(المرايا للثقافة والفنون، القاهرة، 2023)
[المترجم محمد عبد الفتاح السباعي، رئيس قسم الشؤون الخارجية بجريدة "الأخبار" اليومية ويعمل مترجماً فورياً في عدد من القنوات المصرية والفرنسية. سبق للمترجم العمل مراسلاً حربياً ومترجماً فورياً من ليبيا وقطاع غزة لعدد من وسائل الإعلام المصرية والفرنسية، وترجم من قبل أربعة كتب عن الفرنسية، أبرزها كتاب "عنف وسياسة في الشرق الأوسط... من سايكس بيكو إلى الربيع العربي"، وكتاب "المثقفون والجنس والثورة... عاهرات وعزّاب في القرن التاسع عشر"].
جدلية (ج): كيف اخترت الكتاب وما الذي قادك نحوه؟
محمد السباعي (م. ع.): في البداية أوضح أن عنوان الكتاب في حد ذاته ليس كاشفاً بما يكفي لما يتضمنه من ثراء معلوماتي هائل، ولكن حينما قرأت مقتطفات منه تحمست بشدة لقراءة المضمون كاملاً ومن ثم ترجمته، نظراً لأن المؤلف أبدع في تسليط الضوء على كرة القدم من زوايا نضالية كشفت عن الارتباط الوثيق ما بين السياسة وكرة القدم واستخدام الأنظمة المستبدة للعبة كأداة تلميع سياسياً وكذلك ترويض وإلهاء للجموع، وتلك النقطة تحديداً غائبة عن الغالبية العظمى من جمهور كرة القدم الوطن العربي، بما في ذلك نخب مثقفة تتابع اللعبة وبعضهم يظن أن الأمر ليس سوى 22 لاعباً يلهثون خلف بالونة منفوخة بالهواء على مدار تسعين دقيقة ثم ينتهي كل شيء. أما اقتراح ترجمة الكتاب من خلالي فجاء في الأساس من الزميلة والصديقة العزيزة دينا قابيل، مالكة دار المرايا، والتي تعمل في نفس الوقت كصحفية بالنسخة الفرنسية من صحيفة الأهرام "الأهرام إبدو"، ولأنها تعرف أنني لاعب كرة قدم سابق، كما تعرف مدى شغفي باللعبة حتى الآن فضلاً عن كوني صحفياً متخصصاً في العلاقات الدولية، حيث أشغل منصب رئيس قسم الشؤون الخارجية بجريدة الأخبار اليومية، فإنها لم تتردد في إسناد ترجمة الكتاب لي، وقالت نصاً وهي تقدم لي النسخة الفرنسية من الكتاب: "هذا الكتاب لن يترجمه أحد غيرك".
(ج): ما هي الأفكار والأطروحات الرئيسية التي يتضمنها الكتاب؟
(م. ع.): الكتاب يحكي عن الجذور التاريخية لنشأة كرة القدم منذ القرن الرابع عشر، وربما ما قبل ذلك، إلى أن تطورت للشكل الحالي كصناعة كبرى تتدخل فيها السياسة بوجهها القبيح أحياناً. كما يشرح الكتاب أيضا كيف كانت الكرة وسيلة لمقاومة العنصرية والتمييز على أساس الجنس، وكيف تم توظيفها كأداة لخدمة نازية هتلر وفاشية موسوليني، كما يحكي عن لاعبين قتلهم هتلر عقابا على مواقفهم السياسية، ويروي الكتاب كذلك عن كرة قدم كسلاح استخدمته الجزائر للتخلص من المستعمر الفرنسي، وكطريق نضال للشعب الفلسطيني في مواجهة الاحتلال. وفي الفصل الأول من الكتاب نكتشف أن ذكر كرة القدم جاء للمرة الأولى تاريخياً مرتبطاً بشكل وثيق بإرساء النظام العام، وهو ما نقرأه في مرسوم صادر في أبريل من عام 1314، عن نيكولاس دي فارندوني، عمدة لندن، باسم الملك إدوارد الثاني ملك إنجلترا، والذي تقول كلماته: «بينما يذهب مولانا الملك إلى بلاد اسكتلندا في حربه ضد أعدائه، وبما أنه عهد إلينا باتباع سبل صارمة لحفظ السلام، ولأن هناك ضوضاء تعم المدينة نتيجة لعب مباريات كرة القدم في الملاعب العامة، وتحسباً لما يمكن أن ينجم عن ذلك من شرور كثيرة- نسأل الله أن يحفظنا منها- قررنا ومنعنا، باسم الملك وتحت عقوبة السجن، ممارسة تلك الألعاب في المدينة من الآن فصاعداً».
علماً بأن هذا المرسوم امتد ليشمل مدناً أخرى في المملكة في عهد ولي العهد وريث العرش الملك إدوارد الثالث والذي تكرر هذا الأمر في عهده ثلاث مرات ضد كرة القدم.
(ج): ما هي التحديات التي جابهتك أثناء البحث والترجمة؟
(م. ع.): لا شيء يُذكر. إذ استغرق الأمر 55 يوماً على وجه الدقة للانتهاء من ترجمة 400 صفحة هي عدد صفحات الكتاب. فكما أخبرتك أنا لاعب كرة قدم سابق، ما يعني أنني أفهم مصطلحاتها جيداً فضلاً عن متابعتي المستمرة للعبة كما الغالبية العظمى من البشر، وأتقن اللغتين العربية والفرنسية، فأنا حاصل على درجة الليسانس في الأولى من جامعة الإسكندرية وعلى ليسانس في الثانية أيضاً ولكن من جامعة السوربون في باريس. إضافة لمتابعي الدقيقة للتاريخ الأوروبي بحكم عملي الصحفي كمتخصص في الشؤون الخارجية.
(ج): ما هو موقع هذا الكتاب في مسيرتك في مجال الترجمة والإبداع؟
(م. ع.): «تاريخ شعبي لكرة القدم» لمياكئيل كوريا والصادر عن دار نشر La Decouverte «لاديكوفيرت» في باريس، هو خامس كتاب أترجمه من الفرنسية إلى العربية، حيث ترجمت قبله 4 كتب كان أخرها «عنف وسياسة في الشرق الأوسط.. من سايكس بيكو إلى الربيع العربي» الصادر باللغة العربية عن دار روافد عام 2016، فيما صدرت نسخته الفرنسية لـبيير بان وجان بول شانيولو عن مركز العلوم السياسية بباريس Presses de Sciences Po، وسبقه مباشرةً كتاب «المثقفون والجنس والثورة.. عاهرات وعزاب في القرن التاسع عشر» الصادر عن دار صفصافة عام 2015، بينما صدرت نسخته الفرنسية لـ لور كاتسارو عن Editions Galaade.
(ج): من هو الجمهور المتوقع للكتاب وما الذي تأمل أن يصل إليه القراء؟
(م. ع.): كل الجمهور الشغوف باللعبة، وأتمنى أن يصل إليهم أنه يمكنهم التخلي عن دور المستهلكين السلبيين الذي تحاول صناعة كرة القدم اختزالهم فيه. وعلى سبيل المثال، فإن سوانزي سيتي، أحد الأندية المرموقة في الدوري الإنجليزي الممتاز، مملوك منذ عام 2013 بنسبة تزيد عن 20٪ من قبل أنصاره عبر Swan Trust - مما يسمح لهم بحضور اجتماعات مجلس الإدارة والمشاركة في اتخاذ القرار، الذي عادةً ما يستحوذ عليه أفراد جهلة بشؤون اللعبة، أو فسدة ومتربحين من المال العام كما هو الحال في دول العالم الثالث.
(ج): ما هي مشاريعك الأخرى/المستقبلية؟
(م. ع.): انتهيت مؤخراً من ترجمة عمل ضخم بعنوان «لوثر ومحمد.. بروتستانتية أوروبا الغربية في مواجهة الإسلام في القرنين السادس عشر والثامن عشر»، من تأليف بيير أوليفييه ليكو، وهو دكتور في علم اللاهوت وأستاذ التاريخ الحديث في المعهد البروتستانتي للاهوت في باريس، كما كان عميدًا له. وكان من المفترض أن يكون الظهور الأول للكتاب في معرض القاهرة الدولي للكتاب الذي تُقام فعالياته في الفترة ما بين أواخر يناير الجاري وأول فبراير المقبل، ولكن نظراً للأزمة الاقتصادية المرتبطة بشُح الدولار وبالتالي استيراد ورق الطباعة، فإن عملية طبع الكتاب تأجلت لبعض الوقت. كما أنني على وشك الانتهاء من ترجمة كتاب علمي بعنوان «صناعة الأوبئة».
مقتطف من الكتاب
في 12 مارس 1938، أي بعد عامين من أولمبياد برلين، غزا الجيش الألماني "الفيرماخت" النمسا. وأعلن هتلر أن ضم فيينا إلى بلاده سوف يؤدي لمولد ألمانيا الكبرى "المُستفتى عليها بنعم"، تحت إشراف عسكري صارم، بنسبة 99٪ من قبل سكان البلدين في 10 أبريل 1938. قبل أسبوع واحد من الاقتراع ، وعلى سبيل الاحتفال بـ "لم الشمل" بين شعب البلدين الناطقين باللغة الألمانية، قرر القادة النازيون تنظيم لقاء كرة قدم ودي في فيينا بين ألمانيا وأوستمارك، الاسم الذي أطلق لاحقاً على النمسا السابقة والتي أصبحت مقاطعة ألمانية. نتيجة هذه المباراة الدعائية المؤيدة للرايخ - التي سميت فيما بعد Anschlussspiel أو "مباراة الضم" - المقرر عقدها في 3 أبريل 1938 في ملعب Praterstadion، تم الاتفاق على نتيجتها مسبقًا من قبل السلطات، إذ يجب أن تنتهي المباراة بالتعادل 0-0 من أجل إرضاء كلا الفريقين وتجسيد وحدة الرايخ في المساواة الرياضية. غير أن لاعب من فيينا ببنية جسدية ضعيفة سيقوض السيناريو المحدد مسبقًا للمباراة. اللاعب كان يُلقب بـ "موتسارت كرة القدم" وأحياناً "دير بابيريني" (رجل من ورق) بسبب بنيته الجسدية الضئيلة وقدرته على مغالطة دفاعات الخصم بخفة ورشاقة، اللاعب كان يُدعى ماتياس سينديلار ويعتبر في ذلك الوقت أحد أفضل المهاجمين في العالم . كان المهاجم النمساوي الأصل من مورافيا، وتعلم كرة القدم في الشوارع المتعرجة لمناطق الطبقة العاملة في فيينا. وأظهر مستويات رائعة مع المنتخب النمساوي الذي سيطر فيما بعد على كرة القدم الأوروبية ، مما جعله يطلق عليه اسم "فريق الأحلام" Wunderteam.
لكن ماتياس سينديلار وزملاؤه يدركون أن ضم النمسا سياسياً مرادف أيضًا للضم الرياضي، وبناء عليه فإن المنتخب النمساوي لم يعد موجودًا رسميًا ويجب دمجه في اختيارات المنتخب الألماني الأقل بكثير من ناحية المستوى. وفي 3 أبريل 1938، وقبل دقائق قليلة من دخول الملعب للمباراة التي كانت بمثابة مهزلة سياسية لخدمة مجد ألمانيا الكبرى، تحدى سينديلار السلطات النازية في غرفة خلع الملابس من خلال الإصرار على اللعب بالقميص الأحمر والأبيض وهو الزي الخاص بفريق الأحلام. وبعد تذكيرهم بأنه ممنوع تسجيل هدف واحد، سمح المنظمون للنمساويين بارتداء ألوانهم التقليدية. وأمام ما يقرب من 60 ألف مشجع يلوحون ميكانيكيًا بأعلام الصليب المعقوف، تجري المباراة في صمت شديد. لم يتم تسجيل أي أهداف خلال الشوط الأول بأكمله، ولكن لم ينخدع أحد في المدرجات. إذ أظهر فريق الأحلام النمساوي بعبثية تفوقهم الفني على المنتخب المتغطرس المكون من "إخوانهم الألمان" من خلال الضغط عليهم في أرجاء الملعب، مما سبب حرجا غير مسبوق وضاعف من الأخطاء الفادحة لا سيما عند اقترابهم من منطقة الجزاء. ولكن في الدقيقة 78 انهار الوضع الغريب. ولأن شعورا عارماً بالغضب كان يتملكه لم يستطع ماتياس سينديلار إلا أن يفتتح التسجيل ببراعة، ليشير بعدها بعلامة النصر ولتمتلئ المدرجات بالرهبة من قيام سينديلار وزميله في الفريق كارل سيستا بأداء رقصة مبهجة وقحة أمام المدرجات الرسمية لكبار المسؤولين النازيين الذين أصابهم الذهول. وبعد بضع دقائق، تلاشت الرغبة في المساواة الرياضية بين الشعبين عندما سجل سيستا هدفاً ثانياً قاتلاً بتسديدة هائلة من ركلة حرة على بعد 45 متراً و سكنت شباك المانشافت.
على النقيض من نموذج البنية الجسدية الآرية القوية، فإن هذا "الرجل الهش" أو "من الورق" كما يطلقون عليه، ومعه كارل سيستا، البولندي الأصل والملقب بـ" السمين"، يسحقان أبواق الدعاية النازية الشمولية بهدفين. وابتهج اللاعبون النمساويون، الفخورون بأنهم لعبوا كرة قدم بموهبة وبكرامة رغم تهديدات المسؤولين النازيين. وتم تهريب عدد قليل من اللافتات النمساوية للتعبير عن موقفهم برفض فريقهم للضم الرياضي في أثناء اللعب، لكن في غرف خلع الملابس كان اللاعبون يرتجفون بالفعل. فبعدما أذل سينديلار السلطات النازية بجرأة يُحسد عليها، كان الجميع على يقين بأن اللاعب النحيف قد وقع بذلك على شهادة وفاته.
غير أن شعبية لاعب كرة القدم في فيينا ثمينة للغاية وهو ما يدركه النازيون جيداً، لذا فقد فضلوا استغلال نجومية اللاعب والتلاعب بصورته. ومن هذا المنطلق، وفي نفس يوم الاستفتاء على ضم النمسا إلى الرايخ الثالث، الموافق 10 أبريل، نشرت الطبعة المحلية من Völkischer Beobachter، الجريدة الرسمية للحزب النازي، صورة لماتياس سينديلار مع عنوان ضخم: «جميع لاعبي كرة القدم يشكرون الفوهرر من أعماق قلوبهم ويدعون للتصويت بـ "نعم"!».
وبعد شهرين، وبمناسبة بطولة كأس العالم لكرة القدم التي أقيمت في يونيو 1938 بفرنسا، قام المدرب الألماني، سيب هيربيرجر، بضم العديد من اللاعبين السابقين في فريق الأحلام النمساوي لفريقه في محاولة لرفع المستوى الفني لمنتخب الماكينات.
أبدى النظام النازي استعداده للتجاوز عن تصرفات سينديلار إذا قبل الأخير الانضمام إلى المنتخب الوطني. ولكن، مهاجم فيينا رفض العرض متعللا بركبته ذات الإصابة المزمنة وكبر سنه. وكان آخر ظهور علني لسينديلار في ملعب كرة قدم يوم 26 ديسمبر 1938 بألوان فريق "أوستيريا فيينا"، ليهزم هيرتا برلين بهدف وحيد بتوقيع سينديلار، ليبدأ بعد تلك المباراة في العيش بشبه سرية مع رفيقته اليهودية الإيطالية كاميلا كاستاجنولى. وتم تعقبهما من قبل الشرطة، بعد إدراجهما في قوائم على أنهما "متعاطفان مع اليهود والتشيكيين والديمقراطيين الاجتماعيين"، قبل أن يتم العثور على اللاعب ورفيقته جثتين هامدتين في شقتهما في 23 يناير 1939. وعزت الرواية الرسمية للدولة وفاتهما إلى التسمم بأول أكسيد الكربون.