تقدم "جدلية" للقراء العرب مقالات مختارة تشكل إضافة فكرية في حقلها، في مجال الفكر والفلسفة والسياسة والأدب، تحت عنوان "مقالات تأسيسية".
المقالات تتجاوز الكتابة الصحافية إلى كونها تحليلاً فكرياً يحفز على طرح أسئلة جديدة حول الموضوع المناقش، ويهدف إلى تقديم فكر تنويري مختلف يقدم للقارىء مادة تضيء له مساحات في الفكر والواقع غير مألوفة. وهذه المقالات التأسيسية التي يشرف عليها أسامة إسبر، ستُترجم من لغات مختلفة كالإنكليزية والإسبانية والفرنسية والإيطالية، كي تقدم فكرة متكاملة عن الفتوحات الفكرية في هذه البلدان وتطور فن المقالة الذي يقدم أفكاراً جديدة في حقول مختلفة. ستنشر جدلية المقالات بشكل منتظم، من أجل تعميم الفائدة على القراء وبناء جسور مع ثقافة الآخر.
الروح والجسد
برتراند رسل، فيلسوف بريطاني
إن علم النفس هو الأقل تقدماً بين كل فروع المعرفة العلمية الأكثر أهمية، وتعني كلمة سيكولوجيا استناداً إلى اشتقاقها «نظرية الروح»، إلا أن الروح نادراً ما تُعتَبر مفهوماً علمياً رغم أنها مألوفة لعلماء اللاهوت.
لن يقول أي عالم نفس إن موضوع دراسته هو الروح ولكن حين يُسأل عنها لن يكون من السهل عليه أن يقدم جواباً. سيقول البعض إن علم النفس معنيٌّ بالظواهر الذهنية إلا أنهم سيحتارون إذا طُلبَ منهم أن يحددوا في أي مجال (إذا كان يوجد) تختلف الظواهر الذهنية عن تلك التي تقدم معلومات الفيزياء. تأخذنا المسائل السيكولوجية الجوهرية بسرعةٍ إلى أقاليم الشك الفلسفي وإنه لأكثر صعوبة في العلوم الأخرى تجنب الأسئلة الأساسية بسبب ندرة المعرفة التجريبية الدقيقة.
بيد أنه أُنجِزَ شيء ما ونُبِذت معظم الأخطاء القديمة التي ارتبط الكثير منها بعلم اللاهوت إما كسبب أو كنتيجة إلا أن الاتصال لم يكن، كما في القضايا التي ناقشناها إلى الآن، مع نصوص معينة أو أخطاء توراتية تتعلق بمسألة الحقيقة، كان بالأحرى اتصالاً مع العقائد التي اعتُقِدَ لسببٍ أو آخر أنها ضروريةً للعقيدة الأرثوذكسية.
للروح كما نوقشت في الفكر اليوناني أصل ديني رغم أنه ليس مسيحياً. تتأصَّل في تعاليم الفيثاغوريين الذين آمنوا بالتقمص وهدفوا إلى خلاص مُطلق قوامه الانعتاق من العبودية للمادة. هذه العبودية التي يجب أن تعاني منها الروح طالما هي مرتبطة بالجسد. أثر الفيثاغوريون في أفلاطون الذي أثر بدوره في آباء الكنيسة، وبهذه الطريقة أصبح مبدأ الروح كشيء مختلفٍ عن الجسد جزءاً من العقيدة المسيحية. وجاءت تأثيرات أخرى من أرسطو والرواقيين إلا أن الأفلاطونية، وخاصة في صيغتها الأخيرة، كانت العنصر الوثني الأكثر أهمية في فلسفة آباء الكنيسة.
تكشف لنا قراءة أفلاطون أن عقائد مشابهة جداً لتلك التي عَلمتها المسيحية كانت مُعتنقة على نطاق واسع في زمنه من قبل العامة لا الفلاسفة. تقول شخصية في كتاب الجمهورية: «تأكد يا سقراط بأنه حين يقتنع إنسان بأنه سيموت يشعر بالرعب ويهتمُّ بأشياء لم تؤثر به أبداً من قبل، سيكون قد سخر حتى ذلك الوقت من القصص التي تُروى عن الراحلين وتخبرنا بأن من أخطأ هنا سيعاني من أجل ذلك في العالم الآخر، ويعذب ذهنه الآن الخوف من إمكانية صحة هذه القصص».
نعلم من مقطع آخر «أن النِعَم التي يمثل موسوس وابنه يومولبس الآلهة وهي تمنحها للعادلين، ما تزال أكثر إبهاجاً من تلك،( أي الثروات على الأرض) لأنها تحضرهم إلى هيدز (دار الظلال) وتصفهم بأنهم يجلسون على مقاعدهم في وليمةٍ للورعين وحول رؤوسهم أكاليل معقودة يمضون الأبدية كلها في معاقرة الخمر». ويظهر أن موسوس وأورفيوس نجحا «ليس في إقناع الأفراد فحسب، بل المدن كلها أيضاً، بأن البشر يمكن أن يُخلَّصوا ويُطهَّروا من الجرائم بينما هم أحياء وحتى بعد موتهم عن طريق تضحياتٍ معينة وتسليات ممتعة يدعونها أسراراً، تخلصنا من عذابات العالم الآخر، بينما يعاقب على إهمالها بمصير مريع». ويقر سقراط نفسه، في «الجمهورية» بأن عالم الآخرة يجب أن يُصور بأنه جميل من أجل التشجيع على البسالة في الحرب ولكنه لم يقل إن كان يؤمن بأن هذه هي الحقيقة.
إن عقيدة الفلاسفة المسيحيين التي كانت أفلاطونية في العالم القديم، أصبحت أرسطية بشكلٍ رئيس بعد القرن الحادي عشر. ويبقى توما الأكويني (١٢٢٥-٧٤) الذي يُعتَبَرُ رسمياً أفضل السكولاستيين إلى هذا اليوم مقياس الأرثوذكسية الفلسفية في الكنيسة الكاثوليكية الرومانية، وكان يجب على المدرسين في المؤسسات التربوية التي أشرف عليها الفاتيكان، بينما هم يشرحون آراء ديكارت ولوك وكانط أو هيجل من باب الاهتمام التاريخي، أن يوضحوا أن المنظومة الوحيدة الصحيحة هي منظومة «الطبيب الساروفي». وكان أقصى إذن يُسمح به هو أن يفترض، كما يفعل مترجمه، بأنه يمزح حين يناقش ما يحدث عند انبعاث جسد آكل لحم بشر يكون والده وأمه من أكلة لحم البشر. ومن الجلي أن البشر الذين أكلهم هو ووالده يمتلكون حقاً مسبقاً باللحم الذي يؤلف جسمه، بحيث سَيُترَك معوزاً حين يطالب كل بما هو له. وهذه صعوبة حقيقية تواجه أولئك الذين يؤمنون بانبعاث الجسد الذي أكده قانون الإيمان المسيحي. إن من علائم الضعف الفكري للأرثوذكسية في عصرنا أنها يجب أن تستبقي العقيدة وتعامل النقاش الجدي حول مشاكل محرجة مرتبطة بها على أنه مجرد مزحة. ويمكن أن يُرى كم هو الاعتقاد حقيقي في الاعتراض على حرق الجثث المشتق منه، الذي يؤمن به كثيرون في البلدان البروتستانتية والبلدان الكاثوليكية، حتى المتحررة منها كفرنسا. حين أُحرقت جثة أخي في مرسيليا أبلغني متعهد دفن الموتى أنه نادراً ما قام بعملية حرق في السابق بسبب الآراء اللاهوتية المسبقة. اعتُقِدَ بأن كلي القدرة سيواجه صعوبة في إعادة تجميع أجزاء الجسم البشري حين يصبح منتشراً كالغازات وسيكون الأمر أسهل عليه إذا بقي الجسم في ساحة الكنيسة في شكل طين ودود. إن وجهة نظر كهذه، إذا كان عليّ أن أعبّر عنها، ستكون علامة على الهرطقة، وهذا هو في الحقيقة الرأي المنتشر بين أكثر الأرثوذكسيين ثباتاً.
يُنظر إلى الروح والجسد في الفلسفة السكولاستية (التي ما تزال فلسفة روما) على أنهما جوهران. إن الجوهر فكرة مشتقة من بناء الجمل وبناؤها مشتق من الميتافيزيقيا اللاواعية للسلالات البدائية التي حددت بنية لغاتنا، وتُحلل الجمل إلى مبتدأ وخبر ويُعتَقَدُ أنه بينما يمكن أن تخطر بعض الكلمات إما كخبر أو مبتدأ، يوجد أخرى (بمعنى ليس واضحاً جداً) يمكن أن تأتي فقط كمبتدأ. هذه الكلمات (وأفضل مثال عليها أسماء العلم) يُفترض أن تدل على جواهر. والكلمة الشعبية للفكرة نفسها هي الشيء أو الشخص حين تُطبَّق على الكائنات البشرية. إن المفهوم الميتافيزيقي للجوهر هو مجرد محاولة لمنح الدقة لما يعنيه الوعي العام بالشيء أو الشخص. لنأخذ مثلاً، يمكن أن نقول: كان سقراط حكيماً، كان سقراط يونانياً، علّم سقراط أفلاطون... الخ. في جميع هذه التعابير نحن نضفي صفات مختلفة على سقراط، إن كلمة سقراط لها المعنى نفسه بالضبط في جميع هذه الجمل، أما سقراط الإنسان فهو شيء مختلف عن صفاته، شيء يقال إن الصفات تلازمه. تمكننا المعرفة الطبيعية من معرفة شيء عن طريق صفاته فقط، ولو كان سقراط يمتلك توأماً يتمتع بالمواصفات نفسها تماماً لما قدرنا على التمييز بينهما. ويتجلى هذا على نحو أكثر وضوحاً في عقيدة القربان المقدس، وفي تحول خبز القربان وخمره إلى جسد المسيح ودمه، تبقى مواصفات الخبز إلا أن الجوهر يصبح جسد المسيح. وفي فترة صعود الفلسفة الحديثة واجه جميع المبدعين من ديكارت إلى ليبنتز (عدا سبينوزا) من صعوبات كثيرة وهم يحاولون أن يبرهنوا أن آراءهم متوافقة مع استحالة خبز القربان وخمره إلى جسد المسيح ودمه. وترددت السلطات المرجعية فترة طويلة جداً إلا أنها قررت أخيراً أن الأمان يوجد في السكولاستية فقط.
وهكذا ظهر، بصرف النظر عن الوعي، أننا لا نستطيع أبداً أن نتأكد فيما إذا كان شيء أو شخص شوهد في أحد الأوقات متماثلاً أم لا مع شيء أو شخص مشابه شوهد في وقت آخر. كنا في الحقيقة معرضين لخطر ملهاةٍ مستمرة من الأخطاء، وبتأثير من لوك قام أتباعه بخطوةٍ لم يجرؤ عليها هو. أنكروا الفائدة الكلية لفكرة الجوهر. قالوا إن سقراط، كما نعرفه هو معروف بصفاته. حين تقول أين ومتى عاش وكيف كان شكله وما الذي فعله... الخ، فأنت تقول كل ما يمكن أن يُقال عنه ولا توجد حاجة لافتراض جوهر غير معروف بشكل تام تكون فيه صفاته ملازمة كالدبابيس في وسادة الدبابيس. إن ما هو غير معروف بشكل مطلق وأساسي لا يمكن حتى أن يُعرف بأنه موجود، ولا يوجد معنى في افتراض أنه يوجد.
استبقى ديكارت وسيبنوزا وليبنتز وأيضاً لوك (رغم أنه فعل ذلك بتأكيدٍ ضعيف جداً) مفهوم الجوهر كشيء يمتلك صفاتٍ. رفضه هيوم وأقصي بالتدريج من علم النفس والفيزياء. أما بالنسبة للطريقة التي حدث فيها هذا فسيُقال فيها الكثير في الوقت الحاضر، أما الآن فيجب أن تهمّنا المضامين اللاهوتية للعقيدة والصعوبات الناجمة عن رفضها. خذ أولاً الجسم. طالما استبقي مفهوم الجوهر، فإن انبعاث الجسد كان يعني إعادة جمع الجوهر الفعلي الذي شكله حين كان حياً على الأرض. يمكن أن يكون الجوهر قد مرّ في تحولاتٍ كثيرةٍ إلا أنه احتفظ بهويته. على أي حال، إذا لم تكن قطعة من المادة شيئاً سوى حاصل جمع مواصفاتها فإن هويتها تضيع حين تتغيّر الصفات، ولن يوجد معنى في قول إن الجسم السماوي هو بعد الانبعاث الشيء نفسه الذي كان مرة جسداً أرضياً. إن هذه الصعوبة تمكن مقارنتها مع ما يحدث في الفيزياء الحديثة. إن ذرةً مع إلكتروناتها الحاضرة عرضة لتحولات مفاجئة، والإلكترونات التي تظهر بعد التحول لا يمكن مماثلتها مع تلك التي ظهرت من قبل. إن كل عملية هي فقط طريقة تجميع ظواهر قابلة للملاحظة، ولا تمتلك نوع الواقعية الذي يتطلبه حفظ الهوية أثناء التغيّر.
كانت نتائج هجر الجوهر أكثر خطورة من حيث الروح أكثر مما هو الأمر من حيث الجسد. ولقد أظهرت نفسها، على أية حال، بشكل متدرج جداً لأن أشكالاً متنوعة موهنة للعقيدة القديمة أعتُقِدَ مرة أنه يمكن الدفاع عنها. أولاً استبدلت كلمة روح بكلمة ذهن من أجل تجنّب المضامين اللاهوتية ثم جاءت كلمة ذات، وما تزال هذه الكلمة موجودة خصوصاً في التغاير المفترض بين الذاتي والموضوعي، بالتالي يجب أن تقال بعض الكلمات عن الذات.
من الواضح وجود شعور ما بأنني الشخص نفسه الذي كنته بالأمس. لنأخذ مثالاً أوضح، إذا رأيتَ رجلاً وسمعته يتحدث في الوقت نفسه، يتولد شعور ما تكون فيه الأنا التي تشاهد هي الأنا نفسها التي تسمع، وهكذا أعتقد أنه حين أدرِكُ أيَّ شيء، فإن ثمة علاقة بيني وبين الشيء: أنا المُدرك هو الذات والشيء المُدرَك هو الموضوع، وتبيّن لسوء الحظ أنه لا يمكن أن يُعرَف أيّ شيء عن الذات: كانت دائماً تدرك أشياء أخرى، إلا أنها لم تستطع أن تدرك نفسها. أنكرَ هيوم بجرأةٍ وجود شيء اسمه الذات، إلا أن هذا لن يفيد أبداً. إذا لم تكن الذات موجودة فما هو الشيء الذي كان خالداً؟ ما الذي كان يمتلك إرادة حرة؟ من الذي أذنب على الأرض وعوقب في الجحيم؟ لم يجب هيوم على هذه الأسئلة ولم يرغب بالبحث عن جواب إلا أن الآخرين كانوا يفتقرون إلى جرأته.
ظن كانط الذي انبرى لإجابة هيوم أنه عثر على طريقةٍ للخروج من المأزق اعتبرت عميقةً بسبب غموضها. قال: إن الأشياء في عملية الإحساس تؤثر بنا إلا أن طبيعتنا ترغمنا على أن ندرك لا الأشياء كما هي في ذاتها بل شيئاً آخراً ينتج عن كوننا قمنا بإضافاتٍ ذاتية متنوعة، الأكثر أهمية بين هذه الإضافات هما الزمان والمكان. إن الأشياء بذاتها، استناداً إلى كانط، ليست في الزمان والمكان، رغم أن طبيعتنا ترغمنا على رؤيتها وكأنها موجودة فيهما. إن الأنا، أو (الروح) كشيء في ذاته، هي أيضاً ليست في الزمان أو المكان، رغم أنها كظاهرة قابلة للملاحظة تظهر في كليهما. إن ما نلاحظه في الإدراك هو ارتباط ذات استثنائية بجسم استثنائي ولكن وراءهما ثمة ذات حقيقية وشيء حقيقي في ذاته، لا يمكن أبداً أن يُلاحظ أي منهما. لماذا نفترض إذاً أنهما يوجدان؟ لأن هذا ضروري للدين والأخلاق. ورغم أننا لا نستطيع عن طريق الوسائل العلمية أن نعرف أي شيء عن الذات الحقيقية، نعرف أنها تمتلك إرادة حرة، تستطيع أن تكون فاضلة أو خطّاءة وأنها (رغم أنه ليس في الزمن) خالدة وأن الظلم الظاهر لمعاناة الخيّرين على الأرض يجب أن يُعَوَّض بمتع الفردوس. وعلى أرضيات كهذه رأى كانط (الذي اعتقد أن العقل المحض لا يستطيع أن يبرهن على وجود الله) بأن العقل العملي يستطيع القيام بذلك بما أن هذا كان نتيجة ضرورية لما نعرفه حدسياً في حقل الأخلاق.
كان مستحيلاً بالنسبة للفلسفة أن تستريح طويلاً في منزل يقع في منتصف الطريق وبرهنت الأجزاء التشكيكية في مذهب كانط على قيمة أكثر استمرارية من تلك الموجودة في الأجزاء التي حاول فيها أن ينقذ الأرثوذكسية. وتبيَّنَ حالاً أنه لا توجد حاجة لافتراض وجود الشيء في ذاته، الذي كان فقط الجوهر القديم مع تأكيد عدم إمكانية معرفته. إن الظواهر التي يمكن أن تُلاحظ في فلسفة كانط هي فقط ظاهرة، والحقيقة التي وراءها هي شيء يجب أن نعرف عنه فقط الوجود المجرد، إذا لم يتعلق الأمر بمسلمات علم الأخلاق، أما بالنسبة لخلفائه (بعد أن وصل الخط الفكري الذي اقترحه إلى ذروته في هيغل) فقد أصبح بيّناً أن الظواهر تمتلك أية حقيقة نستطيع أن نعرفها عنها وأنه لا حاجة لافتراض صفة واقعية متفوقة تنتمي إلى ما لا يمكن إدراكه. يمكن أن توجد حاجة لافتراض صفة واقعية متفوقة تنتمي إلى ما لا يمكن إدراكه. يمكن أن توجد طبعاً سمة واقعية متفوقة كهذه إلا أن الحجج التي تبرهن أنه يجب أن توجد هكذا سمة غير صالحة وبالتالي فإن الاحتمال واحد من تلك الاحتمالات الظاهرة التي لا تُحصى ويجب تجاهلها لأنها تقع خارج حقل ما هو معروف أو ما يمكن أن يُعرف فيما بعد. وداخل حقل ما يمكن أن يُعرف ليس هناك مكان لمفهوم الجوهر أو لتعديله في صيغة ذات أو موضوع. إن الحقائق الرئيسة التي نستطيع ملاحظتها لا تمتلك ثنائية كهذه ولا تُقدم أي سببٍ لاعتبار الأشياء أو الأشخاص، كأي شيء سوى مجموعات من الظواهر.
اكتُشف أثناء دراسة علاقات الروح والجسم أن الصعوبة لا توجد فقط في المصالحة بين مفهوم الجوهر والفلسفة الحديثة بل تكمن أيضاً في ما يتعلق بالسببية.
دخل مفهوم السببية إلى علم اللاهوت بشكل رئيس متصلاً مع الخطيئة. كانت الخطيئة من صفات الإرادة والإرادة سبب الفعل. لكن الإرادة لا تستطيع بنفسها أن تكون دائماً نتيجة أسباب سابقة بما أنه فيما لو كانت لن نكون مسؤولين عن أفعالنا، وبالتالي من أجل حماية مفهوم الخطيئة كان من الضروري أن تكون الإرادة «على الأقل أحياناً» غير ناجمة عن سبب ويجب أن تكون سبباً. استلزمَ هذا عدداً من الفرضيات في ما يتعلق بتحليل الحوادث الذهنية والعلاقات بين الذهن والجسد وأصبح من الصعب جداً تأكيد هذه الفرضيات مع مرور الزمن.
نجمت الصعوبة الأولى من خلال اكتشاف قوانين الميكانيكا. تبين أثناء القرن السابع عشر أن القوانين التي بدا أن التجريب والملاحظة يظهران صحتها كانت تلك التي تحدِّد تماماً جميع حركات المادة. ولم يظهر سبب لاستثناء أجسام الحيوانات أو البشر. وتوصل ديكارت إلى استنتاج أن الحيوانات ذاتية الحركة ولكنه كان ما يزال يعتقد أن الإرادة تستطيع أن تسبب حركاتٍ جسدية لدى البشر. وأظهر تقدم الفيزياء بسرعةٍ أن توفيقيته مستحيلة وترك أتباعه وجهة النظر القائلة بأن الذهن يستطيع إحداث تأثير في المادّة. حاولوا أن يعدلوا في الأمر مؤكدين، على العكس، بأن المادّة لا تستطيع أن تؤثر في الذهن، وقادهم هذا إلى نظرية سلسلتين متوازيتين، ذهنية وجسدية تمتلك كلٌّ منهما قوانينها الخاصة. حين تقابل إنساناً وتقرر أن تقول له: مرحباً، فقرارك ينتمي إلى السلسلة الذهنية، إلا أن حركات الشفتين واللسان والحنجرة التي يبدو أنها تنتج عنها هي في الحقيقة تمتلك أسباباً آلية خالصة. قارن الذهن والجسم بساعتين مؤقتتين التوقيت نفسه، حين تصلان إلى الساعة المحدّدة ترنان معاً، رغم أنه لا يوجد تأثير للواحدة على الأخرى. إذا استطعت أن ترى إحدى الساعتين وعرفت الأخرى عن طريق رنينها فقط ستظن أن التي رأيتها هي التي رنّت.
من الصعب تصديق هذه النظرية ويعترضها عائقُ أنها لم تستطع إنقاذ الإرادة الحرة. لقد افتُرض أنه يوجد تراسل تام بين حالات الجسم وحالات الذهن، بحيث حين تُعرفُ إحداهما يمكن استنتاج الأخرى نظرياً. إن الإنسان الذي عرفَ قوانين هذا التراسل وأيضاً قوانين الفيزياء كان بوسعه لو امتلك معرفة ومهارة كافيتين أن يتنبأ بالحوادث الذهنية والجسدية أيضاً. على أية حال، إن الخيارات الذهنية كانت بلا فائدة لو لم تتبعها التجليات الجسدية. لقد حدّدت قوانين الفيزياء متى ستقول مرحباً، بما أن هذا فعلٌ جسدي. وسيقدم الاعتقاد بأنك تقول وداعاً بدافع من الإرادة عزاءً قليلاً لو كان مقدراً عليك أن تقول العكس. ليس مفاجئاً بالتالي أن المذهب الديكارتي أفسح الطريق في فرنسا في القرن الثامن عشر للمادية الخالصة التي عومل فيها الإنسان بأنه محكوم بقوانين الفيزياء كلياً. ولم يعد للإرادة أي مكان في هذه الفلسفة واختفى مفهوم الخطيئة. لا توجد روح، وبالتالي ما من خلود إلا خلود الذرات المنفصلة التي اجتمعت معاً بشكل مؤقت في الجسم البشري. إن هذه الفلسفة التي افتُرض أنها ساهمت في غلو الثورة الفرنسية أصبحت مثيرةً للرعب بعد عهد الإرهاب، بصورة أولية لجميع المتحاربين في فرنسا، ثم بعد ١٨١٤ لجميع الفرنسيين الذين دعموا الحكومة. عادت إنكلترا إلى الأرثوذكسية، وتَبَنّت ألمانيا الفلسفة المثالية لخلفاء كانط ثم جاءت الحركة الرومانسية التي أحيتْ العواطف ولم تحبذ سيطرة الصيغ الرياضية على الأفعال الإنسانية.
أما في مجال علم وظيفة الأعضاء البشرية فقد لجأ الذين كرهوا المادية إما إلى اللغز أو إلى القوة الحيوية. اعتقد البعض أن العلم عاجز عن فهم الجسم الإنساني، وصرّح آخرون بأنه يستطيع فعل ذلك باستحضار مبادئ غير مبادئ الكيمياء والفيزياء. لا تحظى أيٌّ من وجهتي النظر هاتين بقبول واسع بين علماء البيولوجيا رغم أن الثانية ما تزال تمتلك بعض الداعمين. إن العمل الذي أنجز في علم الأجنة وفي الكيمياء الحيوية وفي الإنتاج الاصطناعي للمركبات العضوية يجعل من المرجح كثيراً جداً أن خصائص مادة حيّة يمكن أن تُشرح بشكل كاملٍ كيميائياً وفيزيائياً.
لقد جعلت نظرية التطور من المستحيل بالطبع افتراض أن المبادئ القابلة للتطبيق على الأجسام الحيوانية غير قابلة للتطبيق على الكائنات البشرية.
لنعد إلى علم النفس ونظرية الإرادة: كان واضحاً دوماً أن كثيراً وربما معظم أفعالنا الاختيارية لها علل، إلا أن الفلاسفة الأرثوذكسيين أكدوا أن هذه العلل، على عكس الموجودة في العالم المادي، لا توجب (تحتم) تأثيراتها. وأكدوا أنه من الممكن دائماً مقاومة حتى الرغبات الأكثر قوة بفعل الإرادة الصرف. وهكذا أعتقد أنه حين يرشدنا الهوى فإن أفعالنا ليست حُرّة، بما أنها تمتلك عللاً، ولكن بسبب وجود مقدرة تُدعى أحياناً العقل وأحياناً الضمير، والتي حين نتبع إرشادها تمنحنا الحرية الحقيقية. إن الحرية الحقيقية كتعارض مع النزوة عُرفت بأنها طاعة القانون الأخلاقي وقام الهيغيليون بخطوة إضافية وعرفوا القانون الأخلاقي بأنه قانون الدولة بحيث أصبحت الحرية الحقة هي طاعة الشرطة، ولقد أحبَّت الحكومات هذه العقيدة كثيراً.
كانت النظرية القائلة بأن الإرادة غير ناجمة عن علة أحياناً صعبة التأكيد. لا يمكن أن يُقال أنه حتى الأفعال الأكثر استقامةً تحدث بدون حافز. يمكن أن يرغب إنسان بأن يرضي الله، أن يحظى بإطراء جيرانه أو بإطرائه هو، أن يرى الآخرين سعداء أو يخفف الألم. إن أياً من هذه الرغبات يمكن أن تسبب فعلاً حسناً ولكن إذا لم تحل رغبة حسنة في إنسان فإنه لن يفعل الأشياء التي يستحسنها القانون الأخلاقي. إننا نعرف أكثر مما عرفنا سابقاً بكثير عن علل الرغبات. يمكن أن يُعثر عليها في الغدد الصماء وفي التربية المبكرة وأحياناً في تجارب منسية وأحياناً في رغبات الاستحسان... الخ. في معظم الحالات يساهم عدد من الأسباب المختلفة في توليد رغبةٍ. من الواضح أنه حين نتخذ قراراً فإننا نقوم بذلك نتيجة رغبة معينة رغم أنه يمكن أن يوجد في الوقت نفسه رغبات أخرى تدفعنا في اتجاهٍ معاكس. في هذه الحالات، كما يقول هوبز إن «الإرادة آخر ما يتم التفكير به». وهكذا لا يمكن الدفاع عن فعل إرادة غير ناجم عن سبب بشكل كامل. سنهتم بنتائج هذا في علم الأخلاق في فصل لاحق.
حين أصبح علم النفس والفيزياء أكثر علمية أخلت مفاهيمهما التقليدية المكان لمفاهيم جديدة قادرة على تقديم دقةٍ أكبر. كانت الفيزياء حتى وقتٍ متأخر جداً مكتفيةً بالمادة والحركة، وكانت المادة بالمعنى التقني جوهراً بالمعنى القروسطي، كيفما نُظِرَ إليها في اللحظات الفلسفية. واكتُشف الآن أن المادة والحركة غير صالحتين حتى تقنياً، وتوافق النهج النظري لعلماء الفيزياء كثيراً مع متطلبات الفلسفة العلمية. ويجد علماء النفس، على نحو مماثل، أنه من الضروري التخلي عن مفاهيم مثل «الإدراك» والوعي لأنهم اكتشفوا أنها غير قادرة على أن تمنح الدقة. ومن أجل توضيح ذلك سيكون من الضروري التحدث بضع كلمات عن كل منها.
يبدو الإدراك من النظرة الأولى دقيقاً بشكل كامل، فنحن ندرك الشمس والقمر والكلمات التي نسمعها منطوقة وخشونة أو نعومة الأشياء التي نلمسها ورائحة بيضة متعفنة أو طعم الخردل. لا نشك بهذه الحوادث التي نصفها الآن، إن الوصف فقط هو عرضة للشك. حين ندرك الشمس تحدث عملية سببية طويلة، أولاً في الثلاثة وتسعين مليون ميل من الفضاء الفاصل ثم في العين والعصب البصري والدماغ. إن الحدث الذهني النهائي الذي نسميّه رؤية الشمس لا يمكن أن يُفتَرَض أنه يتشابه كثيراً مع الشمس نفسها. إن الشمس مثلها مثل «الشيء في ذاته»، لكانط تبقى خارج تجربتنا ولا يمكن أن تُعرف إذا كان هذا ممكناً إلا عن طريق استدلال صعب من التجربة التي ندعوها «رؤية الشمس». نفترض بأن الشمس تمتلك وجوداً خارج تجربتنا لأن بشراً كثيرين يرونها حالاً، ولأن جميع أنواع الأشياء، كضوء القمر، تشرح ببساطة أكبر بافتراض أن الشمس تحدث تأثيراتٍ في أمكنة لا يوجد فيها مراقبون. ولكننا لا ندرك الشمس بالمعنى المباشر والبسيط الذي يبدو من خلاله أننا نفعل هذا قبل أن نكون قد أدركنا الدور المادي الذي تلعبه الحواس في هذا. نستطيع أن نقول بعامة إننا «ندرك» شيئاً يحصل لنا أمر يكون السبب الرئيسيّ فيه هو هذا ، وهو من طبيعة تسمح لنا أن نقوم باستنتاجات حول الشيء. حين نسمع شخصاً يتحدث تتوافق الاختلافات في ما نسمعه مع الاختلافات في ما يقوله، إن تأثير الأداة المتداخلة مستمر ويمكن تجاهله تقريباً. وعلى نحو مشابه، حين نشاهد بقعة حمراء وبقعة زرقاء قرب بعضهما البعض، نمتلك الحق في أن نفترض وجود اختلافٍ ما بين المكانين الذين جاء منهما الضوء الأحمر والأزرق، رغم أنه لا يمكن افتراض أن هذا الاختلاف يشبه الاختلاف بين الإحساس باللون الأحمر والإحساس باللون الأزرق. يمكن أن نحاول بهذه الطريقة أن ننقذ مفهوم الإدراك، إلا أننا لن ننجح أبداً في جعله صحيحاً. تحدث الأداة دائماً تأثيراً مشوهاً: يمكن أن يبدو المكان الأحمر أحمر لأننا نرتدي نظارة ملونة. ولنقوم باستنتاجات عن الشيء الذي هو من نوع التجربة التي ندعوها الإدراك بشكل طبيعي يجب أن نعرف الفيزياء وعلم وظائف الأعضاء الحسية، ويجب أن نمتلك معلومات كاملة عن ما يوجد في الفضاء الفاصل بيننا وبين الشيء. بوجود هذه المعلومات وافتراض واقعية العالم الخارجي نستطيع أن نشتق معلوماتٍ عالية التجريد عن الشيء المدرك. إلا أن كل الدفء والوضوح المباشر المتضمنين في كلمة إدراك سيتلاشيان في عملية الاستدلال هذه بواسطة صيغ رياضية صعبة. وهذا ليس صعب المشاهدة بخصوص الأشياء البعيدة كالشمس. وهذا ينطبق على ما نلمسه ونشمه ونتذوقه، بما أن إدراكنا لأشياء كهذه عائد إلى عمليات معقدة تنتقل عبر الأعصاب إلى الدماغ.
ما يزال يُظن أحياناً، ودرجت العادة أن يُظن كونياً، أن الحقائق العلمية للفيزياء علنية، بمعنى أنها مرئية للجميع، بينما حقائق علم النفس خاصة كونه يُحصل عليها عن طريق الاستبطان
إن مسألة الوعي، هي بالأحرى أكثر صعوبةً. نقول إننا واعون، إلا أن العصي والأحجار ليست واعية، نقول إننا واعون حين نكون مستيقظين بيد أننا لسنا كذلك أثناء النوم. وأكيد أننا نعني شيئاً ما حين نقول هذا، ونعني شيئاً صحيحاً، ولكن أن نعبر بصحةٍ ما هو هذا الشيء الصحيح فتلك مسألة صعبة وتتطلب تغييراً للغة. حين نقول نحن واعون نعني أمرين: نعني من ناحية أولى أننا نتفاعل بطريقةٍ معينةٍ مع بيئتنا، ومن ناحيةٍ أخرى نبدو أننا نعثر لدى النظر في الداخل على نوعية ما في أفكارنا ومشاعرنا لا نجدها في الأشياء غير العاقلة. أما بالنسبة لتفاعلنا مع البيئة، فإن هذا يتألف من كوننا واعين لشيء ما. إذا قلت: مرحباً بصوت مرتفع سينظر الناس حولهم إلا أن الأحجار لن تفعل ذلك. وتعرف أنك حين تنظر حولك بنفسك بهذه الطريقة فإن السبب هو أنك سمعت صوتاً. طالما يمكن أن يُفترض أن المرء يدرك الأشياء في العالم الخارجي يستطيع المرء أن يقول إنه في الإدراك يكون المرء واعياً لها. نستطيع الآن أن نقول فقط إننا نتفاعل مع منبهات وهكذا تفعل الأحجار رغم أن المنبهات التي تستجيب لها هي أقل إلى هذا الحد، وبقدر ما يهمنا الإدراك الخارجي يكون الفرق بيننا وبين حجرٍ هو فرقُ درجة فقط. إن الجزء الأكثر أهمية في مفهوم الإدراك، يتعلق بما نكتشفه عن طريق الاستبطان فلا نستجيب لأشياء خارجية فحسب بل نعرف أننا نستجيب، نعتقد أن الحجر لا يعرف حين يستجيب ولكن إذا كان يعرف فهو يملك وعياً. وهنا أيضاً سيبدو الفرق بعد التحليل فرق درجة. أن نعرف أننا نرى شيئا ما ليس في الحقيقة معرفة جديدة بالإضافة إلى الرؤية، إلا إذا كانت تذكراً. إذا رأينا أولاً شيئا ما ثم أظهرنا حالاً أننا شاهدناه فإن التذكر الذي يبدو استبطاناً هو تذكر فوري ويمكن أن يُقال إن الذاكرة شيء ذهني بشكل متميز إلا أن هذا يمكن أن يُنكر مرة أخرى. إن الذاكرة شكل من أشكال العادة والعادة خاصية النسيج العصبي رغم أنها يمكن أن تحدث في مكان آخر، مثلاً في طية ورقةٍ تطوي نفسها ثانيةً إذا فُتِحت. لا أقترح أن ما ذُكِرَ هو تحليل كامل لما ندعوه بغموض الوعي. إن المسألة ضخمة وتتطلب مجلداً. أقصد فقط أن أقترح أن ما يبدو لدى النظرة الأولى تصوراً دقيقاً هو تماماً العكس وبأن علماء النفس العلميين مطالبون بمصطلحاتٍ فنية مختلفة.
يجب أن يُقال أخيراً إن الفرق القديم بين الروح والجسد تبخر كثيراً لأن المادة فقدت صلابتها، ولأن الذهن فقد روحيته. ما يزال يُظن أحياناً، ودرجت العادة أن يُظن كونياً، أن الحقائق العلمية للفيزياء علنية، بمعنى أنها مرئية للجميع، بينما حقائق علم النفس خاصة كونه يُحصل عليها عن طريق الاستبطان. إن هذا الفرق، على أية حال، فرق درجة. لا يمكن أن يدرك اثنان الشيء نفسه في الوقت نفسه لأن الفرق في وجهة نظرهما يُحْدث فرقاً ما في ما يشاهدانه: حين يتم تفحّص بيانات الفيزياء عن كثب سيتبيّن أنها تتمتع بنفس نوع الخصوصية التي تتمتع بها بيانات علم النفس، وأن شبه الدعاية هذا الذي تتمتع به ليس مستحيلاً تماماً في علم النفس
إن الحقائق التي تشكل نقطة انطلاق العلمين هي على الأقل متماثلة جزئياً. إن بقعة اللون التي نراها هي حقيقة (مسلمة) للفيزياء ولعلم النفس على حد سواء. إن الفيزياء تتقدم إلى مجموعة واحدة من الاستدلالات في سياقٍ من نوع ما، ويتقدم علم النفس إلى مجموعة أخرى في سياق من نوع آخر. يُمكن أن يقول المرء، رغم أن هذا سيطرح القضية بشكل يخلو من النضج، بأن الفيزياء تهتم بالعلاقات السببية خارج الدماغ ويهتم علم النفس بالعلاقات السببية داخل الدماغ مما يقصي في الحالة الثانية، تلك التي تكتشفها الملاحظة الخارجية لعالم الأعضاء الذي يفحص الدماغ. إن المعطيات بالنسبة إلى الفيزياء وعلم النفس هي حوادث تحصل بمعنى ما في الدماغ، تمتلك سلسلةً من الأسباب الخارجية يستقصيها علم النفس إلا أنه لا يوجد دليل على أي فرقٍ أساسي بين مقوِّمات العالم الجسدي والسيكولوجي. نحن نعرف أقل مما ظُن سابقاً عن عنهما إلا أننا نعرف ما يكفي للتأكد من أن «الروح والجسد لا يستطيعان العثور على مكان في العلم الحديث. ويبقى علينا أن نتحقق ما التأثير الذي تركته المبادئ الحديثة في علم وظائف الأعضاء وعلم النفس على مصداقية الإيمان الأرثوذكسي بالخلود».
وكما رأينا سابقاً، اعتقد المسيحيون وغير المسيحيين، المتحضرون والبرابرة، بأن الروح تبقى بعد موت الجسد. ومن بين اليهود في زمن المسيح آمن الفريسيون بالخلود بينما لم يؤمن بذلك الصدّوقيون الذين تمسكوا بالتقليد القديم. وكان للإيمان بالحياة الأبدية مكانة بارزة بشكلٍ دائم في الدين المسيحي. يستمتع البعض بالسعادة في الفردوس بعد فترة من المعاناة التطهيرية في المَطهَر، استنادا إلى المعتقد الكاثوليكي الروماني. ويعاني آخرون من عذاب لا ينتهي في الجحيم. وغالباً ما يميل المسيحيون الأحرار في الأزمنة الحديثة إلى وجهة النظر القائلة بأن الجحيم ليس أبدياً. واعتنق كثير من الكهنة وجهة النظر هذه في كنيسة إنكلترا منذ أن قرر مجلس شورى الملك في ١٨٦٤ أنه ليس مخالفاً للقانون أن يفعلوا ذلك. وحتى منتصف القرن التاسع عشر كان عدد المسيحيين الذين شككوا بحقيقة العقاب الأبدي قليلاً جداً. فقد كان الخوف من الجحيم (وما يزال إلى درجة أقل) مصدر القلق الأعمق الذي قلل كثيراً الراحة المستمدة من الإيمان بالبقاء. وشُجِّع الحافز على إنقاذ الآخرين من الجحيم كتبرير للاضطهاد، لأنه إذا استطاع هرطوق أن يجعل الآخرين يعانون من الخطيئة المميتة عن طريق تضليلهم فإن أية درجة من العذاب الأرضي لن تُعتَبر مفرطة إذا وُظفت لمنع نتيجة مروعة كهذه لأنه مهما كان نوع الفكر السائد الآن، اعتقد الجميع سابقاً، باستثناء أقلية صغيرة بأن الهرطقة تتعارض مع الخلاص.
لم يكن سبب انحسار الإيمان بالجحيم عائداً إلى أية حجج لاهوتية جديدة ولا إلى التأثير المباشر للعلم، بل إلى الانحسار العام للوحشية التي حدثت في القرنين الثامن والتاسع عشر. كان هذا جزءاً من الحركة نفسها التي قادت قبل الثورة الفرنسية بوقتٍ قصير إلى إلغاء التعذيب في كثيرٍ من البلدان، والتي قادت في أوائل القرن التاسع عشر إلى إصلاح قانون العقوبات الوحشي الذي ألحق العار بإنكلترا. وفي الوقت الحاضر، حتى بين أولئك الذين ما يزالون يؤمنون بالجحيم يُعتَقد أن عدد الذين حُكِمَ عليهم أن يتذوقوا عذاباته أقلّ بكثيرٍ مما اعُتِقدَ سابقاً. إن أهواءنا الأكثر وحشية تتخذ هذه الأيام طابعاً سياسياً وليس لاهوتياً. وإنها لحقيقة مثيرة للفضول أنه بينما أصبح الإيمان بالجحيم أقل انتشاراً فقد الإيمان بالفردوس حيويته. ورغم أن الفردوس جزء معترف به في الأرثوذكسية المسيحية، قيل عنه أقل بكثير مما قيل عن دلائل الهدف الإلهي في التطور. تعيش الحجج التي هي لصالح الدين الآن بسبب تأثيرها في تدعيم حياة جيدة هنا على الأرض أكثر مما تعيش بسبب صلتها مع الحياة في الآخرة. ذلك أن الاعتقاد بأن هذه الحياة مجرد تحضير لحياة أخرى، والذي أثر سابقاً في السلوك والأخلاق، توقف عن إحداث تأثيرٍ حتى في أولئك الذين لم يرفضوه بوعيٍ.
لا يمتلك العلم شيئاً محدداً جداً يقوله عن موضوع الخلود وهناك في الحقيقة خط واحد للجدل لصالح البقاء بعد الموت وهو على الأقل علمي على نحو مقصود بشكل كاملٍ. أعني بذلك خط النقاش المرتبط بالظواهر التي استقصاها البحث النفسي. ولا أمتلك أنا نفسي معرفة كافية بهذا الموضوع لأحكم على الدليل المتوفر ولكن من الواضح أنه يمكن أن يتوافر دليلٌ سيقنع البشر المتعقلين. على أية حال، يجب أن يضاف إلى هذا شروط معينة. أولاً، سيبرهن الدليل في أحسن الأحوال فقط أننا ننجو من الموت، وليس أننا ننجو منه إلى الأبد، ثانياً، حيث تتدخل الرغبات القوية من الصعب قبول دليل حتى الأشخاص الصائبين، توافرت أدلة كثيرة على هذا أثناء الحرب وفي جميع أوقات الإثارة الكبيرة. ثالثاً، إذا بدا على أرضيات أخرى أنه من غير المحبذ أن شخصياتنا لا تموت مع الجسد، فإننا سنحتاج إلى دليل عن البقاء أقوى بكثير من الذي سنحتاجه لو اعتقدنا أن الفرضية مرجحة. لا يستطيع حتى أكثر المتحمسين للإيمان بالروحانية أن يتظاهر بأنه يمتلك دليلاً عن البقاء كما يستطيع المؤرخون أن يستنتجوا ليبرهنوا أن الساحرات قمن بمبايعة جسدية مع الشيطان، لكن نادراً ما يعتبر أي شخص الآن دليل حوادث كهذه يستحقُ حتى الفحص.
تنشأ الصعوبة بالنسبة للعلم من حقيقة أنه لا يبدو أنه يوجد شيءٌ مثل الروح أو الذات. وكما رأينا، لم يعد ممكناً اعتبار الروح والجسد كجوهرين يمتلكان تلك الاستمرارية عبر الزمن التي اعتبرها الميتافيزيقيون مرتبطة منطقياً بمفهوم الجوهر. وليس هناك أي سبب في علم النفس لافتراض «ذات تتصل من خلال الإدراك بجسد». اعتُقِدَ حتى وقتٍ متأخر بأن المادة خالدة إلا أن تقنية الفيزياء لم تعد تفترض ذلك. إن الذرة الآن هي مجرد طريقة ملائمة لتجميع مصادفات معينة ومن الملائم أن نفكر إلى حد معين بالذرة كنواة ترافقها إلكترونات إلا أن الإلكترونات في وقت ما لا يمكن مماثلتها مع الإلكترونات في وقت آخر، وعلى أية حال لا يوجد عالم فيزياء حديث يعتقد أنها حقيقية. بينما ما يزال يوجد جوهر مادي افتُرض أنه أبدي. وكان من السهل المجادلة بأن الأذهان يجب أن تكون أبدية على حد سواء إلا أن هذه الحجة لم تكن قوية أبداً، ولا يمكن أن تستخدم الآن. أرجع علماء الفيزياء الذرة، لأسباب مقنعة، إلى سلسلة من الحوادث، ولأسباب جيدة على حد سواء يجد علماء النفس أن الذهن لا يمتلك هوية شيء مفرد مستمر، بل هو سلسلة من الحوادث تجمعها مع بعضها علاقات معيّنة عميقة، بالتالي أصبحت مسألة الخلود مسألة فيما إذا كانت هذه العلاقات العميقة تُوجد بين الحوادث المتصلة مع جسم حي وحوادث أخرى تحصل بعد أن يموت الجسم.
يجب أن نقرر أولاً قبل أن نحاول الإجابة على هذا السؤال ما هي العلاقات التي تجمع حوادث معينة مع بعضها البعض بطريقةٍ تجعلها الحياة الذهنية لشخص ما. من الجلي أن الأكثر أهمية هنا هو الذاكرة: الأشياء التي أستطيع أن أتذكر أنها حصلت معي أيضاً. يمكن أن يُعترض على أن شخصين يمكن أن يتذكرا الحدث نفسه، إلا أن هذا سيكون خطأ: لا يوجد اثنان يمكن أن يشاهدا بالضبط الشيء نفسه بسبب الاختلافات في موقعهما، ولا يمكن أن يكون لهما التجارب نفسها في السماع أو الشم أو اللمس أو التذوق. يمكن أن تشبه تجربتي تجربة شخص آخر إلى حد بعيد، إلا أنها تختلف دائماً عنها بدرجة أقل أو أكبر. إن تجربة كل شخص خاصة به، وحين تتألف إحدى التجارب من تذكر أخرى يقال بأن الاثنتين تنتميان إلى الشخص نفسه.
ثمة تعريف آخر للشخصية أقل سيكولوجية يشتقها من الجسم. سيكون تعريف ما يصنعُ هوية جسم حي في أوقاتٍ مختلفة معقداً إلا أننا سنسلم به جدلاً الآن. سنسلم أيضاً أن كل تجربة ذهنية معروفة لنا متصلة مع الجسم الحي نفسه. نستطيع عندئذٍ أن نعرف الشخص كسلسلةٍ من الحوادث الذهنية المتصلة بجسم مُعطى. هذا هو التعريف الجائز شرعاً. إذا ارتكب جسمُ جون سميث جريمةً وفي وقت لاحق اعتقلت الشرطة جسم جون سميث فإن الشخص الذي يسكن ذلك الجسم في وقت الاعتقال هو مجرم. تتعارض هاتان الطريقتان في تعريف الشخص في حالات ما يُدعى ازدواج الشخصية. في حالاتٍ كهذه ما يبدو للملاحظة الخارجية أنه شخص واحد هو ذاتياً منقسمٌ إلى اثنين، أحياناً لا يعرف أي منهما أي شيء عن الآخر، وأحياناً يعرف أحدهما الآخر، ولكن ليس العكس. في الحالات التي لا يعرف فيها أي منهما أي شيء عن الآخر، يوجد شخصان إذا استخدِمَت الذاكرة كتعريفٍ، ولكن يوجد واحد فقط إذا استخدم الجسم. هناك تدرج منتظم حتى الدرجة القصوى من ازدواج الشخصية، من خلال الغيبوبة والتنويم المغناطيسي والسير أثناء النوم. وهذا يولّد صعوبة أمام استخدام الذاكرة كتعريف للشخصية. لكن يبدو أن الذاكرات المفقودة يمكن استعادتها من خلال التنويم المغناطيسي أو في سياق التحليل النفسي، وهكذا ربما سنتمكن من قهر الصعوبة.
تدخل في الشخصية، بالإضافة إلى التذكر الفعلي، عناصر متنوعة أخرى متناظرة تقريباً مع الذاكرة كالعادات مثلاً التي تشكلت نتيجة التجربة الماضية. وبسبب أن الحوادث تستطيع أن تُشكل العادات حيث توجد حياة، تختلف التجربة عن كونها حدثاً مجرداً.تشكل التجاربُ الحيوانَ، وبشكل اكبر، الإنسانَ بطريقة لا تتشكل بها المادة الميتة.. إذا ارتبط حادث بآخر سببياً بتلك الطريقة المتعلقة بتشكيل العادة عندها ينتمي الحادثان إلى الشخص نفسه. هذا تعريف أكثر شمولاً من التعريف الذي يعتمد الذاكرة ويتضمن كلَّ ما تضمنه تعريف الذاكرة أكثر من ذلك بكثير. إذا كان علينا أن نؤمن ببقاء الشخصية بعد موت الجسم يجب أن نفترض وجود استمرارية ذكريات أو على الأقل عادات بما أنه، بطريقةٍ أخرى، لا يوجد سبب لافتراض أن الشخص نفسه يستمر. إلا أن علم وظائف الأعضاء يسبب الصعوبات في هذه النقطة. تنشأ العادة والذاكرة كلاهما عن تأثيرات على الجسم، وخصوصاً على الدماغ، ويمكن أن يُعتقد أن تشكيل العادة متناظر مع تشكيل مجرى مائي. الآن يمحو الموت والخراب التأثيرات في الجسم والتي تنشأ عنها العادات والذكريات ومن الصعب أن نرى دون معجزة كيف يمكن أن تُنقَل إلى جسم جديدٍ كالذي بوسعنا الافتراض بأننا سنسكنه في الحياة التالية. وإذا كنا سنصبح أرواحاً غير متجسدة فإن الصعوبة ستزداد وحسب. وفي الحقيقة أشك فيما إذا كانت روح غير متجسدة ممكنة بوجود وجهات النظر الحديثة عن المادة. إن المادة هي فقط طريقة معينة لجمع الحوادث بالتالي حيث يوجد حوادث توجد مادة. إن استمرار شخص ما أثناء حياة جسمه، إذا كانت تعتمد، كما أؤكد، على تشكيل العادة، يجب أن تعتمد أيضاً على استمرار الجسم. سيكون من السهل نقل مجرى مائي إلى السماء دون أن يفقد هويته، كما سيكون من السهل نقل شخص. إن الشخصية هي جوهرياً مسألة تنظيم أحداث معينة تجمعها مع بعضها البعض علاقات معينة تشكل شخصاً. ويعود التجميع إلى القوانين العلية (تلك المتصلة بتشكيل العادة التي تشمل الذاكرة) وتعتمد القوانين العلمية المعنية على الجسم. إذا كان هذا صحيحاً (ويوجد أسس علمية كثيرة لاعتباره صحيحاً) سيكون توقع بقاء الشخصية حية بعد تحلل الجسم مثل توقع بقاء نادٍ للكريكيت بعد أن يموت جميع أعضائه. لا أزعم أن هذه الحجة حاسمة. من المستحيل أن نتنبأ بمستقبل العلم، وخصوصاً علم النفس، الذي بدأ لتوه يصبح علمياً. يمكن أن تتحرر السببية السيكولوجية من اعتمادها الحالي على الجسم. ولكن في الحالة الحاضرة لعلم النفس ولعلم وظائف الأعضاء لا يستطيع الإيمان بالخلود بأي شكلٍ أن يدعي وجود دعم له من العلم، وتشير الحجج الممكنة حول الموضوع إلى الانقراض المرجح للشخصية أثناء الموت. يمكن أن نأسف على فكرة أننا لن نبقى إلا أنه من المريح أن نعتقد أن جميع المضطهدين والقتلة والدجالين لن يعيشوا إلى الأبد. يمكن أن يُقال لنا بأنهم سيتحسنون يوماً ما إلا أنني أشك في هذا.
[ترجمة أسامة إسبر، المصدر: Bertrand Russell, Science and Religion].