(دار صفصافة للنشر (القاهرة)، وTransnational Institute (أمستردام)، 2022).
[حمزة حموشان باحث وناشط جزائري مقيم في لندن، كاتب وعضو مؤسّس لحملة التضامن الجزائرية، ولجمعية العدالة البيئيّة شمال أفريقيا، ثمّ لشبكة شمال أفريقيا للسيادة الغذائية. وهو يعمل حاليًا منسّقًا لبرنامج شمال إفريقيا في المعهد الدولي Transnational Institute. محرر ومؤلف لكتابين: «النضال من أجل ديموقراطية الطاقة في المنطقة المغاربية» (2017)، و «الثورة القادمة في شمال أفريقيا: الكفاح من أجل العدالة المناخية» (2015)].
[كايتي ساندويل مسؤولة مشاريع بالمعهد الدولي Transnational Institute، وهي مؤسّسة بحثية دولية مقرها في أمستردام. يرتكز عملها على العدالة في النفاذ إلى الأرض والموارد، السيادة الغذائية، والانتقال العادل].
جدلية (ج): ما الذي قادكم إلى تأليف هذا الكتاب؟
حمزة حموشان (ح. ح.) وكايتي ساندويل (ك. س.): على العموم، تهيمن المؤسسات النيوليبرالية الدولية على أغلب الكتابات عن التغير المناخي والأزمة الإيكولوجية والانتقال الطاقي في شمال أفريقيا والمنطقة العربية. تحليلاتها متحيزة ولا تتعاطى مع أسئلة الطبقة والعرق والجندر والعدل والسلطة أو التاريخ الكولونيالي. حلولها المقترحة ووصفاتها للمشاكل تستند إلى السوق، وتأتي من أعلى لأسفل، ولا تتصدى للأسباب الجذرية لأزمات المناخ والبيئة والغذاء والطاقة. تؤدي المعرفة التي تنتجها هذه المؤسسات إلى عدم التمكين، وتتجاهل أسئلة القمع والمقاومة، وتركز بقوة على نصائح "الخبراء"، مع إقصاء الأصوات "القادمة من أسفل". هذا الكتاب محاولة لتصليح هذه الأوضاع.
حتى الآن، لم تظهر مجموعة من الكتابات متوفرة على نطاق واسع بأقلام باحثين أو نشطاء نقديّين من شمال إفريقيا عن الانتقال الطاقي العادل، باللغات العربية أو الإنكليزية أو الفرنسية، سواء ضمن كتاب أو موارد متوفرة عبر الإنترنت. بينما تكتسب كتبٌ عن الصفقات الخضراء الجديدة والانتقال الطاقي المنشود اهتماماً متزايداً، تبقى كتابات المؤلفين النقدييّن من الجنوب العالمي مهمّشة، ومنهم كُتاب من شمال إفريقيا والمنطقة العربية. نظراً للأهمية البالغة لتحدي المركزية الأوروبية والحاجة إلى نهج أممي وواعٍ بالتحليل الطبقي في التعامل مع تخفيف آثار التغير المناخي والتكيف معه (بما يشمل التحرك بشكل عاجل نحو الطاقات المتجددة)، بالإضافة إلى أهمية نقد الدور الذي تلعبه الحكومات والنخب المحلية في نظام الطاقة الأحفورية الحالي، نعتقد أن هناك فجوة هائلة. مع انعقاد محادثات المناخ الدولية COP27 (مصر 2022) وCOP28 (الإمارات العربية المتحدة 2023) في المنطقة العربية، تكتسب مثل هذه الكتابات النقدية أهمية أكبر.
(ج): ما هي الأفكار والأطروحات الرئيسية التي يتضمنها الكتاب؟
(ح. ح.) و(ك. س.): الكتاب مجموعة مقالات من مختلف دول شمال إفريقيا، تركز على جوانب متعددة من الانتقال الطاقي وكيفية جعله عمليّة منصفة وعادلة. تغطي الفصول جملة عريضة من الدول، من المغرب والصحراء الغربية والجزائر حتى تونس ومصر والسودان، كما تشمل إسهامات إقليمية عن الانتقالات الزراعية والهرولة وراء الهيدروجين في الآونة الأخيرة في شمال أفريقيا.
يعتمد هذا الكتاب بشكل صريح منظور "العدالة" ويهدف إلى كشف السياسات والممارسات التي تحمي النخب السياسية والشركات متعددة الجنسيات والنظم السلطوية والعسكرية. ويسعى أيضا إلى الإسهام في عمليات إنتاج المعرفة والمقاومة لسلب الأرض/الموارد والأجندات النيوكولونيالية، وذلك من أجل الوصول إلى الاستدامة القادرة على إحداث تحولات جذرية، من أسفل لأعلى، بناءً على قناعتنا أن هذا النهج يتيح أكبر إمكانات للتعامل مع الأزمات البيئية والغذائية والطاقية والاجتماعية.
حسب علمنا، هذا هو أول كتاب باللغة العربية، يتناول مسألة الانتقال الطاقي في شمال إفريقيا، بالاستعانة بمنظور العدالة وإطار عمل الانتقال العادل.
يهدف هذا الكتاب إلى تطوير تحليل أعمق حول الانتقال الطاقي في شمال إفريقيا وبلوغ فهمٍ أفضل للوضع الحالي، والجهات الفاعلة المعنية والمنتفعين والمتضررين المحتملين لتفادي التحولات غير العادلة ويودّ أن يساهم في إثراء المناقشات الوطنية/الإقليمية والعالمية حول التّحوّل/الانتقال الطاقي. يطرح المؤلفون بعض الأفكار حول الانتقال الطاقي في سياقاتهم مع تسليط الضوء على بعض التحديات والتناقضات. كما أنهم يحاولون تطوير وجهات نظر حول البدائل وطرق بناء التحالفات وخلق فرص التضامن.
(ج): ما هو موقع هذا الكتاب في مسيرتكم الفكرية؟
(ح. ح.) و(ك. س.): يعتبر الكتاب استمرارًا وتعزيزًا لعملنا حول العدالة البيئية/المناخية وديمقراطية الطاقة. نود، من خلاله، أن نقدم مساهمة مهمة في المناقشات العالمية الحالية حول العمل المناخي والانتقال العادل بشكل عام عبر استجواب ما ستعنيه هذه العمليات في الظروف الفريدة لمختلف البلدان في منطقة شمال إفريقيا، والتي تشمل (أ) الأنظمة الاستبدادية، و(ب) الاقتصادات المعتمدة على النفط، و(ج) تاريخ الاستعمار والإمبريالية، و(د) موارد الطاقة الخضراء الهائلة.
يعتمد الكتاب على أبحاثنا السابقة عن الحركات الاجتماعية في المنطقة وعلى الصعيد الدولي والتي استكشفت ممارسات حركات العدالة البيئية والمقاومة للنمط الاستخراجي والتي تطرّقت كذلك للمبادئ العالمية للانتقال العادل. ويود هذا الكتاب خلق مساحة حوار مع هاته الأفكار والممارسات في سياق منطقة شمال أفريقيا بشكل خاص.
(ج): من هو الجمهور المفترض للكتاب وما نوع التأثير الذي تريدون أن يكون له؟
(ح. ح.) و(ك. س.): الكتاب مخصّص للباحثين والطلاب والنشطاء والصحفيين وصانعي القرارات والمهتمين بمسائل العدالة المناخية، والتحولات العادلة للطاقة، والاستدامة، والطاقات الخضراء على مستوى العالم أو على وجه التحديد في سياق شمال إفريقيا/المنطقة العربية. كما يمكن استخدامه كمادة تعليمية/بحثية للطلاب الجامعيين وطلاب الدراسات العليا الذين ينصب اهتمامهم في مسائل الاقتصاد السياسي للاستدامة والتحولات الخضراء.
يهدف الكتاب إلى:
-
زيادة النقد البنيوي في نقاشات الانتقال "الأخضر"، من خلال وضع أصوات المناضلين والباحثين والكُتاب من شمال أفريقيا والمنطقة العربية في قلب النقاش.
-
تسليط الضوء على أهمية الأزمة المناخية وإلحاحها في شمال إفريقيا، ومقاومة تجذر الاستخراجية والاستعمار الطاقي، بالتركيز على الحاجة إلى تحليلات متكاملة وشاملة وتغيرات هيكلية كبرى.
-
مناوءة الخطابات النيوليبرالية/النيوكولونيالية المهيمنة فيما يخص الانتقال "الأخضر"، والتي تروّج لها أطراف دولية كثيرة في المنطقة.
-
تجاوز الخطاب "الأمني"، إذ يتجنب الكتاب المطالب المُؤطّرة حول "الأمن"، مثل الأمن المناخي والأمن الغذائي والأمن الطاقي، بينما يروج لمفاهيم مثل العدالة والسيادة وإنهاء الاستعمار.
-
دعم القوى/الحركات/المجموعات الشعبية التقدمية في شمال إفريقيا والمنطقة العربية بشكل أعم، لبدء مسارها في وضع تصور لاستجابة محلية وديمقراطية وعمومية لتحقيق الانتقال الطاقي المطلوب، تصور يأخذ بعين الاعتبار تحليلات على المستويات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والطبقية والبيئية.
-
المساعدة في حشد مجموعات العمل في شمال إفريقيا والمنطقة العربية حول محادثات المناخ (كوب27 في مصر وكوب28 في الإمارات).
نظرًا لأن الانتقال العادل يستلزم تحولًا كوكبيًا، وبما أن شمال إفريقيا ستكون إحدى المواقع المفصلية لهذا التغيير، فإننا نؤمن أن أهمية الكتاب عالمية وليست إقليمية فقط.
بطريقة أخرى، نأمل أن يساهم هذا العمل التثقيفي والسياسي في الدراسات الجديدة عن الانتقالات الطاقية عبر منهجية الاقتصاد السياسي، الذي يحقق في العلاقات بين صناعات الوقود الأحفوري وقطاع الطاقة المتجددة والنخب الإقليمية ورأس المال الدولي. كما نهدف إلى وضع واستكشاف مفاهيم وأفكار سياسية قادرة على توجيه وحشد التغيير بقيادة الحركات الشعبية في المنطقة.
(ج): ما هي مشاريعكما الأخرى/المستقبلية؟
(ح. ح.) و(ك. س.): نحن نعمل على الطبعة الثانية من الكتاب (باللغتين العربية والإنجليزية) والتي ستتجاوز التركيز على شمال إفريقيا لتتطرق إلى دول أخرى في المنطقة العربية من المشرق إلى الخليج. هذا مهم جدًا من أجل إعطاء صورة أفضل للديناميكيات والتوجهات في المنطقة العربية بأكملها. سيكون أيضًا مشروعًا في أوانه نظرًا لأن محادثات المناخ المقبلة (COP28) ستعقد في الإمارات العربية المتحدة. سنحاول أن نشتغل كذلك على مشاريع نشر أخرى. مثلا لدينا فكرة كتاب تمهيدي حول تعويضات المناخ/الديون المناخية التي من شأنها أن تمسّ المناقشات الجارية حول الخسائر والأضرار، والتمويلات المناخية والحاجة الملحة لتقاسم الثروة والتكنولوجيا بشكل عادل في الجهود العالمية للتصدي للأزمة المناخية.
(ج): ألديكما كلمة أخيرة؟
(ح. ح.) و(ك. س.): نهدف من خلال هذه الكتاب، إلى بدء نقاش أعمق عن معنى ومغزى الانتقال العادل في سياق شمال إفريقيا والمنطقة العربية. تختلف الديناميات القائمة فعلًا من دولة لأخرى في المنطقة وهي معقّدة، لكن هناك أيضاً تحديات وأسئلة مشتركة كثيرة تظهر من هذه التحقيقات: احتياجات وحقوق مَنْ هي التي يجب أن تحصل على الأولوية في الانتقال الطاقي؟ ما هو نموذج إنتاج الطاقة – ونموذج الاستخراج – الذي يمكن أن يتيح الوصول للطاقة لكل الناس العاملين؟ كيف تدفع دول الشمال والمؤسسات المالية الدولية المنطقة إلى تحمل أعباء الانتقال الطاقي؟ وما هي الحلول الأكثر عدالة؟ ما الدور الذي يجب أن تلعبه الدولة في قيادة الانتقال العادل؟ وما هي إمكانات إضفاء الديمقراطية على سلطة الدولة على مسار تحقيق هذا الهدف؟ ما هي التحالفات بين الأشخاص العاملين وحركات العدالة البيئية والأطراف السياسية الأخرى بالمنطقة التي تُعَدّ ممكنة وضرورية؟ وما الدور الذي يمكن أن يلعبه التضامن والمقاومة الدوليّين في دعم هذه التحالفات؟
من الواضح – وبشكل متزايد – أن الانتقال العادل لشمال إفريقيا سيتطلب الإقرار بالمسؤولية التاريخية للغرب المتقدم صناعياً، فيما يخصّ التسبّب في الاحترار العالمي. ثمّة حاجة إلى الإقرار بدور السلطة/القوة في صوغ مسار تشكل التغير المناخي ومسبّباته، ومن يتحملون عبء آثاره و"الحلول" المقدمة للأزمة. العدالة المناخية والانتقال العادل مفاهيم يمكن أن تحدث قطيعة مع "استمرار الوضع الرّاهن" الذي يحمي النخب السياسية العالمية والشركات متعددة الجنسيات والنظم غير الديمقراطية، في مبادرة نحو تحول اجتماعي وإيكولوجي وعملية تكيف راديكاليين. تزداد أولويات العدالة والبراغماتية مع الوقت، ونقطة الالتقاء بين العدالة والبراغماتية هي الحاجة إلى تعويضات مناخية، أو تسديد الديون المناخية لدول الجنوب العالمي من قبل الشمال الأكثر ثراء بكثير. يجب ألّا يأخذ هذا شكل قروض أو ديون إضافية على الجنوب العالمي، إنما تحولات كبرى في أنماط نقل الثروة والتكنولوجيا، وإلغاء الديون الحالية سيئة الصيت، ووقف تدفقات رأس المال غير المشروعة، وتفكيك التجارة واتفاقات الاستثمار النيوكولونيالية، من قبيل معاهدة ميثاق الطاقة، ووقف النهب القائم للموارد. يجب أن يراعي تمويل الانتقال الخسائرَ والأضرار الحالية المستمرّة والمستقبلية، التي تنال بشكل غير متناسب من دول الجنوب. لكن، وفي ظل عدم اقتصار اللامساواة بين الشمال والجنوب فقط، بل نراها داخل مختلف دول العالم كذلك، كيف يمكن لبرنامج جبر الضرر المناخي/التعويض المناخي أن يقترن بتهيئة نظام طاقة ديمقراطي ومنصف داخل دول شمال إفريقيا والمنطقة العربية بشكل أعم؟ هذه أسئلة مهمة ومُلحّة.
تعاني المفاوضات الدولية لمواجهة تغير المناخ من الركود، في الوقت الذي نرى فيه تسارع عجلة تغير المناخ، وانتشار وتعاظم آثاره المميتة التي لم يعد الشكّ في ارتباطها بتغير المناخ ممكناً. هذا الكتاب هو بمثابة أداة للنشطاء والمناضلين، في شمال أفريقيا وحول العالم، يساعدهم على الاستمرار في طرح الأسئلة الناقدة وبناء التحالفات والائتلافات ومنصات القوّة الشعبية، دعماً لأطروحاتهم ومقترحاتهم من أجل انتقال عادل.
مقدمة الكتاب
قبل فوات الأوان: الحاجة الماسّة إلى انتقال عادل في شمال أفريقيا
"اللحظة المناسبة هي الآن وإلا فلا، إذا كنا نريد حصر الاحترار العالمي عند 1.5 درجة مئوية". هذا هو التحذير الذي أطلقه جيم سكيا، الأستاذ في كلية لندن الملكية والرئيس المُشارك في فريق العمل المسؤول عن أحدث استعراض شامل (2022) لعلوم المناخ نفّذته الهيئة الحكومية المعنية بتغير المناخ (IPCC -آي بي سي سي – هيئة المناخ). يحذر التقرير من أن العالم على شفا الوصول إلى احترار بواقع 1.5 درجة مئوية خلال العقدين المقبلين، ويذكر أن الاقتطاعات الهائلة من الانبعاثات الكربونية – بدءاً من اليوم – هي وحدها القادرة على تجنّب كارثة بيئية ومناخية. بما أن هذه الاستعراضات والتقارير لا تُعد إلا كل ست إلى سبع سنوات، فربما يكون هذا هو التحذير الأخير من هيئة المناخ قبل أن يمضي العالم إلى مسار لا رجعة عنه من الانهيار المناخي، ستكون عواقبه وخيمة. الكوكب يعاني من ارتفاع درجات الحرارة بوتيرة سريعة للغاية، مع ظهور آثار كارثية بالفعل. كما أعلن أمين عام الأمم المتحدة أنطونيو غوتيريس في سياق إطلاق التقرير: "على أرض الواقع، هذا يعني غرق مدن كبرى، وموجات حرّ غير مسبوقة، وعواصف مروعة، وشحة مياه على نطاق واسع، وانقراض مليون نوع من النباتات والحيوانات".
ولقد بدأت أعراض الانهيار المناخي في شمال إفريقيا والمنطقة العربية، تظهر في تقويض الأسس الإيكولوجية والاجتماعية-الاقتصادية للحياة. تعاني دول مثل الجزائر وتونس والمغرب ومصر من موجات حر متكررة وحادة، وفترات جفاف مطولة، وهي الظواهر التي لها آثار كارثية على الزراعة وصغار المزارعين. في صيف 2021، واجهت الجزائر حرائق غابات غير مسبوقة ومدمرة، وتعرضت تونس لموجة حر خانقة، حيث اقتربت درجات الحرارة من 50 درجة مئوية، وعانى جنوب المغرب من جفاف مروع للموسم الثالث على التوالي، وفي جنوب مصر، فقد 1100 شخص بيوتهم في فيضانات وأصيب المئات بسبب لدغات العقارب التي خرجت من الأرض بسبب الظروف المناخية الشديدة. وفي السنوات المقبلة، تُقدّر هيئة المناخ أن منطقة حوض المتوسط ستتعرض لازدياد للأحداث المناخية الشديدة، مثل حرائق الغابات والفيضانات، مع زيادة في معدلات القُحولة والجفاف.
آثار هذه التغيرات تقع بقدر غير متناسب على المهمشين في المجتمع، لا سيما صغار المزارعين والمشتغلين بالرعي والعمال الزراعيين والصيادين. بدأ الناس بالفعل يضطرون إلى ترك أراضيهم بسبب موجات الجفاف والعواصف الشتوية الأقوى والأكثر تواتراً، والتصحّر وارتفاع مستوى سطح البحر. تعاني المحاصيل من الفشل في مواسم الحصاد، وتقلّ مصادر المياه تدريجياً، فيشتدّ تأثيرها على الإنتاج الغذائي في منطقة تعتمد بشكل مزمن على الواردات الغذائية. سوف تطرأ ضغوط هائلة على إمدادات المياه القليلة بالفعل بسبب التغيرات في أنساق تساقط الأمطار وتوغل مياه البحر في خزانات المياه الجوفية، فضلاً عن الإفراط القائم في استخدام تلك المياه. بحسب مقال نُشر في دورية "لانسيت"، فسوف يعرّض هذا أغلب الدول العربية لمستوى فقر مائي مُطلق بواقع 500 متر مكعب للفرد سنوياً بحلول عام 2050.
يتنبأ علماء المناخ بأن المناخ في قطاعات واسعة من الشرق الأوسط وشمال إفريقيا قد يتغير بشكل يهدّد قدرة بقاء السكان على قيد الحياة نفسها. في شمال إفريقيا على سبيل المثال، ستشمل الفئات التي ستتغير حياتها بأكبر قدر صغار المزارعين في دلتا النيل والمناطق الريفية في كل من المغرب وتونس، والصيادين في جربا وقرقنة (تونس) وسكان عين صالح في الجزائر واللاجئين الصحراويين في مخيمات تندوف (الجزائر) والملايين ممن يعيشون في عشوائيات القاهرة والخرطوم وتونس العاصمة والدار البيضاء.
ما يحرك عنف التغير المناخي هو قرار الاستمرار في حرق الوقود الأحفوري، وهو خيار اتخذته الشركات والحكومات الغربية، بالتعاون مع الطبقات الحاكمة في مختلف الدول. تضع الأنظمة السلطوية في المنطقة خطط الطاقة والمناخ بمساعدة داعميها في الرياض وبروكسل وواشنطن. وتتعاون النُخب المحلية الثرية مع الشركات متعددة الجنسيات والمؤسسات المالية العالمية مثل البنك الدولي وصندوق النقد الدولي والبنك الأوروبي لإعادة الإعمار والتنمية. ورغم وعودها، فإن تصرفات هذه المؤسسات تُظهر أنها عدوة للعدالة المناخية وبقاء الجنس البشري.
في كل عام، يجتمع قادة العالم السياسيين والمستشارين والإعلام ولوبيات الشركات في مؤتمرات الأطراف في اتفاقية الأمم المتحدة الإطارية بشأن تغير المناخ (COP – كوب). لكن على الرغم من التهديد الذي يواجه الكوكب، تستمر الحكومات في السماح بتصاعد الانبعاثات الكربونية وبتفاقم الأزمة. بعد ثلاثة عقود مما وصفته الناشطة البيئية السويدية غريتا ثونبرغ بـ "كذا وكذا وكذا"، أصبح من الواضح أن المحادثات المناخية مفلسة وفاشلة. اختطفتها الشركات والمصالح الخاصة التي تروج لحلول كاذبة هدفها جني الأرباح، مثل أفكار تجارة الكربون وما يُسمى بـ "الصفر الصافي" و"الحلول المستندة إلى الطبيعة"، بدلاً من إجبار الأمم الصناعية والشركات متعددة الجنسيات على تقليل الانبعاثات الكربونية وإبقاء الوقود الأحفوري في مكانه، في باطن الأرض.
جذب مؤتمر كوب26 الذي انعقد في غلاسغو في عام 2021 اهتماماً إعلامياً هائلاً لكنّه لم يحقق أيّ عوائد كبرى. و يُرجح أنّ محادثات 2022 و2023 التي ستنعقد في المنطقة العربية (كوب27 في مصر وكوب28 في الإمارات) لن تؤدي إلى إنجاز يُذكر، لا سيما على ضوء اشتداد التنافس الجيو-سياسي العالمي على خلفية الحرب في أوكرانيا، وهو سياق لا يسمح بالتعاون بين القوى الكبرى، ويمثل ذريعة إضافية لاستمرار الإدمان العالمي على الوقود الأحفوري. سيكون هذا هو المسمار الأخير في نعش محادثات التغير المناخي.
إن بقاء الجنس البشري يعتمد على ترك الوقود الأحفوري في باطن الأرض، وعلى التكيف مع المناخ المتغير مع الانتقال إلى طاقات متجددة ومعدلات مستدامة من استخدام الطاقة وتحولات اجتماعية أخرى. سوف تُنفق المليارات على محاولة التكيف، من البحث عن مصادر مائية جديدة وإعادة هيكلة الزراعة وتغيير المحاصيل وبناء حواجز بحرية (مصدات أمواج) لإبقاء الماء المالح بعيداً عن اليابسة، وتغيير شكل وطبيعة المدن، ومحاولة الانتقال إلى مصادر خضراء للطاقة من خلال بناء البنية التحتية المنشودة والاستثمار في الوظائف والتكنولوجيا الخضراء. لكن مصالح مَن ستخدمها هذه التحولات والانتقال الطاقي؟ ومن هم الذين من المتوقع أن يدفعوا أغلى أثمان الأزمة المناخية والتعاملات معها؟
تصيغ حالياً نفس القوى وبنى السلطة الشرهة التي أسهمت في حدوث تغير المناخ الردَّ عليه والتعامل معه. هدفها الأساسي هو حماية المصالح الخاصة وجني أرباح أكبر. في حين أن المؤسسات المالية العالمية مثل البنك الدولي وصندوق النقد الدولي تعكف على وضع تصورات عن الحاجة إلى الانتقال المناخي، فإن تصوراتها هي تصورات بانتقال رأسمالي بقيادة الشركات في أغلب الأحيان، وليست تصورات بخطط تقودها المجتمعات المحليّة وفي خدمة مصالحها. لا تجد أصوات منظمات المجتمع المدني والحركات الاجتماعية عادةً آذاناً صاغية عندما يتعلق الأمر بعواقب هذا الانتقال والحاجة إلى بدائل عادلة وديمقراطية. على النقيض من ذلك فإن المؤسسات المالية العالمية ومعها وكالة التنمية الألمانية ومختلف هيئات الاتحاد الأوروبي تتحدث بوضوح وبصوت مسموع، وتنظم الفعاليات وتنشر التقارير في دول المنطقة العربية. إنها تسلط الضوء على مخاطر العالم الذي يزداد حرارةً وتدعو إلى تحركات عاجلة، بما يشمل استخدام طاقة متجددة أكثر وخطط للتكيف. لكن تحليلاتها للتغير المناخي والانتقال المنشود ضيّقة ومحدودة وهي في واقع الأمر خطرة، إذ تهدد بإعادة إنتاج نفس أنماط الاستلاب ونهب الموارد التي وسمت حقبة الوقود الأحفوري الحالية.
رؤيةَ المستقبل التي تدفعها أطرافٌ مثل البنك الدولي ووكالة التنمية الألمانية والهيئة الأمريكية للتنمية الدولية ووكالة التنمية الفرنسية والكثير من هيئات الاتحاد الأوروبي، يكون الاقتصاد فيها خاضعاً لمنطق الربح الخاص، بما يشمل الدفع بالمزيد من الخصخصة للمياه والأرض والموارد والطاقة، بل وحتى الغلاف الجوي. تشمل المرحلة الأخيرة في هذا التّوجه الشراكات بين القطاعين العام والخاص التي يتم تنفيذها في كل قطاع في المنطقة، وتشمل كذلك قطاع الطاقات المتجددة. الدفع نحو خصخصة الطاقة وهيمنة الشركات في مجال الانتقال الطاقي ظاهرة عالمية لا تقتصر على شمال أفريقيا والمنطقة العربية، لكن آليات هذه العملية هنا متقدمة أكثر، ولم تصادف إلى الآن مقاومة كبيرة. المغرب ماضٍ بقوة في هذا المسار، وكذلك تونس. وهناك دفع قوي بالخصخصة وتوسيعها في قطاع الطاقة المتجددة في تونس، مع تقديم محفزات هائلة للمستثمرين الأجانب لإنتاج الطاقة الخضراء في البلاد، بما يشمل إنتاجها لأغراض التصدير. وتسمح القوانين التونسية باستخدام الأراضي الزراعية في تنفيذ مشروعات الطاقة المتجددة في بلد يعاني بالفعل من تبعية غذائية حادة (كما تبين أثناء انتشار جائحة كوفيد ثم حتى وقت كتابة هذه السطور، مع اجتياح الحرب لأوكرانيا).
تشدّد حتمًا تطورات كهذه في المنطقة على أهمية طرح سؤال: "الطاقة من أجل ماذا ومن أجل من؟ من الذين سيخدمهم الانتقال الطاقي؟" تستعرض المؤسسات المالية الدولية والشركات والحكومات "الاقتصاد الأخضر" أو ما تسمّيها بـ"التنمية المستدامة" بصفتها منظورًا جديدًا. لكنها في واقع الأمر امتداد لنفس منطق التراكم الرأسمالي والتسليع والتعامل بمنطق مالي بحت، بما يشمل تطبيق كل هذا على الطبيعة ذاتها.
إن الواقع التاريخي والسياسي والجيوفيزيائي لمنطقة شمال أفريقيا يعني أن كلًّا من الآثار والحلول الخاصة بالأزمة المناخية ستكون مختلفة في المنطقة عن وضعها في أية سياقات أخرى. انخرطت شمال أفريقيا في الاقتصاد الرأسمالي العالمي من موقع تابِعٍ: أثّرت القوى الاستعمارية على دول شمال أفريقيا أو أجبرتها على القبول ببناء اقتصاداتها بالأساس حول استخراج وتصدير الموارد – عادةً ما تُقدم رخيصة في صورة خام – اقتراناً باستيراد السلع الصناعية عالية القيمة. النتيجة هي نقل واسع النطاق للثروة إلى المراكز الإمبريالية على حساب التنمية المحلية. يؤكد استمرار هذه العلاقات غير المتكافئة أو المتعادلة حتى اليوم على دور دول شمال أفريقيا بصفتها جهات مُصدِّرة للموارد الطبيعية، مثل النفط والغاز والسلع الأساسية المعتمدة بشكل مكثف على المياه والأرض، مثل المحاصيل الزراعية النقدية. يفاقم هذا التجذّر للنمط الاقتصادي الاستخراجي التصديري من التبعية الغذائية والأزمة الإيكولوجية مع تكريس علاقات هيمنة امبريالية وتراتبيّات استعمارية جديدة.