في تشرين الثاني الماضي، اجتمع ممثلو دول العالم في شرم الشيخ المصرية ضمن مؤتمر عالمي للمناخ يهدف لمتابعة الاتفاقيات والتعهدات المناخية والسعي نحو المزيد من التقدم في بناء اقتصادات تأخذ بعين الاعتبار مشاكل بيئة الأرض مثل محدودية الموارد والانبعاثات الكربونية.
تعتبر هذه المؤتمرات إحدى الوسائل الهامة من أجل تحويل الأمنيات في مجالات البيئة والتنمية المستدامة إلى اتفاقات عالمية يسهل متابعة تنفيذها والالتزام بها سواء من قبل الأمم المتحدة وفروعها المعنية بالبيئة أو من قبل المنظمات البيئية الدولية والمحلية بالإضافة إلى الناشطين البيئيين، لكن المؤتمر المنعقد بمصر كان مليئاً بالتناقضات، ليس فقط لأن المنظومة الحاكمة في مصر تضيق على الناشطين في جميع المجالات وتخنق الفضاء العام، بل أيضاً لأنها خططت ونفذت خلال السنوات الماضية مشاريع ضخمة في مجالات البنية التحتية لا تراعي البيئة ولا تأخذ بعين الاعتبار معايير الاستدامة.
بعد صعوده إلى السلطة في مصر، سعى الرئيس عبد الفتاح السيسي إلى تحفيز النمو الاقتصادي في البلاد عبر تنفيذ كمية ضخمة من مشاريع البنية التحتية من بينها إنشاء عاصمة إدارية جديدة، وكان لهذه المشاريع إيجابيات كثيرة لناحية تحفيز النمو الإقتصادي وتقليل البطالة، حيث عمل ملايين المصريين في هذه المشاريع على مدى سنوات، لكن البلاد أهدرت فرصة عظيمة بأن تصبح نموذجاً للبنية التحتية المستدامة في المنطقة.
بدأت خطط تطوير البنية التحتية في مصر بداية غير موفقة من الناحية البيئية، حيث تم تنفيذ مشاريع ضخمة من الطرق والجسور، لكن تصطدم هذه المشاريع مع المعايير البيئية، وأهم نقاط الاصطدام تلك هي أن الطرق السريعة ضغطت على المناطق السكنية –لعل غالبيتنا رأى الصورة الشهيرة للجسر الذي بُني ملاصقاً لعمارات سكنية- وصادرت المساحات التي كان من الممكن تخصيصها للمشاة والدراجات الهوائية، حيث يصل ضغط الطرق السريعة على الأماكن السكنية إلى تشجيع استخدام السيارات الخاصة كنتيجة حتمية للوضع التنظيمي للمدن، ما يسهم في حرق المزيد من الوقود.
استمرت خطط النمو المصرية في تجاهل المعايير البيئية العالمية، فاتجهت البلاد نحو إنشاء عاصمة إدارية جديدة بمبانٍ وأبراج زجاجية ضخمة، فإذا تجاهلنا البصمة الكربونية الهائلة للخرسانة باعتبارها شرا لا بد منه في الحالة هذه، فإن المباني التي تم تشييدها بنيت دون الأخذ بالاعتبار كمية الطاقة اللازمة للحفاظ على درجة حرارة مناسبة داخل تلك المباني، فالأبراج الزجاجية والمباني التي لا يتضمن تصميمها تهوية مناسبة تستهلك الكثير من الطاقة في الصيف والشتاء على حد سواء، فتحتاج المباني المزيد من الكهرباء من أجل التدفئة والتكييف بالإضافة إلى الإنارة. ولعل هذه الجزئية تثير رداً أو تساؤلاً لدى القارئ: ماذا عن ألواح الطاقة الشمسية على أسطح تلك الأبراج والمباني؟ أليست إجراءًا كافياً لحل أزمة الكهرباء في المبنى؟ إن مساحة أسطح المباني والألواح الشمسية الموزعة على تلك المساحة، لا يمكن أن تنتج كمية من الكهرباء تكفي للمبنى نظراً للعدد الكبير من الغرف والشقق التي تحويها الأبراج والعمارات، بل أنها لا تكفي حتى لتعويض الفرق في الاستهلاك بين المبنى الزجاجي أو المبنى غير المراعي للمعايير البيئية من ناحية، وبين المبنى المصمم بشكل يعرض مساحاته الداخلية للتهوية والإنارة.
إن مجمل النمو الذي سعت إليه الحكومة المصرية تم تنفيذه بلا اكتراث لمعايير التنمية المستدامة، سواءًا في سياسات التنمية داخل المدن التي نفذتها السلطات المحلية، أو في مشهد التنمية المصري ككل، بما في ذلك العاصمة الجديدة. إن شراء الألواح الشمسية ونثرها في البلاد لا يكفي لوصف اقتصاد البلاد بالمستدام، طالما أن المحصلة النهائية تؤدي إلى المزيد من الانبعاثات الكربونية، ولأن مصر التي بنت برجاً زجاجياً كأطول برج في أفريقيا تبني أكبر محطة للألواح الشمسية في العالم، سأنتهز الفرصة للتأكيد على أن المحصلة النهائية كانت مزيداً من الانبعاثات، فبحسب الأرقام التي عرضها وزير الكهرباء والطاقة المتجددة المصري فإن القدرات المضافة إلى النظام الكهربائي خلال 8 سنوات، بين عامي 2014 و2022 بلغت 31 ألف ميجاواط حوالي 90% منها من الطاقة التقليدية حيث بلغت القدرات الإجمالية من الطاقة الشمسية وطاقة الرياح 3265 ميجاواط فقط.
بالعودة إلى مؤتمر المناخ، فقد أفضى المؤتمر إلى الاتفاق على بنود إيجابية كثيرة، من بينها الدعوة إلى التخلص التدريجي من الفحم والتخلص من دعم الوقود الأحفوري غير الفعال، والتعهد بتقديم 100 مليار دولار للبلدان النامية لدعمها في التكيف مع آثار التغيرات المناخية، والاعتراف بضرورة تحقيق الهدف الذي تم الاتفاق عليه في باريس وهو تقليل متوسط الزيادة في درجات الحرارة. بالإضافة إلى ذلك أعلنت 137 دولة التزامها بإجراءات من أجل حماية الغابات، وتعهد في هذا الصدد الرؤساء التنفيذيون لأكثر من 30 مؤسسة مالية تبلغ قيمتها حوالي 9 تريليون دولار بالقضاء على الاستثمار في الأنشطة المرتبطة بالتعدي على الغابات.
على الرغم من كل تلك الإيجابيات إلا أن نتائج المؤتمر كانت أقل بكثير من طموحات الدول والمنظمات والناشطين المهتمين بالبيئة، فـ"لم تكن الصفقة النهائية خطوة كافية إلى الأمام" بحسب رئيس شؤون المناخ في الإتحاد الأوروبي.
إن إهدار فرصة عقد مؤتمر عالمي للمناخ في منطقة ستتكبد خسائر كبيرة نتيجة آثار التغير المناخي لا يقل سوءاً وإحباطاً عن إهدار فرصة بناء مدينة ذكية وعصرية ومستدامة كعاصمة إدارية، وينذر بنهج يتمثل في التعامل مع القضايا البيئية الحساسة بطريقة استعراضية تشبه تعامل الأنظمة في المنطقة مع الديمقراطية، حيث الأحزاب والبرلمانات شكلية، بلا سلطة أو قدرة على المحاسبة أو المراجعة أو اتخاذ قرار.