[محمد باقر علوان، باحث وأكاديمي عراقي متقاعد].
لا شك أن للعربية الفصحى ميزات تجعلها الاولى بين أرقى لغات العالم وأعقدها. يمكن للشاعر أن يكتب قصيدة بمئتي بيت شعر أو أكثر على قافية واحدة، ويستطيع أن يكتبها على واحد من ستة عشر وزن. وإذا أراد أن يستخدم الرجز فيستطيع عندئذٍ أن يكتب قصيدة بألف بيت أو أكثر، كما صنع ابن مالك في قصيدته "ألفية ابن مالك" التي تحتوي على كل قواعد النحو العربي. وهذا يذكرني بأبي العلاء المعري الذي وجد الالتزام بقافية واحدة سهلا لدرجة أنه كتب ديوانًا كاملا ملتزمًا فيه بقافيتين، أي أن القافية في كل بيت من أبيات القصيدة تنتهي بنفس الحرفين وسماه "ديوان لزوم ما لا يلزم". ويذكرني هذا أيضًا بقصة دخول أبي العلاء المعري إلى مجلس الشريف المرتضى وكان المجلس غاصًا بالرواد فعثر أبو العلاء بأحدهم فصرخ هذا عليه: مَن هذا الكلب؟ فقال أبو العلاء: الكلب من لا يعرف سبعين اسمًا للكلب. وحين ندخل في اللغة العربية إلى الجمع فليس هناك شبيه له في لغات العالم قاطبة. فكلمة نَهْر أو نَهَريمكن جمعها على أنهار ونهور وأنهر ونُهُر وأنهرة. أما العدد فحدث عنه ولا حرج.
فهذه اللغة التي قضيت عمري كله أتعلمها آيلة إلى الذبول. لماذا أقول هذا؟
من المعروف أن الشعوب اللاتينية مثل الطليان والإسبان والفرنسيين تخلوا عن اللغة الكنسية، أي اللغة اللاتينية، التي كانت الأساس الكهني في حياتهم الدينية إلى شيء أسهل بكثير وهي الطليانية للطليان والإسبانية للاسبان والفرنسية للفرنسيين ومع ذلك بقوا على ديانتهم وهي الكاثوليكية. وهذا غير ممكن للغة العربية الآن لأن القرآن والدين الإسلامي يقفان بوجه التفكك اللغوي ولكن تأثيرهما سيقل تدريجيًا ولن ينعدم.
إن التطور اللغوي في جميع اللغات يحدث على الشكل التالي: عندما تصل لغةٌ ما درجة عالية من التعقيد تبدأ تدريجيًا في التفكك بين المتكلمين بهذه اللغة في المناطق التي تحوي الأكثرية من الناطقين بهذه اللغة ثم تصبح اللهجات لغات في ذاتها. هذا ماحدث في اللغات التي تنتمي إلى السلافية واللاتينية والسامية والصينية الكلاسيكية والهندو-أوروبية، وغير ذلك من اللغات في العالم.
والعالم العربي يقف الآن عند مفترق الطرق. فعلى الرغم من أن الأكثرية الساحقة من الكتب والمجلات تُكتب باللغة الفصحى فإن أكثر الإذاعات الرادوية والتلفزيونية تستخدم اللهجات المحلية. وقد كتب لويس عوض "مذكرات طالب بعثة" بالعامية المصرية بعد سنة 1940 وكتب مصطفى مصطفى مشرفة روايته "قنطرة الذي كفر" بالعامية المصرية، سنة 1965. وحديثًا كتبت صفاء عبد المنعم روايتها "من حلاوة الروح" بالعامية المصرية، سنة 2001. وقد تُرجم هذا العنوان بكلمة "يوفوريا" الانكليزية.
ذهب الزمان بشوقي وحافظ إبراهيم والزهاوي والرصافي والجواهري وبدر شاكر السياب وأتى زمان أشهر الشعراء كتبوا أو يكتبون فيه بالعامية مثل صلاح جاهين وأحمد فؤاد نجم وهشام الجخ في مصر ومظفر النواب وعريان السيد خلف وعمر قره غولي وأدهم عادل في العراق. أما الاغاني العربية فأكثرها باللهجات المحلية.
إن اختلاف اللهجات العربية ليس حديثًا. فوراء ذلك قرون من العزلة والفرقة والانشقاق. ولقد توسعت رقعة الإسلام بتدفق الجيوش القادمة من المدينة وحواليها بسرعة هائلة إلى الشرق والشمال من جزيرة العرب وإلى مصر. وتبع هذا التوسع نزوح قبائل عديدة إلى المناطق التي سيطرت عليها الجيوش الإسلامية.
وقد نزحت قبيلة تميم إلى جنوب العراق وإلى يومنا هذا تتمتع قبيلة تميم، أو بالأحرى أحفادهم بنو كعب، بعدد كبير في محافظة البصرة وهم الأغلبية الساحقة إلى عهد قريب في الأهواز (الأحواز) أي خوزستان الفارسية ولذلك يطالب بعض العرب بعودة الأهواز إلى العراق ويسمونه بالقطاع المسلوب. وأنا شخصيًا لا أحبذ ذاك وأنادي بترك الأمر إلى سكان المنطقة.
ونزحت قبيلة كنانة إلى ضفاف النيل ولذلك سُمي النيل بوادي الكنانة. أما بنو هلال فلهم تاريخ طويل في الجزيرة العربية وخاصة في العراق حيث ناصروا ثورة القرامطة ضد الخلفاء العباسيين فاضطروا إلى اللجوء لدى الفاطميين في مصر طمعًا في الحصول على إقطاعهم أرضًا فيها فحلّوا في شمال الصعيد ولكن تجاوزاتهم الكثيرة وفوضاهم أدت إلى إجلائهم عن أرض مصر فنزحوا غربًا في أواسط القرن الحادي عشر لأن حكام المناطق الغربية أرادوهم لحماية مناطقهم ولجباية الضرائب لأنهم سمعوا عن شجاعتهم، وقوة أبدانهم وجلدها، وصبرهم أيام الشدة، وبلائهم في المعارك. وأكثرية الهلاليين بلغوا تونس وسكنوا فيها واختلطوا بسكان تلك البلاد. وخلفت هذه الهجرة القصة الفولكلوية المشهورة "تغريبة بني هلال" و"قصة أبي زيد الهلالي". ولهذا تعتبر تونس أكثر اختلاطًا بالعرب في الشمال الإفريقي عدا وادي النيل.
وانا واثق أن فلاحًا عراقيًا بعد الحمد والشكر والسلام لن يستطيع أن يفهم شيئًا مما يقوله زميله الفلاح المغربي. وأنا أقول إن ما يقوله العراقي هي لغة عراقية وإن ما يقوله المغربي هي لغة مغربية لأن علماء اللغويات يقولون إن الحد الفاصل بين لغتين هو عدم التفاهم. هذا هو الفارق بين اللهجة واللغة. كلتا اللغتين من أصل واحد. وهذا هو الفرق بين الفرنسية والطليانية والإسبانية وأصل الثلاث واحد وهو اللاتينية. فما أشبه الليلة بالبارحة. في اعتقادي أن الطالب في المدرسة الابتدائية سيكتب في دفتره خليطًا من الإملاء الكلاسيكي الفصيح والإملاء العامي إلى أن يتوحد الاملاء في جميع الأقطار العربية. وقد يكون من الأفضل للغة الضاد أن تتوحد لأجل الحفاظ على الشخصية العربية والدفاع عنها. وكلما أستمع لقصيدة هشام الجخ "التأشيرة" تعصف بي موجة من الغضب والغليان على أولياء الأمر في بلادنا. لقد كان بالإمكان تقريب اللهجات العربية لو رفع المسؤولون الحواجز بين الأقطار المنتمية لما يسمى الجامعة العربية. ومن الضروري اليوم أن نطالب من أولياء الامر برفع الحواجز والتأشيرات ويكون التعامل مع جميع الناس في هذه المنطقة على أساس هوية الولادة.
كون العامية لغة مكتوبة ومتداولة ليس غريبًا، فاللغة المالطية في الأساس إحدى اللهجات العربية أما نحوها وقواعدها فيشبهان اللهجات الشامية وفيها كثير من الكلمات الطليانية والإنكليزية. وهي لغة مكتوبة ومتداولة ومعترف بها ولها شعرها وأدبها. وللتأثير الكبير للغة الطليانية على أهل مالطا فضلت هذه اللغة الكتابة بالحروف اللاتينية.
الفصحى لن تحتضر ليس فقط لأن اللاتينية لم تحتضر ولكن الفصحى بالإضافة الى ذلك مرتبطة بالقرآن وبالصلاة والشعائر الإسلامية وبالتجويد. ثم أنها تُدرس كلغة من الصف الأول حتى التخرج من الجامعة. ولكن هذه اللغة بحكم الفروق الكبيرة بين لهجاتها يجب أن تتغير ونترك الآن نحو اللغة وإملاءها إلى أولي الأمر في كل منطقة من المناطق.
الاستعمال اليومي هو الذي يعطي لأي لغة الغذاء الذي تعيش به وغير ذلك يذبل ويذوي ويموت. واللغة العربية التي نستعملها اليوم في الكتابة والخطابات لن تستطيع أن تعيش بعد مدة طالت أو قصرت لأنها لغة صعبة وتعلمها أصعب. وستأتي بدلها لغة أسهل استعمالا وأبسط نحوًا ونطقًا. وكثير من المتزمتين سيرفضون ما أقول ولكنني أرى أن البداية قد بدأت فعلاً.