ملاحظات مدخلية:
في عنوان آخر: الصوت كتفكيك لمادية الدولة، وحيزية التأريخ، وأدائية الفكر.
كُتبت هذه المادة على هامش ورشة بحثية فنية عن موضوعة أصوات المدينة، تتناول المدن التالية: القاهرة، رام الله، نابلس، دمشق، مسقط وأخيرًا عمّان
مدخل:
يقدم إيريك هوبزباوم ادعاءً وجيهًا، بقوله: "يبدو أن المجتمع الاستهلاكي يعتبر الصمت جريمة"[1]. إذ يمكننا تفكيك هذا الخطاب والوسم التصنيفي للأصوات المتضمن فيه، من خلال التالي:
أولًا ادعاء السلطة التي لها "الحق" في وصف شيء (ما) بأنه جريمة أو لا-جريمة، وهي السلطة التي نسعى في هذه الورقة إلى تفكيك مبناها من خلال ثنائية الصمت والصوت، لا باعتبارهما نقائض، بل متوازيات، وهنا ننتقل إلى "ثانيًا": الافتراض بتقابل الصمت والصوت، وهو تقابل في نظرنا يجافيه الصواب. صحيح أن هوبزباوم يطرح هذه المقولة ضمن إطار النقد الثقافي للفنون، وبالتحديد هنا الموسيقا، إلا أننا ولغايات تتعلق بالفكرة الأساسية لهذه الورقة، سننطلق من إدعاء هوبزباوم أعلاه، باعتباره نظرة إلى الصوت، لا الصمت، فهما -كما ذكرنا- ليسا نقائض لبعضهما، إذ نميل لقول ماكس بيكارد: "لا يكون صوت الموسيقا، كصوت الكلمات، معارضًا للصمت، بل بالأحرى موازيًا له"[2].
لعل الصمت هو الظاهرة الوحيدة في عصرنا، التي "لا فائدة" لها، فهو لا يتوائم مع معايير الإنتاج والربح والخسارة، إنه ببساطة موجود، ولا يمكن استغلاله، وهو على العكس من كل الظواهر الكبيرة والأساسية في حياتنا، لم يتم استغلاله وتسليعه، وبالتالي فوسم الصمت بأنه جريمة إنما يحمل في طياته سيطرة استهلاكية -هنا نعود إلى هوبزباوم- على الأشياء.
إن الموضع الذي اختاره هوبزباوم للصوت والصمت من السلطة إنما هو موضع خطابي Discursive، وبالتالي فإن اعتبار الدراسات الصوتية حقلًا خطابيًا، إنما يدفعنا إلى التساؤل عن ماهية الصوت، وبالتالي طرق دراسته. إن دراسة الصوت كحقل خطابي لابد أن يتحدد بموقع (هذا) الصوت (وكذلك الصمت، بناءً على ما سبق!) في مواجهة بنية الحقائق الاجتماعية والسياسية والتاريخية الخطابية. بمعنى آخر، علينا أن ندرس الصوت (والصمت) من خلال التساؤل عن ماهية الأصوات المهيمنة، والمتنحية (صمتًا و/أو صوتًا) ومساحات التفاوض معها و/أو عليها، وعلاقتها ببقية الأصوات، وهل للأصوات أن تمنحنا فاعلية Agency ما، في ظل واقع سياسي واجتماعي واقتصادي، أو أن يكون للكثافة السيميائية لصوت ما أن يهدد سلطة (ما) أيًا تكن. بل وحتى هل يمكن اعتبار قابلية الصوت أن يتم تسجيله، هو شكل من أشكال المقاومة، وسنشير لاحقًا إلى جهود الدولة المصرية ما بعد 2013 لمحو ومنع قابلية أصوات الثورة للتسجيل، سواءً أصوات غير منتظمة في علاقة موسيقية، وهي الأكثر، أو تلك المنتظمة لحنيًا/موسيقيًا.
تبدأ الأسئلة عن ماهية الصوت في علاقته بالمدينة، في اقتراح إطار لفهم الصوت كظاهرة اجتماعية لها مبناها السياسي والتاريخي وحتى الأدائي، من خلال العلاقة بالحيز والجسد والحركة، وبالتالي قدرة الصوت على إنتاج كل هؤلاء وتعاطيه معهم[3]. وكذلك بالنظر إلى قدرة الصوت على دعم الذاتية الاجتماعية وسيميائية التكوينات الاجتماعية، وإظهارها. وهنا لنا أن نتأمل أطروحات سالومي فويغلين عن "الحساسية الصوتية"، الواجب حيازتها تجاه الصوت والصمت باعتبارهما "سطح العالم" المرئي. والإشارة هنا إلى "الرؤية" تتخطى مفهوم العيانية (من العين). ولأسباب عدة، يتعلق بعضها بقصور اللغة، ومخيالها، لنا أن نستدعى المعنى الاجتماعي والثقافي للرؤية، فأن يكون المرء "مرئيًا"، هو أن يكون جزءًا من هذا العالم، أن يتواجد (مع) الآخرين، و(بينـ)(ـهم)، وهذه الرؤية هي موضوعة اجتماعية، تؤسس وتتأسس من خلال المجال الاجتماعي. وهو ما تسميه حنة أردنت "Space of Appearance" "مساحة المظهر"، وتفصله جوديث باتلر بأنه "To face each other""مواجهة بعضنا بعضًا"، وتلك مسرحة القوة والرغبة والإرادة الجماعية وتقرير المصير، أو جسدنة كل ذلك، ومنحه فضائيته/مكانيته، وفي القلب من كل هذا الاستماع إليه؛ أي أن يكون مرئيًا على مستوى حاسة السمع، وهنا يتساوى الصمت والصوت باعتبارهما سطوحًا للذوات، لكن يختلفان من حيث الاستماع والتسجيل باعتبارهما رؤيوية مختلفة لكليهما، لأن الرؤية هي تفاوض وإجراء متعارض وشرط من القوى غير المستقرة.
هل يمكننا تقدير الصوت كحدث مادي يولد حالات أو تجارب غير مرئية، أو أن يدل عليها بما يتجاوز عتبة البصر؟ وما هي المباني والمسارات والأفضية والأحياز التي يجسدنها الصوت، وما موقعنا منها؟
تسعى هذه الورقة إلى التعامل مع الممارسة الصوتية باعتبارها منهجية بحثية متداخلة الحقول، تمكننا من فهم السياق والمبنى الاجتماعي والسياسي والشخصي والنفسي، وغير ذلك.
وهنا سنتأمل محاولات إدراك المكان عبر مجموعة من المقاربات البحثية المستقلة، التي تتعاطى مع المكون الصوتي من خلال أداة أحادية مركزية، قد تكون التاريخي أو الاجتماعي أو السياسي أو الأدائي أو الجندري أو غير ذلك، فقط لتصل لمبنى الصوت باعتباره نصًا خطابيًأ يتموقع بين عديد النصوص والأشكال الأدائية المختلفة، والذي لا يمكننا مقاربته من دون الاستعانة بمقاربات متداخلة الحقول.
أولًا: المقاربة التاريخية:
تقع هذه المقاربة في مركز المقاربات البحثية الأساسية في تناول مفهوم الصوت، ولهذا الموقع امتيازاته الذكورية والفحولية، والتي تغري بالولوج إليه واستخدامه، لكن الاستخدام والتوظيف كمنهجية هو الفارق. فالتاريخ ينظر إليه باعتباره درة الفنون والآداب، وهو الباب الرئيسي، أو العتبة الأعلى للعلوم الإنسانية، وبالذات في عالمنا العربي المترع بالصراعات والحروب، وسياسات الذاكرة الرسمية وغير الرسمية، أو سياسات الذاكرة والنسيان. لكن التاريخ كمقاربة منهجية بحثية في مفهوم الصوت وظاهرة الصوت، تتعالى على الصوت كمادة تاريخية، لا لعلة بنيوية خاصية في الصوت بما هو حدث زمني (سنرد لاحقًا إلى هذه النقطة)، وحدها ، إنما لتحيز التاريخي إلى العياني. يأتي هذا التعالي بشكلٍ غير واعٍ، على مستوى التحليل النفسي للدراسات التاريخية وعمليات التأريخ. ولهذا النظرة عيوبها وقصورها، والأهم سقطاتها. فهي تنظر إلى التاريخ باعتباره رصفًا لمجموعة متعاقبة خطيًا من الأحداث المادية العيانية، ولعل هذا هو السبب في انعدام أي أهمية تذكر للوثائق المسموعة، وسطوة التاريخ الرسمي والمركزي، ووثائقه.
يقول زياد فهمي: "يميل المؤرخون عادة إلى قبول المشاهدات البصرية المتضمنة في الوثائق الأرشيفية، وغيرها من المصادر المكتوبة، بينما التقارير بشأن الأصوات والضوضاء إما أن يتم تجاهلها أو أن تعامل باعتبارها غير دقيقة مقارنة بالتقارير المرئية"[4].
لعل لهذا الأمر علاقة عضوية بحدوث الصوت في الزمن، إذ ثمة ما يميز الصوت كمادة وهو حدوثه في الزمن، بمعنى أننا بمجرد أن نستمع إلى نغمة ما، أو صوت ما، ينتهي، ليدخل الصوت أو النغمة التالية عليه. وبالتالي فإن الأصوات موسومة بالفقدان دومًا، والفقدان عدو التاريخي المهووس بالامتلاك والثبات، برغم كونه أداته الخطابية، وهو أمر يتحقق بمركزيته العالية في الوثائق البصرية المكتوبة و/أو المرئية، ويختفي في الوثائق السماعية/الصوتية.
هل يجيب ذلك على مكون أو هاجس الفقدان المتضمن في الصوت؟ ألا يؤسس هذا الفقدان في الصوت فقدانًا آخر في سؤال كيف نرى؟
نموذجنا الذي سنتأمله -على عجالة- في التأريخ لنص صوتي في مدينة القاهرة، باعتباره وثيقة تاريخية سمعية وليست بصرية هو صوت "باعة المياه"، أو ما عُرف بـ"السقّايين" بالعامية المحكية، و"سقائين" بالعربية الفصيحة، في القاهرة في القرن التاسع عشر، وندائهم: "يعوّض اللـــــه".
السقائون هم باعة الماء المأخوذ من نهر النيل، في القرب يحملونها على ظهورهم وظهور من صاحبهم من الدواب، يملؤنها من نهر النيل على بعد حوالي كيلومتر واحد، من المداخل الرئيسية التاريخية للمدينة، مثل "باب البحر" و"باب اللوق". وقد نظم السقائون أنفسهم في طوائف – بمعنى تنظيمات حرفية مثل باقي الحرفيين في حينه. حيث كانت هناك ست طوائف لتوزيع المياه في القاهرة، تخصص معظمها في نقل الماء بالجملة، وقلة منهم كانت تبيع الماء بصبه في كؤوس للمارة وعابري الطريق[5].
إن تتبع أصوات السقائين في القاهرة، يُمكننا أن نرسم خرائط توضيحية مركبة للمدينة في فترات تاريخية ما بعينها، من خلال عنصرين أساسيين، ولكنهما أفقيين: الحركة والموقع، من حيث التالي:
-
بمواقع الصوت ونداء الباعة، يمكننا رسم المناطق التي لم تمتد لها البنية التحتية لشؤون إيصال الماء والصرف الصحي.
-
بحركة الباعة يمكننا تحديد النطاقات التي لا تزال تعتمد عليهم لتوريد المياه، وتلك التي لم تعد تعتمد عليهم بعد أن امتدت إليها البنية التحتية وتوريد المياه والصرف الصحي.
يمكننا أيضًا من خلال تحليل رأسي يتضمن الطبقة الاجتماعية والاقتصادية والموقع السياسي ومستوى البنية التحتية في مناطق وجود ومسارات الباعة السقائين، وأشكال الأداء المتبعة في تلك الأحياز، وعلاقة تلك النطاقات والأحياز المدينية بالسلطة، أن نفهم سياسات الدولة/السلطات في حينه في مد خدمات توصيل المياه، وأي طبقة، وما شكل البنية الحداثية المعتمدة على المياه والصرف الصحي في تكوين الدولة حينه.
يذكر كتاب "الحرف في مدينة القاهرة في النصف الثاني من القرن التاسع عشر"، كيف كان السقائين، يمارسون شكلًا من أشكال الاستدلال في المدينة، إما من خلال خطوط يرسمونها على الأبواب تمثل عدد القِرب التي يتم تسليمها، أو استخدام أحجار زرقاء، تؤخذ إحداها لكل قربة عند التسليم.
يُذكر أن عملية مد المياه إلى البنايات والمنازل في القاهرة، حدث على مدار عدة عقود وثلاثة أنظمة سياسية رئيسية: الحقبة الخديوية (1865 – 1882)، والاحتلال البريطاني (1882 – 1922)، والعهد الملكي (1922 – 1938)، وهو ما صاحبه انسحاب تدريجي للسقائين، ونطاقات أو مجالات عملهم.
إن الترصد لصوت السقايين، باعتباره نصًا تاريخيًا للقاهرة، وتحولاتها، هو أيضًا شكل من أشكال تتبع تداخل وتشكل القاهرة مع معايير الحداثة والتحضر، التي اعتبرت النظافة الجسدية والتطهر من الروائح هو شرط مسبق غير معلن، لدخول الجسد المادي والاجتماعي إلى منظومة الحداثة[6].
يذكر مقطع من أغنية لسيد درويش، غناها بعد شهور فقط من ثورة 1919:
"عايشين في وادي النيل
نشرب من عدادات على مللي وسنتي
من جاز لملح ومن سكر وترامويات للخواجة تريانتي"
يشير إلينا هيغل أن شعبًا ما ليقيم دولته، عليه أن يكون ذا أهلية تامة، على الصعيد التاريخي، فنظر إلى الدولة باعتبارها درة معنى أن تكون جماعة من الناس ذات "الأهلية" التاريخية
ثانيًا: الصوت بما هو حيز مضاد للدولة:
تبدأ مقاربة الصوت في علاقته مع الدولة من أركان الدولة الحديثة بما هي (الـ)إقليم جغرافي، و(ال)سيادة، و(الـ)سكان - جماعة من البشر. يشير إلينا هيغل أن شعبًا ما ليقيم دولته، عليه أن يكون ذا أهلية تامة، على الصعيد التاريخي، فنظر إلى الدولة باعتبارها درة معنى أن تكون جماعة من الناس ذات "الأهلية" التاريخية. يستلزم لفهم المقاربة المطروحة هنا، بشأن الدولة بما هي استعارة عن مفهوم السيادة، موجهة للجماعة/السكان والإقليم/الحيز، الربط بين ثنائيتين متقابلتين:
-
الصوت/السمع/الشفاهة
-
النص/البصر/الكتابة
بالعودة إلى هيغل الذي يقول أن الكتابة تجعل الشعب ذات الأهلية تاريخيًا، من خلال مفهوم الدولة، فالكتابة التاريخية تحتاج إلى دولة يُكتب عنها. نجد ذلك واضحًا في المسودة الثانية لصيغة عصر النهضة، في العام 1830، والتي تعدلت من "لا كتابة، لا تاريخ"، إلى أن أصبحت "لا دولة، لا تاريخ". وبتحليل خطابي بسيط نجد أن "الدولة" هي رديف "الكتابة" في الصيغة المعلنة للعبارتين، بينما اللادولة هي المقابل الشفاهي للدولة في المعنى المستبطن للعبارة، وعليه يمكننا تعديل الثنائية المقترحة أعلاه لتكون:
-
الصوت/ السمع/ الشفاهة/ اللادولة
-
النص/ البصر/الكتابة/ الدولة
هذا التحليل يربط بين بنيتين أساسيتين: الدولة والتاريخ، باعتبارهما مبانٍ ذات عنف رمزي ومادي يقع على البشر والمعاني. فكما لا تعترف الدولة إلا بالتاريخ الرسمي المكتوب، والموثق من خلال مؤسسات أرشفة دولانية التوجه، ووثائق لا تقبل إلا شكلًا واحدًا من القراءة والتأويل والمعنى، كذلك هو التاريخ بما هو ممارسة رمزية عنيفة تجاه الممارسات الصوتية والشفاهية. بالعودة مرة أخرى لهيغل نجده يصف الهنود الأمريكيين، وهم مجتمع شفاهي، بأنهم "عديمي الذكاء بشكلٍ واضح"[7]، وتكلم عنهم بوصفهم "أطفالًا بعيدين عن الاستنارة"[8] لا يتميزون بغير "الدونية على كل صعيد"[9]. وبالنظر إلى الربط بين الشفاهة والصوت واللادولة، في مجتمعات شفاهية كالهنود الحمر وغيرهم ممن أتى على ذكرهم هيغل. يمكننا فهم العلاقة بين الكتابة، كمتواليات بصرية، بما هي فعل سلطوي، والشفاهة، كمتواليات سمعية، بما هي فعل اجتماعي.
الكتابة بهذا المنطق الدولاني، إنما هي انتاج إقليم وحيز. فبالموازاة بين "لا كتابة لا تاريخ"، و"لا دولة، لا تاريخ"، نفهم أن الدولة هي الكتابة بشكلها المادي العياني البصري، لجماعة من المواطنين المستحقين ذوو الأهلية (بمنطق هيغل)، وبالتالي يصبح الحدّ الدولاني (الحدود) هي الطرف الخارجي، والمادة هي الإقليم. وعليه فإن الدولة بهذا المنطق تكتب إقليمها من خلال الصوت الرسمي: الإذاعة، النشيد الرسمي، وغيرها، من النصوص الصوتية المسموعة المرتبطة بحد الدولة الرسمي، وإقليمها المادي/الجغرافي. حتى تلك الكيانات والأفراد المتماهين مع الدولة، فمثلًا نجد عمر خيرت وموقع موسيقاه كنص شفاهي يحتل الفضاءات والمساحات المدينية الرسمية، كالمطار مثلًا، بما هو مساحة صوتية موسيقية تعبر رمزيًا عن الدولة. وكذلك دور نقابة الموسيقيين (نقابة المهن الموسيقية) في دولنة الموسيقا، بالمعنى الحداثي، بما يعتمد حصرًا على التقنية وهيراركية عملية الإنتاج، فلا تقبل إلا آلات موسيقية بعينها، لها تاريخ مركزي، وأدبيات ذات بنى أبوية مركزية، فلا نجد أجهزة أو آلات موسيقية بدائية، أو حديثة خارج هذا النمط[10].
قد تتواطأ السلطات، أيًا تكن، سياسية، ثقافية، اجتماعية، بكل رمزياتها، مع أشكال مختلفة من النصوص الصوتية، وموضعتها مركزيًا. فمثلًا نجد أن ثمة ارتباط بدأ ينمو بين الإنشاد الصوفي، متمثلًا بمحمود ياسين التهامي، وبصناعة محال معينة بذاتها في القاهرة (بائعو العصائر الطبيعية)، في السنوات الأخيرة. وهو ما يمكن تتبعه مع تاريخ الصوفية وعلاقتها بالدولة الحديثة، مع مخيال قروي جمعي، مرتبط بالزراعة والفلاحة، ما يصب في النهاية للفصل بين المدينة والقرية، والروحانيات (ذات الطابع الصوفي) وأنماط التدين الرسمي، الممالئ للدولة والثقافة الرسمية.
الصمت والصوت بين الحداثة وما بعد الحداثة، بحث في الضوضاء:
قد يبدو الأمر سهلًا إذا كان محور حديثنا هنا هو الموسيقا، يتأثر (محتمل) من هوبزباوم، وبالنظر إلى مركزية الموسيقا بما هي شبكة علاقات معرفة سابقًا، نتداولها في الحياة اليومية، وخلال ممارساتنا الثقافية، والتعبيرية بمعناها الأوسع.
لكن الأمر يزداد صعوبة إذا تأملنا الضوضاء، باعتبارها نصًا صوتيًا حيزيًا مدينيًا، في سياق العلاقة بين الحداثة وما بعدها. فالضوضاء، على الرغم من بساطة إدراكنا اللغوي لها إلا أنه ليس من السهل الإجابة عن سؤال: ما هي الضوضاء؟.
ليس لزامًا على الضوضاء أن تكون عالية الصوت، لكنها تظل مع ذلك كيانًا مركزيًا أنويًا (من الـ"أنا)، يعتمد على حصريته، بنفي الأصوات الأخرى وطمسها من خلال مادتها الأساسية وهي الصوت. فالضوضاء لا تطلب انتباهنا قط، لكنها الأقدر على انتزاعه، من بقية اشتباكاتنا الحسية.
الضوضاء لها بنية علاقاتها الخاصة وتنظيمها الخارج عن سلطتنا وإدراكنا، وهي شكل من أشكال العلاقة الحادثة خارج تنظيم اللغة، بما هي (اللغة) توزيع أدوار واحتواء، حتى ولو لم نكن نستطيع امتلاك أدوات إدراك لها غير كلمة أو مرادف: فوضى.
منحت الحداثة الأصوات مسمياتها، يعلم ذلك جيدًا طالب الموسيقا الكلاسيكية، التي ارتبطت بعصر التنوير الأوروبي، حين يُطلب منه تعريف النغمات الثالثة الصغرى، والخامسة المكتملة، والسابعة الرئيسية، وغيرها، والعلاقات ما بينهم: اللحن. في هذه اللحظة، ينتزع العقل موقع السلطة بتعريف بنية العلاقات وتصنيفها بين الأصوات، أي عقلانية العلاقة بين الأصوات والصمت. لعل الشاهد على هذا القول، هو أن هذا التصنيف الحداثي للصوت ضمن النوتات الموسيقية الحداثية، كان تحقيقًا لرؤى أحد رموز العنف الحداثي على مستوى الفلسفة والأفكار، وهو هيغل، الذي يقول: "ما يؤهل المظهر المباشر لأي صوت لأن يكون معرفة هو نغمته"[11]. وهو أمر تفقده الحداثة من خلال مكونين خارجين عن هذه المركزية والسلطة: الصمت والضوضاء، واللذين يقعان في المدينة في موقع أساسي منها، فلا مدينة تخلو من أي منهما، وبالتالي فإنهما (الصمت والضوضاء) هما إمكانيات لفضاءات ثالثة، أو هيتروتوبية، بالمنطق الفوكوي (نسبة إلى الفيلسوف الفرنسي ميشيل فوكو، في طرحه لفكرة الهيتروتوبيا أو الفضاءات المغايرة)، داخل النص الصوتي للمدينة. لعل النموذج الأقرب لشرح هذه النقطة، هي تجربة حظر التجوال في القاهرة، بما أنها كانت في ظاهرها إعلاء للصمت في المدينة، إلا أننا نجد أن حدود هذا الصمت ترسمت من خلال صفارات سيارات الشرطة، وبالتالي لم يكن الصمت هنا امتحانًا فعليًا لمكون الصمت المضاد لحداثة المدينة.
يقدم ثيودور أدورنو هنا مداخلته المتميزة بشأن الموسيقا والصوت. فالصفة الفعلية والمؤقتة للأصوات والموسيقا، والتي يمكن أن تكون تمنحها قدرتها النقدية، من خلال إنتاجها للحيز باعتباره فعلًا/ممارسة فنية. بالنسبة للحداثة فإن الصمت والصوت هما فشل للتواصل العقلاني، لأنهما فضاءات غير مؤرخنة، ولا لغوية، وبالتالي ليسا فضاءات حيزية، حتى ولو كانا أجزاء أساسية من المدينة، والتجربة الجسدية فيها. هل يتغير الوضع بالنسبة للصوت والصمت في علاقتهما بما بعد الحداثة؟
يجيب ليوتارد، الفيلسوف الفرنسي عن سؤال عن ماهية ما بعد الحداثة، فيقول:
"مابعد الحداثة ليست هي الحداثة في نهاياتها، لكنها حالة وليدة منها، هي حالة من الاستمرارية".
هذه الحالة من الوجودية المستمرة Present-ness ، وهذه الحالة من الوجودية المستمرة هي التي تستشكل أي محاولة لشرعنة "الآن"، ومنحه معنى متجاوزًا، لآنيته، آتيًا من خلال خطاب متعالي مصدره "السرديات الكبرى"، التي أتى بها التنوير. يفتح هذا الافتراض الباب للسرديات الصغرى، والتي تُنتَج بشكل موقعي، أي من موقعها. هنا يمكننا فهم صراع نقابة الموسيقيين في مصر مع فناني المهرجانات باعتباره صراع سردية صغرى تأتي من الهوامش، إلى المراكز، مقابل سردية كبرى وهي الدولة، وموسيقا عصر التنوير بمبانيه الفلهارمونيكية.
بحسب ليوتارد، فإن ما بعد الحداثة تقدم ما اعتبرته الحداثة قبلها غير قابلٍ للتقديم، هنا يتحول الفن الصوتي من مادة نذهب إليها في المواقع المدينية، إلى مادة تحيطنا ونتفاعل معها، والأهم أنها تغمرنا، دون وعينا التام بتسللها هذا. هل يمكننا هنا تأويل الوجودية المستمرة المدعاة لمدن تنهار وتتفتت، من خلال الصوت والصمت، باعتبارهم أدوات انتاج حيز؟
تصبح هنا ما بعد الحداثة هي الضوضاء الهيتروتوبي أو المغاير بالنسبة للحداثة.
هوامش:
[1]: إيريك هوبزباوم، أزمنة متصدعة: الثقافة والمجتمع في القرن العشرين، (بيروت: المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات،2015)، ص69.
[2]: ماكس بيكارد، عالم الصمت، (بيروت: التنوير، 2018)، ص33.
[3]: يُنظر "أصوات القاهرة كساحة صراع"، للمؤلف.
[4]:
Ziad Fahmy, Street Sounds Listening to Everyday Life in Modern Egypt, (California, Stanford University Press, 2020), p15.
[5]: يُنظر: نشتري كل شيء: تحولات السكون والعمران في مصر، مجموعة، (القاهرة، دار المرايا، 2022).
[6]: يُنظر:
Dominique Laporte, History of Shit, translated by Nadia Benabid and Rudolph Khoury (Cambridge: MIT Press, 2000).
[7]:
G. W. F Hegel, Lectures on the Philosophy of World History. Introduction: Resaon in History, Trans. H. B Nisbet (Cambridge: Cambridge University Press, 1982) pp. 164, 165.
[8]: المصدر نفسه.
[9]: المصدر نفسه.
[10]: سبق للباحث الإشارة إلى هذه النقطة في نص بعنوان "أصوات القاهرة كساحة صراع"، وقد نشر على موقع خط 30، يناير كانون الثاني، 2022.
[11]:
Georg Wilhelm Fredrich Hegel, Phenemenology of Spirit, Trans. A. V Miller, (Oxford: Clarendon Press, 1977) p. 55.