[حسين جرود شاعر وروائي سوري].
أعبرُ مُدَنَ الماءِ
مثلَ صُدْفةْ
منسابًا كالضوءِ
صغيرًا كالذكرى
شلالًا دافقًا
نحوَ عوالمَ لا تلبَثُ
أن تَتخلَّقَ حولي
وتزيدَ بكفِّي
وتُكوِّنَ أغنيتي
اللا صوتية
في الصوتِ أنا آخِرُهُ
في الواقعِ لا شيء
في الضوءِ مدىً
يتَّسعُ لكم
لتعيشوا فيهِ دونَ ظلال
تمشونَ فُرادى وجماعات
تبنونَ بيوتًا من الخَيْزُران
وتسقفونَها ببعضِ الأغصان
وسَعَفِ النخل
وتجِدونَ الشمسَ إذا مرَّت فيها
تحوَّلتْ إلى بَرْدٍ في الصيف
وبُخارٍ في الشتاء
وطعامُكم في القريةِ
عسلٌ أزرق
ينزلُ مغزولًا مثلَ الغيم
ترونَه بعيدًا
ثم يسَّاقطُ بينكم كُراتٍ ملوَّنة
تغسلونَها في قِدورٍ على الموقدِ
فتتحوَّل إلى بطاطا وشمندر
أو تُقشِّرونها فتجدونَ داخلَها ثمارَ الكيوي
الزمانُ نهارٌ طويلٌ يُراوحُ في الضحى
والمكانُ محدودٌ جدًا إنْ رأيتَهُ من الأسفل
لكنَّه يتَّسعُ صعودًا
ويُسقِطُ سبعةَ أطيافٍ
على كل لحظة.
بلدي في الأرضِ الأفقيةِ ضيِّقةٌ
وبلادي في الآفاقِ بلا عددِ
لحظتي تجتمعُ فيها الدهور
وعيوني تجتمعُ لتراقبَ كل واحدٍ منكم أمامَ كوخه
كأنَّه البشريةُ كلُّها أو ما بقيَ منها
ولهذا لا أفقدُ إيماني...
*
أعجبتُ بنفسي منذُ زمن
يومَ بدأتُ بصوغِ الكلمات
وعرفتُ البيت
وأن البيتَ يوجدُ في مستقبلٍ ما غامض
أما الكلماتُ دمارٌ قاتل
وشظايا تقذفها نحوي الأيام
فألعبُ بها قليلًا
ثم أرميها
لا متعةَ عندي
في الكلماتِ صدى
في الليلِ بقاءٌ متمدِّد
لا أرقُبُهُ
في الشمسِ الأولى
في ضحكتِها
في نظرتِها
في غمَّازَتِها على أسفلِ الخدِّ الأيمن
في الكذبِ الطويلِ الجميل
في رهانِ المجهول
في كلبٍ عاطلٍ عن الوفاء
وحقيقةٍ تبدأُ كل لحظةٍ من نفسِها
في شُطآنٍ بلا حَدٍّ
في رحلةِ صيَّادينَ وراءَ
نهاراتٍ لا تُنسى
أو تقتربُ منها حصاتي
أو سُبُلي
في ريحِ الوقتِ أجفِّفُهُ
وأذروهُ
لا أملِكُهُ ولا يملِكُني
له أيَّامُهُ
ولي زمني
له تاريخُهُ الطويلُ في الرمز
ولي همستي البسيطة التي لم تتغيَّر
وأعرفُ أنه لا معنى لها
لا وقتَ لشيء
حتى للكذبِ الجميل
لا أملَ بشيء
ولا ذكرى تلبثُ دونَ حصار
ولا غدَ يتفتَّحُ إلا في مداراتِ اللحظة
فلماذا أطاردُ أوهامي
وأنا أملِكُها
ولماذا أبحثُ عن شمسي
في عتمِ الواقع
وأوازي نفسي والجلَّادين
وأعطيهم فيضًا يسلبُني
الرؤية.
أعتادُ عليهم أحيانًا
وأراهم من خلفِ الشاشة
يَمضونَ
ويُستلبون
وتمرُّ دقائقَ أصبحُ منهم
إذْ كلُّ دقيقة
مرَّتْ كالخيطِ على دمِهم
أبغي قنصَ شذاها
وتكسيرَ إطاراتِ الأيام
ونبشَ الصحراءِ الأولى
من مدنِ التيه
وإعادةِ زمني المسلوب.
أراهُ الآن
فدعوني أغمرُ هذا الصمتَ
قليلًا
ودعوا الكلماتِ تسافرُ كرصيفٍ
حَجَريّ وترتِّبَ قصَّتها
لكنِّي لن أذهبَ معها...
*
في داخلي العالَمُ
والخارجُ سراب
أعُدُّ به
أرسمُه
أفكِّرُ فيهِ وعنه
ولا أناديه
لا شيءَ ليصلَ إليّ
ولا مكانَ لأنطلقَ منهُ
بحري وُسْعُ الفضاء
حظيرةٌ بكل الألوان
أوشام
جذور
شمسٌ مقليةٌ في دكاكين
رياحٌ معصورةٌ في زجاجات
أيتامٌ مجبرونَ على قولِ: بابا
أوهامٌ تتساقطُ
في سبتِ الأيامِ
وأردُّها لكم كلَّ مرة
والهواءُ على الجسرِ شفَّ وغاب
أركضُ نحوَهُ بسرعة
أمامي خمسُ ثوانٍ فقط
قبلَ أن يختفي البابُ الأثيريّ
أترككم بسلام.