(منشورات حياة، تورونتو، 2023)
[موريس ميترلينك، كاتب وشاعر ومسرحي بلجيكي، حظي بجائزة نوبل للأدب عام 1911].
[أحمد الزناتي، كاتب ومترجم مواليد القاهرة، نوفمبر 1979. حاز على جائزة الشارقة في الرواية عام 2016 عن روايته البساط الفيروزي، وجائزة هيئة قصور الثقافة المصرية عامي 2017 و2021].
جدليّة (ج): كيف اخترت الكتاب، ما الذي قادك نحوه؟
أحمد الزناتي (أ. ز.): للموضوع حكاية قديمة؛ في السنة الأولى الجامعية سمعتُ كاتبنا الكبير يحيى حقي في برنامج إذاعي يتكلم بإعجاب شديد عن الكاتب البلجيكي موريس ميترلينك. ميترلينك واحد من أكثر المؤلفين تأثيرًا في أوروبا في مطلع القرن العشرين. أشاد بأعماله عدد كبير من كُتاب أوروبا المعروفين آنذاك، وعلى الأخص هاينريش وتوماس مان، راينر ماريا ريلكه، فضلًا عن الكُتاب السورياليين اللاحقين من أمثال أندريه بريتون، جان كوكتو وأنتونين أرتود. تكلّم حقي عن أسلوبه المتفرد، وتوسّله بفن المقال الأدبي وتأمّل الطبيعة المحيطة والتأكيد على الرابطة القوية بيننا وبين مخلوقات الكون، علينا أن نسير في الأرض ونرى ونتعلم منها. هذا العمل في ذهني منذ فترة طويلة، لكل لكل شيء تحت السماء وقت، استغرق الأمر سنوات طويلة لتسنح الفرصة الملائمة لترجمة العمل ونشره بالشكل اللائق.
(ج): ما هي الثيمة/ات الرئيسية؟ ما هو العالم الذي يأخذنا إليه النص؟
(أ. ز.): يصف المؤلفُّ كتابَه على أنّه ملاحظات تأملية حول ذكاء الأزهار. لكني أصنفه تحت إطار أدب الحكمة. عبر فصول قصيرة مركزة مصوغة في لغة شاعرية، يحاول ميتيرلينك، وعبر استعراض سلالات متباينة من الأزهار، أن يبيّن لنا كيف تتعامل الأزهار والنباتات بوجه عام مع ظروف الحياة المعاكسة ومعوقاتها وكيف تطوِّر من آلياتها للتعامل مع كل موقف بعينه، راصدًا أوجه الشبه بين سلوكها وسلوك البشر.
الجميع يسعى، والجميع يناضل لإنجاز مهمته في الحياة، والجميع يحدوه طموح هائل للتغلّب على المعوقات والظروف المعاكسة. يرى المؤلف أن عالم الورود والأزهار، الذي يربط على قلوبنا بالسكينة والطمأنينة، ويبدو فيه كل شيء مسكونًا بمشاعر التسليم والصمت والإذعان، هو في حقيقته على طرف النقيض مما نراه تمامًا، لأنه عالم يموج بأشد أنواع التمرّد ضـد القَدر شراسةً وعنادًا. في الفصل الأخير بخصوص استخلاص العطور يقول إن غالبية الأزهار لا تترك أرواحها تُــزهَـق بسهولة، فلا تفرّط بيسر في عطرها الفوّاح.
(ج): ما هي التحديات التي جابهتك أثناء البحث والترجمة؟
(أ. ز.): حسبما قرأتُ من سيرته وكما ذكَرَ في الكتاب، كان المؤلف يملك حديقة خاصة في منزله، كانت رعاية الأزهار والنباتات هواية، ثم تحوّلت إلى شغف ومصدر للإلهام، وبالتالي كان الرجل يتكلم بكل أريحية عن أسماء النباتات والأزهار وأنواعها، وكانت المشكلة في المقابلات العربية، لأنّنا في العالم العربي نألف إطلاق عدة أسماء على زهرة/نبات واحد بحسب المنطقة الجغرافية (مصر مختلفة عن الشام عن الخليج وهكذا). تورد المعاجم المتخصصة أحيانًا أكثر من مقابل، فألجأ إلى الأكثر ذيوعًا تيسيرًا على القاريء.
(ج): ما هو موقع هذا الكتاب في مسيرتك الإبداعية؟
(أ. ز.): هذا العمل حلقة في سلسلة من الأعمال المندرجة تحت فئة Non Fiction، التي أنشد تقديمها، لاسيما الأعمال الكلاسيكية التي لم تُترجم ولم تحظَ بالاهتمام اللائق. ثمة كنوز مدفونة تحت التراب تناشد المترجمين لانتشالها.
(ج): هل هناك نصوص كانت ذات تأثير خاص، أو قرأتها أثناء إنجاز الترجمة؟ ما هي المراجع التي اعتمدت عليها؟
(أ. ز.): رجعت في أحيان كثيرة لمراجع ومعاجم في علم النباتات أو بعض المصادر الجغرافية تخص الأماكن التي يشير إليها، وأشرتُ إليها في الهوامش.
(ج): من هو الجمهور المتوقع للكتاب وما الذي تأمل أن يصل إليه القراء؟
(أ. ز.): في اعتقادي هذا كتاب عن الحياة والحكمة، ومن ثمّ فهو يخاطب فئات القُراء كافة: القاريء العادي، القارئ المهتم بالفلسفة، بالحكمة، بالأدب التأملي، القارئ المهتم بالقراءة عن أسرار عوالم الأزهار وبالجمال بوجه عام. المؤلف نفسه كان يكتب بأسلوب إنساني رقيق وكأنما يخاطب صديقًا أو قارئًا صادفَه في الشارع، وهو ما أضفى على النصّ مصداقية ودفئًا. في الكتاب إشارة مطوّلة إلى مدينة "غراس" الفرنسية وصناعة العطور، أخمّن أن باتريك زوسكيند استوحى ثيمة رواية العطر من هذا العمل، أقول ربما.
(ج): ما هي مشاريعك الأخرى/المستقبلية؟
(أ. ز.): ثمة مشروعات عدة، على رأسها سيرة ذاتية لشخصية لافتة في الفكر الغربي، أظنّه سيكون عملًا مختلفًا ومفاجئًا لتناوله المستفيض مفاجآت صاخبة عن علاقة هذه الشخصية بأهم أعلام الأدب/الفكر الغربي في مطلع القرن الماضي، فضلًا عن أعمال متميزة لم تُترجم مسبقًا لأسماء مرموقة في الأدب الألماني المعاصر.
مقتطف من الكتاب
لو أحنينا رؤوسنا بتواضعٍ أمام عملها لاكتشفنا عددًا هائلًا من أمارات الذكاء والنشاط والدهاء التي تُبديها الزهور، ولا أتكلّم عن البذور أو البراعم وحدها، بل أتكلم كذلك عن السيقان والأوراق والجذور. وبحسبنا أن نتأمّل الجهود الحثيثة التي تبذلها الأغصان المتكسِّرة للبحث عن ضوء الشمس، أو النضال الشجاع الذكي الذي تخوضه الأشجار المهدَّدة بالفناء.
أما عني شخصيًّا فلن أنسى يومًا نموذج البطولة والصمود الذي ضربته شجرة غار مهيبة يناهز عُمرها مئة عام، كنت قد رأيتها لدى زيارة مدينة "بروفنس" في الجنوب الفرنسي، وسط تجوالي بين الوديان البرّية المفعمة بالبهجة لمنطقة Loup. في مقدروكَ أن تقرأ بسهولة فوق جذعها المتعرّج، والمثقل بالألم والمعاناة، لو جاز لي التعبير، دراما حياتها الصعبة القاسية.
لنتخيّل الحكاية كالتالي:
في يومٍ من الأيام حَمَلَ طائر أو ربما حمَلتْ الريح -وهما سيدا القَدَر كما في التراجيديا اليونانية- بـذرةً فسقَطَتْ إلى جوار أحد الصخور، ثمّ مرّت الأيام والسنون ونبتتْ الشجرة في هذه البقعة، التي كانت بعيدة بمسافة مئتي متر عن مسقط الشلالات، في بقعة نائية عن البشر، عصيّة على الوصول، منتصبةً وسط جلاميد الصخر الصلبة الجرداء.
وبعد أن رأتْ الشجيرة نورَ الدنيا ببضع ساعات راحت بشكلٍ غريزي تـمدُّ جذورها العمياء تحت الأرض في عمليةٍ طويلة وشاقة للبحث عن منبع المياه الشحيحة، وعن التربة الصالحة للنموّ. كانت محاولة متواضعة لشجيرة على معرفةٍ غريزية بندرة المياه في مناطق الجنوب، لكنها لم تكن تعلم أنها أمام معضلةٍ شائكة لم تخطر لها على بال. كان الجذع قد نما في أول أمرهِ نموًا رأسيًّا، لكنه بدأ ينحني بشدة، مائلًا فوق جـرفٍ سحيق، عوضًا عن أن يرتفع إلى الأعلى.
ورغم ثِقل الفروع الساحق، لم تكن أمام الشجيرة المكافحة في أول اختبارٍ حقيقيّ لها أمام الحياة، إلا مواصلة النضال بعنادٍ لكي يتكئ الجذع المعوجّ على سطح الصخرة الصمّاء الصلبة، مثله مثل سبَّاح يرمي برأسهِ إلى الوراء في أثناء مواصلة مشواره ليلتقطَ أنفاسه، كيما تبقى أوراق الشجرة شامخة في عنان السماء.
اعتبارًا من هذه اللحظة بدأت الشجرة تُكرّس جهودها واهتمامها وطاقاتها وروحها الحرّة الواعية لحلّ هذه المشكلة العويصة. يضاف إلى ذلك أن الانحناء البشع لجذع الشـجرة كشف عن طريقة تفكيرها الرصينة، القادرة على الإفادة من النصائح التي تسديها الرياح والأمطار.
وبينما كان وزن أوراق الشجرة الوارفة آخذًا في الازدياد سنة وراء الأخرى، باحثًا بنهمٍ عن النموّ تحت أشعة الشمس، كان الجذع المعوجّ يتآكل تآكلًا عميقًا بسبب اختراق جلمود الصخر الصلد لبطنه. وفجأة تشاء العناية الإلهية أن يخرج جِذران قويان يافعان من بطن الجذع ليربِطانه بقوَّةٍ بالصخرة.
هل خرجَ الجِذران ليزيلا القلق عـن روح الجذع المسكين خشية أن ينهار؟ أم هل كانا ينتظران، ببصيرةٍ سامية، منذ الساعة الأولى، قدوم لحظة الخطر الحرجة للتدخّل وتقديم العون والمساعدة؟ أم ربما لا يعدو الأمر كله أن يكون مجرد ضربة حظّ سعيدة؟
السؤال: أي عينٍ إنسانية واعية قادرة على التقاط تفاصيل هذا العمل الدرامي الصامت الذي استمرّ زمنًا طويلًا قياسًا بزمن بحياتنا القصيرة؟
(8)
لا يمكننا أن نغادر عالم النباتات المائية من دون التوقف عند حياةِ أشد هذه الأنواع رومانسية على الإطلاق، وأقصد بذلك عشبة الحزامية البحرية المذهلة، وهي عشبة مائية تُمثّل ساعة التلقيح عندها الحلقة الأكثر مأساوية في الحياة العاطفية للزهور.
عشبة الحزامية البحرية فصيلة نباتية خاملة الذكر نسبيًّا قياسًا بشُهرة الزنابق المائية أو النيلوفر. رغم ذلك في مقدورنا القول إن الطبيعة اختصَّتها بفكرة جديدة كل الجدّة. تعيش هذه النبتة حياتها بالكامل في قاع المياه، وتقضي وجودها في حالةٍ أقرب إلى النُعاس حتى ساعة العُرس، حتى تشتعل فيها الرغبة توقًا إلى حياةٍ جديدة. يبدأ الأمر بأن تفتح الزهرة الأنثى ببطءٍ اللولب الطويل الموجود في ساقها، فيساعدها ذلك على الصعود إلى الأعلى والطفو إلى سطح البـركة ليبدأ التلقيح. عبر مياه البركة المضاءة بضوء الشمس تلمح ظهورها الزهرة الذكر، التي تصعد إلى الأعلى مملوءةً بالترقّب ناحية الزهرة الأنثى المتأرجحة التي تدعو الذَكَر إلى الولوج إلى عالمٍ سحريّ. ولكن في منتصف الطريق ينتاب الاثنيْن الإحباطُ بغتةً، فجذع كليهما، وهو مصدر الحياة، أقصر من الوصول إلى السطح حيث ضوء الشمس، وهو المكان الوحيد الذي يمكن أن يحدث فيه التقاء السداة بالميسم ويتمُّ التلقيح.
هل جـرَّب أحدٌ في الطبيعة لا مبالاة كهذه؟ وهل مـرَّ أحدٌ بامتحانٍ أشدّ قسوة من هذا؟
في هذه اللحظة لا يملك المرء إلا أن يتخيّل أمام عينيه تجسُّد تراجيديا الرغبة واستحالة تحقُّقها، أن يتخيَّل المعشوق المستحيل الذي يكادُ يُلمَس لكنه لا يُلمس، وأن يرى الفاجعة، أن يواجه المستحيل الناعم الذي لا يضع في طريقهما أية عقبات مادية.
سيبدو الأمر معضلة لا حلّ لها، مثلها مثل دراما حياتنا على هذه الأرض، ولكن ما يلبث أن تتفجّر مفاجأة غير مُتوقّعة. أقول في نفسي: هل توقعت ذكور الأزهار أن تُمنى بخيبة الأمل في حبّها؟ فالذكور عمومًا يطوون دائمًا في صدورهم فقاعة هواء، مثلما نحمل نحن داخل أرواحنا فكرة يائسة.
تبدو المسألة في البداية كما لو أن الذكور متردّدة جافلة، ولكنها بجهدٍ مضنٍ لبلوغ السعادة (هو أشدّ أنواع الجهود مشقَّة فيما رأيته في عالم الحشرات والنباتات قاطبة) تكسر الذكور عن عمدٍ الرابطة، أي تمزّق الحبل السرّي الذي يربطهم بمصدر الحياة. تفصل الذكور نفسها عن سيقانها عبر قفزةٍ عنيفة لا تُضاهى، تَـحـفّها رقرقة المياه اللامعة، فتخترق بتلاتها سطح المياه.
ها هو الذكر قد أُصيب بجروحٍ دامية، إلا أنه صار مخلوقًا متألقًّا وحـرًّا، يتوق إلى ملامسة "عـروسه"، تلك الأنثى غير المبالية، مرّة واحدة قبل أن يموت.
وبعد أن يحدث التلقيح تجرِفُ المياه الذكرَ الشهيدَ إلى مجرى النهر، بينما تُغلق الزهرة الأنثى الحامل "كأسَها"، وفي اللحظة الأخيرة تُغلق لولبها الطويل لتهبطَ عائدة إلى الأعماق، حيث تنضج ثمرة قصة الحب البطولية وتبلغ نهايتها.
ألا نُفسد بعقولنا هذه الصورة الرائعة لو اكتفينا بمشاهدة الجانب المظلم منها، في حين أنه يمكننا تأملّ جانبها المشرق؟ نعم، هذا هو الأمر. أحيانًا يقدّم الجانب المظلم من الحكاية حقائق أروع وأصدق من الحقائق التي يرينا إياها الجانب المشرق. الحقيقة أننا لن نرى الصورة الكاملة لهذه المأساة السعيدة لو صحّ القول إلا عندما نضع نُصب أعيننا ذكاء الزهور وطموحها إلى إثبات وجودها وصون نوعها. لو تأمّلنا البشر من حولنا لرأيناهم يُنفّذون هذه الخطة المثالية، ولكن بأسلوبٍ أخرق سخيف.
في بعض الأحيان تطفو الأزهار المذكّرة على سطح المياه، حتى عندما لا توجد أزهار مؤنثّة في الجوار، وفي أوقاتٍ ثانية عندما تسمح لهم المياه المنخفضة بالوصول بسهولة إلى "المعشوقات"، يواصل الذكور تمزيق سيقانهم تمزيقًا تلقائيًّا خلوًا من أي هدف!
أؤكد هنا مرة أخرى أن العبقرية بأسرها كامنة في النوع، في الحياة أو الطبيعة على حدٍ سواء، وأن سلوك الفرد على وجه العموم لا يخلو من حماقة. أما في الجنس البشري نجد تراوحًا حقيقيًّا بين الذكاء والحمق، وأحيانًا نجد سعيًا واضحًا وفعالًا نحو تحقيق نوع من التوازن، فالتوازن بين الغرائز هو السرّ الأعظم الذي سيصون مستقبلنا.