ذلك الشعرية اليابانية، وقد تجد في كثير من الأحيان ما يقابل هذه الصورة أو تلك، هذا المجاز أو تلك الاستعارة. وبمقدار ما تجد هذا المقابل تنجح الترجمة ويبدو النص وكأنه مكتوب في اللغة العربية. لكن ترجمة الهايكو تختلف كليا، فأنت محكوم بنص قصير لا يعني أكثر مما يقول، ويرتكز في ذلك على عناصر جمالية محلية مترابطة فيما بينها ولا مقابل لها في اللغة العربية ولا في اللغات الأجنبية الأخرى. ستة أو سبعة كلمات لوصف مشهد ضفدعة تقفز في الهواء أو في بركة عتيقة، يطرب لها الياباني كما لو كانت ملحمة، فماذا أنت فاعل بترجمة هذه الكلمات الستة وهذا المشهد؟ وكيف سنحكم على نجاح أو فشل الترجمة؟ للهايكو ذائقة يصعب وجودها في غير اللغة اليابانية: فما هو جميل في الهايكو سيبدو بلا معنى في العربية مثلا، كي لا نذكر اللغات الأجنبية الأخرى. كيف سيتذوق العربي أو الفرنسي أو الأمريكي مشهد ضفدعة تقفز في بركة ماء عتيقة، أو صرير الزيزان في الصيف، أو وقوف غراب وحيدا على غصن عار. أعتقد أن نجاح الترجمة ينبغي أن يقاس أيضا بمدى استقبالها وتذوقها. والطريف على هذا الصعيد، أن الغربيين لم يتذوقوا الهايكو إلا عندما ربطوه بالزن وطقوسه، وأخضعوه لتأويلات الدين نفسها، وهو أبعد ما يكون عن ذلك وعن أية فلسفة مشابهة. فالغربي والعربي معه لا يفهمان الآخر إلا من خلال المفاهيم الدينية المعروفة. الهايكو لا يعني أبعد مما تقول كلماته، وهنا تكمن مشكلة الاستقبال الكبرى، أي نجاح الترجمة.
(ج): هل هناك مراجع عدت إليها، أو قرأتها أثناء ترجمة الكتاب؟
(م. ع.): طبعا وقد أشرت إليها في المقدمة.
(ج): كيف تنظر إلى حركة الترجمة الشعرية من اللغة اليابانية إلى العربية، وهل ينقل الكتاب والشعراء اليابانيون إلى اللغة العربية بشكل كاف؟
(م. ع.): كلمة حركة كبيرة في هذا السياق، هناك جهود فردية يقوم بها بعض الذين يحزنهم خلوّ المكتبة العربية من الآثار التراثية الجمالية اليابانية. لا أريد الركوب على هذا السؤال، كما فعلتها مرارا، والصراخ في وجه 19 سفارة عربية في طوكيو لا تعمل شيئا على هذا الصعيد ولا على غيره. لكن فلنصرخ أيضا في وجه الناشر العربي الذي بإمكانه تكليف عشرات المترجمين لنقل عشرات الشعراء والروائيين اليابانيين، من اليابانية مباشرة أو حتى من اللغات الأوروبية. للأسف جميع الناشرين العرب لا تعنيهم اليابان كثقافة، وليسوا جاهزين لدفع حقوق النشر والتأليف والترجمة. عندي صديق فرنسي هنا في طوكيو يتقاضى راتبا شهريا من إحدى دور النشر الفرنسية مقابل ترجمة ما يريد عن اليابانية، ويعمل يوميا في بيته الساعات التي يمكن أن يقضيها أي موظف في تلك الدار، وسيكون له في النهاية راتب تقاعدي نظامي من الدار. من هو الناشر العربي الذي سيدفع لك راتباً شهريا مقابل ما تترجمه وما تقدمه، وفي النهاية يضمن لك راتبا تقاعديا. ولعلك أخي أسامة، أنت كشاعر ومترجم، تعرف هذا الموضوع مثلي وأكثر. جميع ناشرينا، وسياسيينا، وشيوخنا، من الماء إلى الماء، دكنجية صغار ومصاصو دماء.
(ج): ما الإضافة التي يشكلها هذا الكتاب على صعيد الترجمة الشعرية؟
(م. ع.): هذا ليس إضافة وحسب، بل اسمح لي بالقول، وبشيء من التواضع، هذا فتحٌ حقيقيٌّ أرجو أن يُضاف عليه في القرون القادمة، كي لا أتوهم وأقول السنين القادمة. يكفي المكتبة العربية فخرا أن تنضمّ إلى رفوفها تحفة هذا المعلم الكبير، "أعمال الهايكو الكاملة". مع الهايكو الذي طالما بشّرتُ به منذ ربع قرن، {ديوان الشعر العربي الجديد بأجزائه السبعة}، تتدرب اللغة العربية اليوم على النزول/الهبوط من السماء إلى الأرض، وعلى الخروج من لعبة الترادف/الغموض إلى الدقة والوضوح والجمال. وسوف يكون لهذا الكتاب دور كبير في الإشراف على تلك التمارين.
(ج): ما هو مشروعك القادم؟
(م. ع.): المطبخ مملوء بالمشاريع وجميعها لتعزيز ما تقوم به اللغة العربية للهبوط بسلام في بقعة آمنة من الجمال الفيزيقي.
مختارات من الكتاب
116.花にやどり瓢箪斎と自らいへり
(はなにやどり ひょうたんさいと みずからいえり)
هانا، ني، يادوري/هيوؤتانساي، تو/ ميزُكارا، إييري
بالمبيتِ بينَ الأزهار
سأسمّي نفسي:
القَرعُ الطّاهر.
117.五月の雨岩檜葉の緑いつまでぞ
(さつきのあめ いわひばのみどり いつまでぞ)
ساتسُكي، نو، آميه/ إيواهيبا، نو، ميدوري/ إيتسُ ماديه، زو
أمطارُ الشَّهر الخَامس ــ
إلى متى خُضرةُ
أوراقِ سرو الصّخور؟
118.蜘何と音をなにと鳴く秋の風
(くもなにと ねをなんとなく あきのかぜ)
كُمو، ناني، تو/ نيه، أُو، ناني، تو، ناكُ/ آكي، نو، كازيه
يا عنكبوتُ
أيُّ صوتٍ تخرجُه
في رياحِ الخريف؟
119.よるべをいつ一葉に虫の旅寝して
(よるべをいつ ひとはにむしの たびねして)
يورُبيه، أُو، إيتسُ/هيتو،ها، ني، مُشي، نو/ تابي، نيه، شيتيه
متى الوصولُ إلى الشاطئ؟
فوق وُريقةٍ
حشرةٌ نائمةٌ أثناءَ السّفر.
120.花木槿裸童のかざし哉
(はなむくげ はだかわらべの かざしかな)
هانا، مُكُغيه/ هاداكا، وارابيه، نو/ كازاشي، كانا
أزهارُ الخِطميةِ
يا للزّينةِ
في شعورِ أطفالٍ عُراة.
121.夜ル竊ニ虫は月下の栗を穿ツ
(よるひそかに むしはげっかの くりをうがつ)
يورُ، هيسوكا، ني/ مُشي، وا، غييكّا، نو/ كُري، أُو،أُغاتسُ
ليلاً وبشكلٍ سرّي
دودةٌ تثقبُ كَستناءةً
في ضوءِ القَمر.
122.愚案ずるに冥土もかくや秋の暮
(ぐあんずるに めいどもかくや あきのくれ)
غُ، أنزُرُ، ني/ ميه إدو، مو، كاكُ، يا/ آكي، نو، كُريه
حماقةٌ
تشبيهُ ظلمةِ القَبر
بغروبِ الخريف.
123.枯枝に烏のとまりたるや秋の暮
(かれえだに からすのとまりたるや あきのくれ)
كاريه، إييدا، ني/ كاراسُ، نو، توماري، يا/ آكي، نو، كُريه
فوقَ غُصنٍ ذابلٍ
يالوقفةِ غرابٍ
غروبَ الخريف.
124.いづく時雨傘を手に提げて帰る僧
(いずくしぐれ かさをてにさげて かえるそう)
إيزُكُ، شيغُريه/ كاسا، أُو، تيه، ني، ساغاتيه/ كاييرُ،سوؤ
أينَ كانتْ هذه الأمطار؟
بمظلةٍ تتدلّى منْ يدهِ
يعودُ الكاهن.
125.柴の戸に茶を木の葉掻く嵐かな
(しばのとに ちゃをこのはかく あらしかな)
شيبا، نو، تو، ني/ تشا، أُو، كِي، نو، ها، كاكُ/ أراشي، كانا
بعد تسع سنوات في إيدو،انتقلت للعيش
في مسكن متواضع بمنطقة فوكا ـ غاوا. وإذا كنت أتعاطف مع القائل:
"إن تشانغآن مكان ثري ومشهور منذ القدم ويصعب العيش فيه من دون نقود"
فذلك لأنني فقير على الأرجح.
إلى بابِ الصَّومعةِ
تُجرَفُ أوراقُ شجرِ الشّاي
يا للعاصفة.
ــ القائل هنا هو الشاعر الصيني بوتشو ( 772 ــ 846 )./ ــ تشانغآن: عاصمة الصين قديما.
126.小野炭や手習ふ人の灰ぜせり
(おのずみや てならうひとの はいぜせり)
أُونو، سُمي، يا/ تيه، ناراؤ، هيتو، نو/ هاي، زيه سيري
يا لفحمِ أونو
يتدربونَ على الكتابةِ
خربشةً فوقَ الرّماد.
ــ أونو: منطقة في ضواحي كيتو غرب اليابان مشهورة بصناعة الفحم. وهذا اللفظ، أو النطق، هو أيضا اسم خطاط ياباني مشهور( أونو ـ نو،ميتشيكازيه 894 ـ 699)، لعلّ باشو أراد شيئا من الفكاهة.
127.消炭に薪割る音かをのの奥
(けしずみに まきわるおとか おののおく)
كييشي، زُمي، ني/ ماكي، وارُ، أُوتو، كا/ أونو، نو، أُوكُ
أهو صوتُ تشقيفِ الخشبِ
لأجلِ الفحمِ المُطفَّى؟
كما لو أننا في أونو.