ما نحتاج إليه كي ننقذ أنفسنا

ما نحتاج إليه كي ننقذ أنفسنا

ما نحتاج إليه كي ننقذ أنفسنا

By : Osama Esber أسامة إسبر

(شذرات وأقوال)


-١-

من يتطوعون لإنقاذ الآخرين، ويهرعون إلى نجدة الضحايا والمحتاجين، هؤلاء هم أبطال الحياة الحقيقيون. الضوء الذي يتوهّج من أيديهم يعري رجال السياسة ورجال الدين والكذب الذي صار الروح المحركة لوجودنا.

يندفع الأبطال وسط الأنقاض غير آبهين بالخطر كي ينقذوا حياة الآخرين لأنهم يعرفون قيمة الحياة الإنسانية، ولهذا يحق لهم أن يقودوا المجتمع لأنهم بتطوعهم يعلموننا درساً عظيماً في السياسة ألا وهو أن المهمة الإنسانية الأنبل هي إنقاذ الإنسان من كل ما يستهدف وجوده وإنسانيته، في وقت تعمل فيه كل السياسات العربية على تحويله إلى رقم خاضع ومدجن.

-٢- 

حين تنشبُ الحرائق ولا نقدر على إطفائها، حين تضربُ الزلازل ولا نقوى عن رفع أنقاضها، حين تتمدد الحروب ولا نستطيع احتواء نتائجها، حين يُخْترق الفضاء وتُقْضم قطع من الأرض ويُعاد رسم الخريطة ولا نجرؤ على رفع رؤوسنا، ألا نستطيع التساؤل: لماذا عجزنا على امتداد أكثر من نصف قرن عن بناء مؤسسات تكون جاهزة للعمل في اللحظة التي يتعرض فيها الشعب لخطر وجودي؟

-٣-

أحزاننا تفيض كالينابيع وقلوبنا مقهورة. أعيننا تفتش الأنقاض بحثاً عن أية علامة، وآذاننا تصغي. لقد دُفنت البيوت تحت الركام، البيوت المنكوبة، البيوت المهزوزة والمردومة والتي تبدو كفلول جيش من الإسمنت محطم ومهزوم.

-٤-

تغزونا صور الأنقاض: أنقاض مدن دمرتها الانفجارات ثم جاء زلزال كي يضع ختمه على الفاجعة، لكن النبل الإنساني يتجلى في أوقات الكوارث لدى من يعرف أن الضحايا أينما سقطوا على الخريطة، وكيفما كان شكل قتلهم، هم أعضاء بُترت من جسده، وصورهم تسكن في قلبه وتظل حية فيه.

-٥-

لي أصدقاء في أنطاكيا، وفي كل المدن المنكوبة، منهم من عاش ومنهم من لا أخبار عنه.

قال لي صديق من أنطاكيا على الهاتف: لقد متُّ وانبعثتُ إلى الحياة. وبوسعك أن تقسم حياتي الآن إلى حياة قبل الزلزال وحياة بعده.

-٦-

مات صديق لي في جبلة تحت الركام هو وزوجته، حين رُفعت أنقاض البناء الذي كان بيتهما فيه وجدهما رجال الإنقاذ متعانقين. هذا العناق، هذا الحب وسط الكارثة، زرع روحاً جديدة في حياتنا تهزم الموت، وهذا ما نحتاج إليه كي ننقذ أنفسنا.

-٧-

العنصريون ينمون كالفطر في العالم، وثمة كثيرون يمارسون العنصرية حتى دون أن يعوا ذلك في طريقة استخدامهم للغة. هناك عرب يعيشون في أمريكا أعرفهم شخصياً يطلقون على السود اسم العبيد دون خجل. وثمة في تركيا من يحتقر الناطقين بالعربية، ووصل الأمر إلى جرائم قتل ضد السوريين، وتجاهلهم تحت الأنقاض.

في أوقات الكوارث لا تخبو نار العنصرية، ويصبح إنقاذ الآخرين من الموت معتمداً على مرتبتهم القومية. إن هذا النوع من العنصرية الذي ينتشر بيننا وبين شعوب كثيرة مجاورة دليل على أن الحجر قد يكون أفضل من الإنسان أحياناً، كما قال أبو العلاء المعري:

أفضل من أفضلهم صخرة

لا تظلم الناس ولا تكذبُ.

-٨-

إلى طفلة عُثر عليها حية تحت الأنقاض:

كان وجهكِ عينين فقط، رأيتُ بهما كيف اتخذ الموت شكل الأنقاض. 

كان الموت أيضاً أجسادنا التي تقف بعيداً وتتفرج

 غير قادرة على فعل أي شيء.

-٩-

بعد الموت عصّة قبر، قال كثير من السوريين.

بعد الموت يعضّك القبر،

يسحق صدرك، يفتتك، يخلطك بالتراب.

إلى حياة محاصرة،

إلى حياة من الفقر والضيق والنزيف

في خريطة أدمتها الحرب والتهمت قطعاً منها

سكانها على حافة الهلاك

أتى الزلزال ليوقّع لوحة تحمل اسم:

 الموت لا يأتي بالتقسيط.

-١٠-

الذين نسُيوا تحت الأنقاض،

 جرح لن يندمل في الذاكرة،

سينزف كلما تذكرنا ما حدث.

-١١-

رائحة الموت تفوح بين الأنقاض.

جندريس،

على أطلالك لا تعرف العين أين هي

أو إن كانت عمياء أم مبصرة،

والشاشة التي تعبر فوقك ليست صهوة.

جندريس،

فوقك كان الفراغ يجهش بصوت الريح

والسماء تبكي وتذرف قطرات المطر.

-١٢-

حلب،

عمارات كثيرة مضعضعة.

الشقوق في الجسد الإسمنتي

جراح في الأجساد

طعن في الأرواح.

المدينة مثخنة بجراح وكدمات غيرت ملامح وجهها.

لكن لها جذوراً في القلوب لا تتوقف عن النمو.

حلب،

زائر آخر في مطلع الفجر

يُركع المدينة

ويكسر عظماً آخر في ظهرها.

-١٣-

جبلة\اللاذقية

كان المطر غزيراً،

الظلمةُ تسيل داخلة من النوافذ المحطمة،

والبَشَرة تتجلد.

كان البحر خريطة مطفأة

والجبال تندب أشجارها.

فوق أنقاض بيوت هدمها الزلزال،

كانت الريح تخمد الأصوات

وهي تحملها بعيداً.

-١٤-

إن قدرة الدول سواء الكبرى أو الصغرى على تدمير الحياة أعلى بكثير من قدرتها على الحفاظ عليها وحمايتها.

تمارس الدول الكبرى فحولتها باستعراض عضلاتها العسكرية من خلال صواريخها الفرط صوتية وطياراتها الشبح أو المسيرة ورجالها الآليين وقنابلها وقاذفاتها الاستراتيجية. بضغطة واحدة على الزر تتغير مصائر وتولد مراحل جديدة، وفي هذا السياق تتحول الثقافة المكتوبة والمنطوقة إلى تعليق على السياسات القاتلة التي هي توأم للزلازل.

لقد متُّ وانبعثتُ إلى الحياة. وبوسعك أن تقسم حياتي الآن إلى حياة قبل الزلزال وحياة بعده

الطبيعة تقتل من دون عقل، فيما العقلُ البشري يوظّف نفسه في خدمة القتلة. إن نظرة فتاة مأسورة بين الأنقاض تخترقنا وتصل إلى تلك النقطة من تحللنا الإنساني ككائنات للتنوير، زعمت مرة أنهم امتداد لله.

إننا الآن صفر ممتلئ بنفسه حتى التخمة وملغم في كل أطرافه وعلى وشك الانفجار وتفجير الكوكب.

-١٥-

ليست الزلازل من يدمّر ويقتل فحسب. إن من يمهد الطريق لفتكها الأشدّ مهندسون يمررون كرة الخديعة كي يسجلوا هدفاً في مرمى الفقراء، ومتعهدون لاعبون في فريق الخداع نفسه، وقضاة تصطبغ ثيابهم بالدم، ومحامون ينحازون إلى صف المجرمين.

-١٦-

مدننا مصابةٌ بأمراض مزمنة، أحدها التورم الخرساني السرطاني القائم على أسس واهية، ولهذا نشعر أننا نعيش معلقين في الفراغ، ودوماً على وشك السقوط.

-١٧-

لا توجد إنسانية صرفة تجمعنا على ما يبدو، حتى المساعدات للمنكوبين تحت راية ما يُسمى بالتدخل الإنساني يُشاع أنها تتم داخل معادلة: معي أو ضدي.

-١٨-

ينهار البناء كأن تدميره مدروس. يتقوض بعينه ضمن دائرته الهندسية كأنه اختير كي يُدمّر، ويتداعى ساقطاً لوحده على من فيه، كما لو أن الزلازل تقصف بصواريخ موجهة. هل هذه مصادفة؟ أم أن الموت ينتقي؟ أم أن العشوائية العمياء والمدمرة تأخذ أحياناً شكلاً منطقياً؟

-١٩-

نخسر أصدقاء مقربين وأشخاصاً لا نعرفهم، ونعلن تضامننا مع الذين علقوا تحت الأنقاض. إنهم ينتظرون تحت إسمنت وجودنا المفتت، تحت أنقاض حياتنا اليومية، عالقين هناك والأمل بأن تُفْتح فجوة ويبزغ ضوء وتعاود الحياة وصل شرايينها المقطوعة يحوم فوق المشهد كطائر مذعور.

-٢٠-

سكنتُ في غرف وشقق في دمشق كانت كلها على القائمة السوداء للزلازل. هزة خفيفة في قشرة الأرض كانت كافية لتحويلها إلى أنقاض، فتخيلوا الأمر إذا حدثت هزة قوية. لا شك أنها ستتحول إلى ذرات لامرئية في ريح الدمار. نعيش حياتنا دوما على شفا جرف هار، ونتوهم أننا سعداء.

-٢١-

لا حاجة للتنبؤ بالزلازل وبوقت حدوثها وبالجدل الذي لا طائل منه. ما نحتاج إليه هو مهندسون يبتكرون حلولاً معمارية لمواجهتها وسياسيون يؤمنون بأن هدف السياسة هو خدمة الإنسان، وبأن توزيع الثروة والحياة الكريمة والمنزل الآمن والحرية والدخل الكافي وجواز السفر المحترم هي البنود الأساسية على أجندتهم الانتخابية.

كونيتشيوا، يا نكبتي الخاصة


"ماما، أريد كرة أرضية مثل التي اشترتها والدة إلياس له في عيد ميلاده!". سُررت لطلب ابني في سري لأنه بدأ يهتم بالجغرافيا قبل أن يدخل المدرسة، وبدأت البحث عما يناسب عمره، فعثرت على كرة متحدثة. وفاجأته: "أنظر يا حبيبي، وجدت كرة أرضية خرافية! تلعب بها بالقلم الإلكتروني، فيقول لك القلم اسم البلد وعاصمته، ويقول لك "مرحباً" بلغة البلاد. سيحييك بـ "بونجور" في فرنسا، و"هِلو" في إنجلترا، وتحييك بـ” كونيتشيوا" في اليابان. ما رأيك؟".. انفُرجت أساريره وسأل بلهفة: "متى تشتريها لي؟" فقلت: "إنها هدية قيّمة وخاصة جداً، لن تحصل عليها إلا في عيد ميلادك أو بعد إنجاز كبير..". لم يدم إحباطه طويلاً، لكنه عاد كل بضع ساعات يسأل: "متى تأتي الأرض المتحدثة؟"

وجدت متجراً إلكترونياً يعرض الكرة المتحدثة بسعر مخفّض، فوضعتها في سلة المشتريات الافتراضية حتى لا أضطر للبحث عنها مجدداً عندما يحين موعد "الهدية القيمة". كنت وأنا اتصفح العروض فخورة بأن ابني يريد أن يتعلم أسماء البلدان. "أريد أن أذهب إلي أفريقيا" قال. وفي مرة أخرى سأل: "هل يمكن لنا أن نزور الصحراء في يوم من الأيام؟" فقلت: "سنزور الأردن، فيه صحراء جميلة، والنجوم في ليلها قريبة. إن السماء تمطر نجوماً على الساهرين فيها."...كنت سعيدة بفضول ابني واهتمامه المبكر باستكشاف العالم، إلى أن لسعتني فكرة مفاجئة.. ستكون فلسطين مدفونة تحت خارطة إسرائيل التوسعية، وإذا كان حظي سيئاً ستمتد خريطة العدو لتبلع قطاع غزة والضفة الغربية، وقد يتكرم مصنِع الكرة على إسرائيل بتنصيب القدس عاصمة لها، فما علاقة المصنع الألماني بالقرارات الدولية، وما الضرر في ذلك؟ وإن كان هناك ضرر فهل من مشتكٍ؟

لن أجد إسم (پالستينا) على الخريطة إن سألني عنه سامي، وفي المقابل سيكون إسم إسرائيل كبيراً واضحاً، لأن المنتِج ألماني، وحاجة الألمان والصناعة الألمانية إلى توثيق وجود الدولة اليهودية كبيرة جداً. إذا نقر إبني بقلمه البرتقالي على الخريطة سيطلق الصوت المسجل تحية "شالوم" من فلسطين.

لم يتعلم ابني القراءة بعد، لكنه يميز بعض الأحرف الكبيرة في أول الكلمات. سيعرف أن الكلمة المكتوبة على بلدي تبدأ بالـ (آي) وليس بالـ (پي) مثل پالستينا. فماذا أقول له إن سألني أين (پالستينا)؟ كيف أشرح له الاحتلال؟

"لماذا لم يُكتب على فلسطين أنها محتلة إذن؟ لماذا لا توجد فلسطين أصلاً على الخارطة؟" سيتساءل إبني.. "هل تدعي أمي وجود أماكن غير موجودة؟" هل سيظن أنني كاذبة أم أنه سيشفق علي لكوني مختلة عقلياً وأرى ما لا وجود له.

ترددت. . .هل أؤجل شراء الكرة الأرضية والحديث عن الوجود إلى حين يكبر إبني؟ وما جدوى التأجيل إذا درسته المدرسة في أول سنواته ما اتهرب منه أنا - جبناً من المواجهة؟

هل أشرح له أن ما تراه العين ليس بالضرورة هو الحقيقة، وأن العالم ملئ بالمؤامرات، وأن الأقوى هو الذي يكتب التاريخ ويرسم خطوط الخرائط وحدودها، وأن بلاداً وشعوباً قد وقعت من الخريطة بقوة السلاح...ما هو دليلي على ما أزعمه؟ عندما تتحدى بمقولتك الخارطة المرسومة، عليك أن تتسلح بما هو أقوى في عين الطفل من الألوان والخطوط والأحرف الأولى. ماذا لدي لأبرهن لإبني على وجود ما لا يراه؟

اغرورقت عيناي بدمع المغلوب على أمره. إن عمره خمس سنوات أيها الظُلّام! كيف أشرح له أن أمه أتت من اللا مكان، كيف أقول له إن عائلتها تقطن في مكان تغطيه إسرائيل عن أعين العالم، لتفعل بهم ما يخدش الحياء والقانون والإنسانية؟ كيف أعلمه الثقة في الكتاب وما يقوله، بعد أن كَذَبتُه أنا في أول الطريق؟ كيف أزعم أمامه أن فلسطين حقيقة وليست من صنع خيالي، وأنها ليست كبلد الجنيات والعجائب التي يراها في الرسوم المتحركة؟

أدركت أنني بعد أن خسرت معارك الأرض في فلسطين، ومعارك الجو في بيروت، وبعد قبولي بجنسية أخرى في ألمانيا، ها هو تاريخي كله مطروح للزوال عن الخريطة.

بكيت بحرقة على مائدة الطعام، حتى شعرت بيد صغيرة دافئة على كتفي. "ماذا بك يا ماما؟" سأل ببراءة. قلت له بيأس: فلسطين موجودة، لكنهم لا يكتبون إسمها على الخريطة!"، فرد: "لا يهمك ولا تبكين! فأنا أصدقك!"

 

هينيف، ٢٣ مارس ٢٠١٧