(دار الآداب، بيروت، 2023)
[كلاريس ليسبكتور، كاتبة برازيلية. خلال دراستها في كلية الحقوق في ريو دي جانيرو بدأت بنشر أول أعمالها الصحفية في بعض الصحف والمجلات وأيضاً بعض قصصها القصيرة . دخلت في ميدان الشهرة بعد كتابتها لأولى رواياتها بالقرب من القلب المتوحش (Perto do Coração Selvagem)، ومن ثم بعد عودتها إلى ريو دي جانيرو في عام 1959 بدأت بإنتاج أكثر أعمالها شهرة ومن ضمنها: الروابط العائلية (Laços de família)، العاطفة وفقا لـG.H.].
[صفاء جبران، أستاذة جامعية وأكاديمية مقيمة في البرازيل، مترجمة من وإلى اللغة البرتغالية، صدر لها العديد من الترجمات، من العربية إلى البرتغالية، منها موسم الهجرة إلى الشمال للطيب صالح، باب الشمس ويالو واسمي آدم لإلياس الخوري، سيدات القمر لجوخة الحارثي، حارث المياه لهدى بركات، ونقلت إلى العربية بعض الكتب من الأدب البرازيلي منها رواية شقيقان للكاتب البرازيلي ميلتون حاطوم، (دار الفارابي، 2002) والحياة الخفية لـ إيوريديس غوزماو لمارتا باتاليا، (دار الآداب، 2019) ومن المهجر إلى الوطن، مختارات من الأدب البرازيلي، (مشروع كلمة، 2019)].
جدليّة (ج): كيف اخترت الكتاب، ما الذي قادك نحوه؟
صفاء جبران (ص. ج.): بصراحة، لم يكن اختياراً مني، بل اقتراحًا من قِبل دار الآداب، مع أنّني كنت أفكّر دائماً كم ستكون جميلة نصوص كلاريس لو تُرجِمت للعربية وأتساءل متى سيكتشفها القرّاء العرب! ولكنّني لم أحلم يوماً بأن أترجمها بنفسي لأنّني مرتبطة بمشروعٍ كبير وهو ترجمة الأدب العربي إلى البرتغالية البرازيلية. غير أنّه وعندما سألتني الناشر عن رأيي بالكاتبة وبالكتاب المختار وإن كنت موافقةً على ترجمته، طرت للتو من الفرح ثم هبطت مرتعدة من الخوف، فنصوص كلاريس ليست سهلة حتى في اللغة البرتغالية، فكيف في الترجمة؟ ويُعتبر هذا الكتاب بالضبط من أصعب كتبها. بيد أنّني قبلت التحدّي، وهكذا أمضيت ثلاثة أشهر وأنا أقرأ الكتاب وأعيد قراءته، وفي كل مرة يُدهشني أكثر وأتوصل إلى إدراك ما لم أستوعبه من القراءة السابقة، ثم قرأت أعمالاً أخرى لكلاريس حتّى شعرتُ أنّني مستعدّةٌ لعبور عتباتها وللدخول إلى عوالمها، وصرت قادرةً على ترجمتها أو إعادة كتابتها باللغة العربية.
(ج): ما هي الثيمة/ات الرئيسية؟ ما هو العالم الذي يأخذنا إليه النص؟
(ص. ج.): لقد أصرّت كلاريس على تصنيف النص بصفته رواية، والرواية تأتي هنا بمعنى تدفّق الكلمة. "ماء حيّ" كتاب يتحدّى نماذج العناصر السرديَة من حيث الزمن والحبكة والشخصيّات، إنه سرد مشحون بغنائية شعرية تحتضن في طيّاتها جماليّة نثريّة. فهو "قصيدة نثرية كثيفة" وعبارة عن سرد روائيّ يحمل صفة المونولوج . بطلة الرواية هي كاتبة ورسامة تنطلق من عزلتها في تأمّلات لا نهاية لها حول الوقت، الحياة، الأحلام، الكائنات، الشجاعة، الخوف، والموت – وقبل كل شيء حول الخلق والكتابة، ومعرفة كيفيّة استخدام الكلمات في لعبة الأصوات والصمت، ثم توظيف تلك الكلمات بطريقة مشابهة للرسم بالألوان. تسعى للقاء بذاتها، وهو أمر ممكن فقط من خلال الكتابة التي تقارنها بالرسم، فيختلط الفنّان ومعهما اللوحة والنصّ. وهكذا، تعبّر الشخصية-الراوية عن أحاسيسها ومشاعرها وانعكاساتها، وما إلى ذلك، من خلال الصوَر، في محاولة منها لخلقِ شيء بالكلمات مشابه لما تخلقه بالألوان.
إن المثير للاهتمام حول ماء حيّ هو عدم وجود موضوع مركزيّ، كما أن السرد غير خطّي. اللغة رشيقة وقوية، وتتألف من صور متعدّدة حول ثيمات مختلفة... وهكذا، فإن العنوان يحيلنا مباشرةً هنا إلى الماء، بما يمثّله من حركة مستمرّة بفعل التيار المتدفق.
في هذه النص، ثمّة بحث عن العلاقة بين الجسد والفكر واللغة، لذلك فإنه يبتعد عن النمط الواقعيّ، لكنه يخطّ نهجًا غير متوقَّع للمشاعر الإنسإنّنية لذا يأخذ القراء إلى عوالم مختلفة من الأحاسيس، والأفكار، والتأملات، يلمس كل واحد منهم وجدانه من ناحية، أو يضرب على وتر من روحه، وتبقى الدهشة أو الانبهار، هو الاحساس المشترك بينهم .
(ج): ما هي التحديات التي جابهتك أثناء البحث والترجمة؟
(ص. ج.): كانت تحديات متعددة ومختلفة. أولا بصفة انتماء هذا النص إلى ما يسمى بأسلوب تيار الوعي، وفيه انسابت كلاريس إلى أبعاد غريبة بحيث تمرّدت على شكل الرواية إلى أقصى حدوده، وخلقت نوعًا كتابيًّا جديدًا، يتّسم بالسيولة، ويبدو لأول وهلة مجزّأ، غير مكتمل، أو مفتقرًا للتنظيم، ناتجًا عن حريّة إبداعية كبيرة... وذلك باستخدامها الكلمات بطريقة غير نمطيّة، عدا عن انتقائها لموارد دلاليّة ولفظيّة مميّزة، والاستعمال غير التقليدي لعلامات الترقيم، سواء أكان ذلك في اللغة البرتغالية أو ما يعادلها في العربية، مما يجعل النص حالة فريدة من نوعها في الأدب وفي عمليّة تنظيم الكتابة. فقد اخترت، على سبيل المثال، النقل، قدر الإمكان، للترقيم كما أرادته الكاتبة بصفته جزء مهمّ من النص، خاصة في استخدامها المختلف للنقطتين (:) وللشَّرطة (-).
فلم يكن سهلا أبدا مراعاة هذه الأمور، وكان اهتمامي الأول إيصال كل هذه الميزات إلى القارئ العربي وحتى في تكرار بعض الجمل والمقاطع القصيرة في مواقع مختلفة من النصّ، فلم يكن سهوًا على الإطلاق، بل قصدًا، كما أرادته الكاتبة وكما هو في الأصل، عدا عن أن شحنها للكلمات بطاقة إضافية، والمغامرة في ابتكار ألفاظ جديدة. ولذلك فقد قررت التعامل مع هذه الصفات متتبعة خطى الكاتبة من حيث الابتكار اللغوي والأدبي، من أجل منح القارئ العربي نصًّا قادرًا على التعبير – ولو جزئيًّا – عن الغرابة الجميلة والآسرة لكتابة ليسبكتور، والتي تصدم القارئ بحداثة فكرها وأسلوبها.
(ج): ما هو موقع هذا الكتاب في مسيرتك الإبداعية؟
(ص. ج.): هذا الكتاب الذي بدا لي أولًا "عصيًّا" على الترجمة، ثم معقولًا، ولكنه بكثير من الجهد والوقت والحساسية ومن الاضطرار إلى المفاوضة بين اللغتين وبين معطياتهما غير المتشابهة؛ هذا الكتاب الذي عندما انتهيت من ترجمته، شعرت بالحزن، فقرأته بصوت عالٍ مرات ومرات، وعندما انتهيت منه أدركت أنني انتهيت من قراءة محاولة وصول الانسان إلى نواته، وشعرت أنني أمام قصيدةٍ نثريّةٍ مختلفة، فبكيت أمام جمالها. تظل – حتى الآن – هذه التجربة الأغنى والأكثر وجعاً في الوقت ذاته، وأيضاً لن أخفي سروري بأنني ترجمت نص كلاريس الأصعب إلى العربية، لغتي الأم.
(ج): هل هناك نصوص كانت ذات تأثير خاص، أو قرأتها أثناء إنجاز الترجمة؟ ما هي المراجع التي اعتمدت عليها؟
(ص. ج.): كما ذكرت سابقًا، قبل المبادرة بالترجمة وخلالها، عكفت على قراءة معظم كتب كلاريس، وأغلب ما كُتب عنها في المجال الأكاديمي وخارجه، كما واستشرت الأساتذة في الجامعة الذين يدرّسون نصوصها وأوضحوا لي الكثير من الأمور التي كانت غامضة، ومنهم من نصحني بأن قسماً كبيراً من الغموض هو جزء من أسلوب الكاتبة ويجب أن يُترك للقارئ فهمه (أو لا) كما يشاء. أضيف إلى ذلك أنّني قرأت ترجمة للنص بالإنكليزية وأخرى بالإسبإنّنية واستعنت بكلاهما بعض الشيء، انتبهت أنهما اعتمدا تقريباً الترجمة الحرفية في المقاطع صعبة الفهم.
(ج): من هو الجمهور المتوقع للكتاب وما الذي تأمل أن يصل إليه القراء؟
(ص. ج.): أظن أنه الجمهور نفسه الذي يقرأ كلاريس بلغته الأم وبكل اللغات، الذي لا يأبه بأنّه سيعلم شيئًا وستغيب عنه أشياء، وهو أيضًا ذلك القارئ الذي لا يخشى القلق، ركيزةً أساسية للحياة، وأيضًا الذي لا يغضب لأنّه لم يستوعب الحبكة للتو، فالمعلوم به أنّ السمة الأسلوبية الأساسية للرواية هي أنها ستحكي قصة ويمضي القارئ بالرواية في انتظار تلك القصة. أما أسلوب كلاريس فهو عبارة عن تدريب لنا للدخول معها في القصة فتولجنا برفقتها داخل عملية لغوية تُولد القصة، ويكون القارئ جزء من العملية. ومن يقرأ هذا العمل لن يخرج منه كما دخل.
(ج): ما هي مشاريعك الأخرى/المستقبلية؟
(ص. ج.): كما سبق وذكرت، إنّني أعمل حالياً على ترجمة الأدب العربي إلى البرتغالية، من بينها في الوقت الحاضر ثلاثية الياس الخوري "أولاد الغيتو"، وبعد انتهائي منها هناك عدة كتب بانتظاري لكبار الكتاب والكاتبات العرب. ومع ذلك فإنّني أرغب بالترجمة إلى عربية ولا أريد التخلي عنها، ولو من وقت لآخر. سوف أباشر قريباً بترجمة باكورة روايات كلاريس ليسبكتور، ولاحقا أفكرّ بالعمل على رواية رضوان نصار الشهيرة ( "الحرث القديم" أو "العادات القديمة") وهو نص رشيق، رقيق وعميق بغاية الجمال ويعد من أفضل الروايات البرازيلية التي كتبت في القرن العشرين، وربما كتاب آخر لميلتون حاطوم، فقد ظهر بترجمتي أحد كتبه عن منشورات الجمل منذ أشهر تحت عنوان "شقيقان" بنسخة جديدة منقحة، ولكنّني لم أستلمها بعد.
مقتطف من الرواية
سأكتب الآن تحت رحمة يدي. لن أعدّل أي شيء مما تكتبه. إنها الطريقة التي لا تسمح بحدوث أي تباعد بين اللحظة وبيني. إنّني أتحرّك في صميم اللحظة ذاتها. ولكن دائمًا يحدث بعض التأخير. يبدأ الأمر هكذا: كما يعوّق الحبُ الموتَ، ولا أعرف ماذا أعني بهذا. أثق في عدم فهمي لنفسي الذي يمنحني حياة خالية من الفهم، لقد فقدت أصدقاء لي، لا أفهم الموت. الواجب الفظيع هو الذهاب إلى النهاية، من دون الاعتماد على أحد. أن تعيش حياتك بنفسك. ولكي أعإنّني أقل، أجعلني حسّاسة أقل، لأنني لم أستطع تحمّل أحزان العالم. ماذا يمكنني أن أفعل عندما أشعر تمامًا بمن هم الأشخاص وبمَ يشعرون؟ أنا أعيشهم، ولكنّني لم أعد أملك القوة. لا أريد أن أبوح ببعض الأشياء ولا حتى لنفسي. لإنه سيكون خيانة لكون الذات. أشعر أنني أعرف بعض الحقائق وأترقبها. ولكن ليس للحقائق كلمات. حقائق أم حقيقة؟ لن أتكلم عن الإله. وهو سرّي الخاص. إنه يوم مشمس. الشاطئ حافل برياح طيبة وبالحرية. وكنت بمفردي. دون الحاجة لأحد. إنه صعب لأنني أشاركك بما أشعر. البحر الهادئ. مترصّد ومشكّك. وكأنه ليس من الممكن لذلك الهدوء أن يدوم. هناك دائمًا ما هو على وشك الحدوث. إن ما يسحرني هو غير المتوقع، التلقائيّ والقدريّ. لقد بدأت التواصل بقوةٍ معك لدرجة أنني توقّفت عن الوجود بينما ما أزال موجودة. أصبحتَ أنا. من الصعب جداً الكلام وقول ما لا يمكن قوله. إنه صامت لدرجة كبيرة. كيف نُترجم صمت اللقاء الحقيقي بيني وبينك؟ من الصعب شرحه: حدّقت بك لبضع لحظات. لحظات كتلك، هي سرّي. عندئذ حدث ما يُسمى بالتواصل الكامل وأسميه أنا بحالة حادة من السعادة. إنّني صافية الذهن للغاية ويبدو أنني أوشك على الوصول إلى مستوى أعلى من الانسإنّنية – أو من غير الإنسإنّنية – الـ ـ it .
ما أقوم به عن طريق الغريزة اللاإرادية لا يمكن وصفه.
ما الذي افعله في الكتابة لك؟ أحاول تصوير العِطر. أكتب لك جالسة بجانب نافذة مفتوحة في مَرسمي.
أكتب لك هذه النسخة لكتاب. كتابُ من لا يتقن الكتابة. وهذا لأنه في أخفِّ مجال الكلام الأكثر خفّة، لا أعرف كيف أتكلم تقريباً، خاصة عندما أتكلم إليك من خلال الكتابة، أنا من اعتادت أن تكون الجمهور، ولو شاردة الذهن عن صوتي. عندما أرسم أحترم المواد التي أستخدمها، أحترم مصيرها البدائي. لذا عندما أكتب لك أحترم المقاطع.
لحظة جديدة أرى فيها ما هو قادم. بيد أنه عند الحديث عن لحظة الرؤية يلزم أن أكون أكثر خطابيةً من اللحظة: سوف تمر لحظات عديدة قبل أن أتمكن من بسط واستنفاذ تعقيد اللمحة، الشديد والسريع.
إنني أكتب لك على وسع أنفاسي. هل سأكون مُبهمة كما في لوحاتي. لأنه يبدو أن على المرء أن يكون واضحًا بشكل رهيب. هل أنا واضحة؟ لا يهمني حقًا. الآن سأشعل سيجارة. ربما أعود إلى الآلة الكاتبة أو ربما أتوقّف هنا للأبد. أنا، من ليست لائقة أبدًا.
عدتُ. إنّني أفكّر بالسلاحف. لقد قلت مرّة بحدسٍ صاف، إن السلحفاة حيوان ديناصوريّ. في وقت لاحق قرأت أنها حقاً كذلك. غريب ما يخطر ببالي! سوف أرسم سلاحفًا يومًا ما. إنها تثير اِهتمامي كثيرًا، جميع الكائنات الحيّة، باستثناء الإنسان، هي مفاجأة مدهشة: عندما جُبلنا، تبَقّى الكثير من المواد الخام −it− ومنها جُبِلت الحيوانات الأخرى. لماذا السلحفاة؟ ربما عنوان ما أكتبه يجب أن يكون من هذا القبيل تقريبًا وعلى شكل سؤال؟ "ماذا عن السلاحف؟" أنت من تقرإنّني سوف تقول: صحيح إنّني لا أفكر بالسلاحف منذ وقت طويل.
فجأة، أشعر بالأسى لدرجة أنني أستطيع أن أقول كفى، وأُنهي ما أكتبه لك، وهو أشبه بكلمات عمياء. حتى بالنسبة لغير المؤمنين ثمة لحظة يأس تكون إلهيّة: غياب الإله هو فعل ديني. في هذه اللحظة بالذات، أطلب من الإله أن يساعدني. إنّني بحاجة، بحاجة إلى أكثر من القوة البشرية. أنا قوية، ولكني أيضاً مدمّرة. يجب على الإله أن يأتي إليّ بما أنني لم أذهب إليه. دع الإله يأتي: أرجوك. مع إنّني لا أستحق ذلك. فليأتِ. لعلّ من هم أقلّ استحقاقًا له هم الذين في أمسّ الحاجة إليه. أنا قلقة وقاسية وقانطة. مع أن الحبّ موجود في داخلي. ولكني لا أعرف كيف أستخدمه. إنه يخدشني أحيانًا كشظايا الخشب. إن كان لدي الكثير من الحب في داخلي ومع ذلك ما أزال قلقة فهذا يعني أنني بحاجة إلى مجيء الإله. إلى مجيئه قبل فوات الأوان. أنا في خطر مثل كل شخص يعيش. والشيء الوحيد الذي ينتظرني هو بالضبط غير المنتظر. لكنني أعلم أنني سأعيش بسلام قبل الموت وأنني يومًا ما سأتذوق نعومة الحياة. سألاحظ ذلك – كما نأكل وكما نعيش طعم الطعام. صوتي يسقط في هاوية صمتك. وأنت تقرإنّني بصمت. ولكن في هذا الحقل الصامت بلا نهاية، أفرد جناحيّ، طليقة لأعيش. لذا أتقبّل الأسوأ وأدخل صميم الموت ومن أجل ذلك أنا حيّة. الصميم الحسّاس. وأرتعش بـ . it