يشتمل ألبوم "جبنا للولد بيانو" على 11 أغنية، تتنوع من حيث الشكل والتوزيع الموسيقي، ولكنها تأتلف من حيث فلك المواضيع التي تدور فيها، الألبوم بالكامل من ألحان وغناء الفلسطيني فرج سليمان، ومن كتابة الفلسطيني مجد كيّال.
وهو التعاون الرابع بينهما، إذ بدأت تجربتهما في بعض أغنيات ألبوم "البيت الثاني"، ثم اكتفى سليمان بانتخاب نصوص من كتابة كيّال وحده شكلت قوام ألبوم "أحلى من برلين"، وهو الألبوم الذي تسبب في انعطافة جماهيرية حازها سليمان لأول مرة، تمثلت بعدد الاستماعات على منصات التشغيل، وانعكست إيجابياً على عدد العروض والحفلات التي أقامها في أكثر من مدينة في العالم العربي وخارجه، ثم صنعا معاً ألبوم أطفال بعنوان "فهيم".
البيت ثيمة أساسية
يقول القائمان على الألبوم الجديد إنه غارق في تفاصيل البيت، في دلالة على الانكفاء على الذات، بمعنَيَيْه الفردي والجمعي، وهذه مقدمة يفترض أن تمهد لدفء منزلي في التفاصيل، يضع الألبوم أمام محاكمة صعبة؛ فبرغم القواسم المشتركة بين البيوت في بلادنا، إلا أن الاختلافات الصغيرة بين بيت وآخر، قد تضع الألبوم في مرمى الاتهام إما بالمبالغة أو بالتقصير، لأن الأمر يصبح شخصياً حين يتعلق بالبيت.
والحق أن الألبوم حاول الذهاب باتجاه الحنين والتشخيص العائلي كأدوات تذكي الفردي، فعرض مشكلات الابن والأب والأم والبنت، ونجح في مواضع عدة بتحقيق الثيمة، ولكنه لم يتمكن من الوصول لغايته في مواضع أخرى، كأن البيت الذي نعرفه جيداً، ونظن أننا قادرون على وصفه بدقة شديدة، يصبح أوسع بكثير من أن يُحتوى، حين نحاول وضعه في أغنية!
الكتابة من قلب الفوضى
خلال تعاون الثنائي، نجح كيال في صياغة هويات جديدة للأغنيات، تحديداً في ألبوم "أحلى من برلين"، هذه التجربة الناجحة، أغرته بمواصلة الطريق نحو النوع ذاته، ولكن باتجاه أعلى، وعلى هذا الأساس، أخذ المتلقي في ألبوم "جبنا للولد بيانو" نحو مناطق أكثر تعقيدا، في التفكير والتأمل والكتابة، لكنه لم يتمكن من الحفاظ على الانسياب الذي كان أحد أهم أسباب النجاح في الألبوم السابق.
فتطورت بعض الأفكار في الألبوم الجديد، ولكن تعقدت بعض الصور، وتجرأت أغنيات على استعراض هواجس أعمق، ولكن تشنجت بعض الجمل، وانعكس ذلك على عناصر الأغنية الأخرى، فالكلمة أساس في توجيه ما يتبعها من عناصر.
على أنه تمكن من إضافة أغنيات بدماء جديدة ومختلفة، وتناقش مواضيع تزداد أهميتها يوماً بعد آخر، كما اشتغل على دمج الخاص بالعام على نحو مرضٍ، انطلاقاً من ثيمة الألبوم "الغارق في تفاصيل البيت".
كما اتسمت بعض النصوص بجرأة الاستخدام، فثمة تعابير تستخدم في البيوت ولا تستخدم خارجها، لكن كيال أخذ على عاتقه استخدامها وفاء للثيمة التي اقترحاها.
وأحسب أن كسر الأوزان المتعمّد، شكّل خطورة انطوت عليها المغامرة في التلحين، بناء على الوحدات الزمنية المتغيرة في النص الواحد، كما أن التعابير التي عمد إليها كيّال أكسبت الأغنيات حرية ما، لكنها اضطرت الملحن لتكسير مواقيته اللحنية مرات عدة، وهو ما من شأنه أن يكسر الملل حيناً، ويصعّب استساغة اللحن أحياناً.
الألحان المتحررة
ألحان الألبوم وموسيقاه، بدت على النحو ذاته من البساطة التي يتمتع بها سليمان، لكن الكلمات هذه المرة، أخذته نحو مناطق جديدة، اشتغل معها على قوالب لحنية متعددة، فاستثمر التراث وآلاته، كاليرغول والإيقاعات الشرقية، على سبيل المثال، ووسع دائرة القوالب الغربية أكثر، حدث كل ذلك انطلاقاً من القاعدة المفترضة، في اتباع عناصر الأغنية كلها للطريق الذي تشير إليه الكلمات، واضطَر سليمان - على ما بدا لي - إلى العبث الغنائي، الذي عبّر مرات عن الحرية المنتزعة انتزاعاً وعن الفوضى التي يعيشها الفلسطيني، ووقع مرات في فخ الانزياح الذي اقترب في مواضع محددة ودقيقة من النشاز.
المواجهة من خلال أغنية
يبدأ الألبوم بأغنية "الملكة"، وهي محاولة للنيل من المملكة المتحدة كسبب رئيس للوجع الفلسطيني الممتد منذ وعد بلفور حتى الآن، وهي أغنية جريئة من حيث الطرح، ومن حيث التكنيك، إذ تمتد لأكثر من 13 دقيقة من الغناء شبه المستمر، دون فواصل موسيقية طويلة، مما يدلل على كثافة النص، وتتنقل الأغنية في مراجعة الأفكار من العائلي إلى الوطني إلى التاريخي، إلى الاحتكاك بمفاهيم الاستشراق ونظرة الغرب الاستعلائية، ومحاولة الانتقام منها ولو بأغنية.
ومع ذلك فثمة مشكلات انطوت عليها هذه الأغنية، فكنت أتمنى لو أنها عالجت كل المسائل المهمة التي عالجتها، من دون الاستثمار في العنف، على أنها تبدي بين سطورها أن العنف الذي يشكل محورها إنما هو رد فعل على العنف الذي تتبناه بريطانيا في مواقفها تجاه القضية الفلسطينية.
كما أن بعض الجمل جاءت مرتبكة بعض الشيء، بالمقارنة مع جمل أخرى في الأغنية نفسها، مثلاً:
"سنة السبعة وتسعين،
الحكي قبل الانتفاضة
أبوي بشرب قهوة ع الريق
إمّي عاصرة ليموناضة
قامت ضوت التلفزيون
تشوف الرب بشو ابتلانا
فجأة صيّح المذيع:
ماتت الأميرة ديانا!"
في المقطع الأول ثمة اتساق جيد، يتصاعد ويستوي أكثر في المقاطع الأخيرة من الأغنية، لكن مقطعاً كالمقطع الرابع، يُحدث تساؤلاً عن العبث بالوزن والبناء وأسبابه التي انعكست على اللحن:
"إمي مسحت دمعتها
أخدت القهوة وع المطبخ
أبوي وقف محلّه
حكى بهدوء مش إنّه صرّخ
جمّع كلشي بقلبه برد
قلها مالك بتبكي؟
انقتلت أميرة، للقرد
عقبال ما تلحقها... الملكة".
التراكيب الغامضة
في "أحلى من برلين"، كان ثمة دفق فكري عال، ومع ذلك لم يضطر المتلقي للوقوف أمام تراكيب غامضة على نحو محير يضيع معه مسار الفكرة. أغنية "بخطرلي أشتقلك" تبدأ على نحو موفق:
"بخطرلي أشتقلك
بكنّس الفكرة
بجمع المكسور من كاسة الذكرى"
لكن الأمور تتعقد عند:
"بتأكّد من الرّف
إذا بعده بتحمّل
مراطبين الصمت وصحون تتأمّل
ترجع على السُفرة
تحمل أكل دافي
وزيت السنة يبلل خبز حافي".
المسألة نفسها تتكرر في أغنية "بحلم بغابة":
"بحلم بغابة لونها كحلي
بأرض رطبة مسوّرة بالبرد
بشجر عالي يطعن الغيمة
والغيمة تنزف شتا حجارة نرد
بحلم بعشبة لونها أحمر
جمرها حيّ بذاكرة الشجر
بترابها تيَمّم نشيد البوم
عن ذيب أنّ وصلّا للقمر".
وفي الأغنيتين كان اللحن نمطياً جميلاً، يشتغل على متواترات لحنية قصيرة، لكن الاضطراب الوزني الذي تقصّده الشاعر على ما يبدو، أثر على شكل الغناء، فبدا خارجاً عن القالب اللحني في بعض الأحيان.
أقول إن الشاعر تقصد هذا الاضطراب الوزني، لأنه أفلح في ضبط أوزانه سابقاً، كما أفلح في مواضع عدة في الألبوم الجديد، فلا يمكن أن تكون الاضطرابات تلك وقعت بطريق الخطأ أو غياب الخبرة، إنما يفترض أن تكون مقصودة، ليستوي الأمر، وهذا ما تؤكده أغنية "نشيد عربسرائيل"، حيث استوت الجمل فيها على وزن واحد، ساعد الملحن في خلق لحن ريذمي، مبني على Loop من شأنه تقريب الأغنية أكثر من المستمع، بل وأن يساعد في حفظها، وهذا أمر ضروري لأغنية أراد صانعاها أن تكون "نشيداً" يعبر عن اللاجدوى التي يعاني منها فلسطينيو الداخل المحتل، وتقوم بأدائها مجموعة.
المميز في هذه الأغنية إلى جانب الفكرة ونضج الكلمة، أنها اقترحت توزيعاً شرقياً يبدأ بيرغول، يقلد صوت الديك، ثم تنساب الإيقاعات المركبة من إيقاع إلكتروني وآخر حيّ، شكلا معاً متوالية جميلة، تعبر عن الطبيعة الهجينة لحياة الفلسطيني في الداخل، خصوصاً في تداخل اليرغول مع البيانو:
"يا نهر بركض محلّه
من الطيرة لعرب الخوالد
في مقهى ع طراف النهر
بَمرُق بلاقي حالي قاعد
يا نهر بركض محله
يا حكاية إبريق الزيت
حامل قوارب الي ضلّوا
يستنوا الفرح بالبيت"
وكان من النباهة كتابة اسم الأغنية على هذا النحو: "نشيد عربسرائيل"، بما يستبطن إنكار وجود إسرائيل من خلال حذف الحرف الأول من اسمها، والانصياع للأمر الواقع المؤقت من خلال إيراد اسمها بصورة دلالية.
ويستطيع الثنائي الغوص برقّة في هواجس البنت، في أغنية "بتعرف شو فكرت"، التي تراوح بين الأمنيات والواقع، وتحاول تعريف حالة الحب المتأرجحة بين فارس الأحلام والرجل الذي يطرق الباب للزواج، وبين الخيارين، تحاول الفتاة البحث عن ذاتها من خلال ما تتطلع إليه وما تفرضه الظروف من تنازلات.
لحن الأغنية جاء على صورة محاكاة لأغنيات خوليو إغليسياس؛ مؤطرة بإيقاع حر تُحدثه كوردات البيانو، وجمل تتسع وتضيق بما يعبر عن الحالة بشكل موفق.
وفي "تهليلة لعاطف"، ينبع اللحن من أحلام الظهيرة، في قيلولة عامل الباطون، الذي يعبر عن مجمل الآباء العائدين من تعب العمل إلى عتبة الراحة المؤقتة، التوزيع الموسيقي للأغنية خدم اللحن إذ استبطن توتراً عميقاً، رغم الاسترخاء الذي يبديه الإطار العام للموسيقى:
"نومة ظُهُر يا يابا
هدّي الجفون
غربل التراب الناعم
من الوجع المدفون
ارمي بأرض النوم
بذور الأغاني الي نسيتا، تتكبر بحلمي"
أما القطعة الموسيقية الوحيدة في الألبوم، فهي "تهليلة لفهيم"، وهو ابن شقيقة فرج، الطفل الذي أدى أغنيات ألبوم "فهيم"؛ لحنٌ سليم من كل علة، تكاد بلورات الضوء تطير منه.
"يمكن بدوّر عالوجع" أغنية مستغرقة بالصور الشعرية، تقوم على مبدأ التهويم، وهذا أمر محمود من ناحية، لكنه يقع في إطار المغامرة من ناحية أخرى، تدور الأغنية من الوجع إلى الوجع، وهو ما تحكم باللحن فجعله دائرياً.
وفي أغنية "قصتنا" تعود المجاورة بين الشرقي والغربي، على النحو ذاته الذي تجلى في أغنية "نشيد عربسرائيل"، من خلال تزويج اليرغول للإيقاع الغربي المركب على آخر شرقي، والجريان في الثيمة ذاتها، عبر سرد قصة الفلسطيني في الداخل المحتل، والوقوف على المفارقات:
"قصّتنا مثل شفِّة وسكي بعد لقمة روكفور
قصّتنا مثل ابن الشيخ لما تعلّم يكفر
سيجارة حرقت غابة خضرا وحلوة بعز الصيف
فراشة طارت عن الميسم هدّت على السيف"
أما الأغنية الأخيرة "لو بقدر" وهي عين الألبوم في رأيي، فاشتغلت على توفيق عناصر الجمال والإثارة والأناقة، لحن ريذمي هادئ وجميل، تؤطره كوردات البيانو، دون تدخل من آلات أخرى، في تشكيل منسجم مع الكلمات التي تسعى لتوحيد فلسطين كلها في أغنية ناعمة واحدة، تبدأ بحديث يبدو للحبيبة، إلا أنه يتطور لاحقا ليفاجئ المستمع بأن الحديث عن البلاد التي قسمها الاحتلال واستعصت على مقصّاته كلها:
"لو بقدر أشرّب أسئلتك من نبعة
لو يتجدّل شعرك بجذور الشجر
لو كل دمعة نزلت تقدر تضوي شمعة
وتنوّر سرانا من الغور للبحر
في صوت بالمدينة بحكي نكتة حلوة
عن سروة عم تلعب محبوسة بالبروة
عن شاعر بتعلّم من طفلة عم تروي
غناي راح تكمّل مهما تشدّ البلوة
لو بقدر أخبّي ضحكتك في غيمة
لو بنفع تشتّي بغزّة والجليل
راح نبني مملكتك لمّا نفكّ الخيمة
ونفتح كل بوابك لضو القنديل"
الألبوم في ميزان المقارنة
وتأتي مشروعية المقارنة بين "جبنا للولد بيانو" و"أحلى من برلين" من عاملين أساسيين: الأول نجاح الألبوم السابق في تقديم أغنية فلسطينية بهوية فنية جديدة، تحفر عميقاً نحو إيقاظ الأسئلة وشرح المعاناة اليومية على نحو شفاف وغير مزعج، إنما مثير وحاثّ على التضامن، وهو ما لم يتمكّن الألبوم الجديد من تحقيقه على السوية ذاتها.
والثاني أن الثنائي أصرّ على إعادة التجربة ولكن بأدوات جديدة، وهذا أمر إيجابي من حيث الإصرار على التجريب والتطوير واجتراح ما هو جديد في إطار المغامرة، ولكنه سلبي من حيث التورّط في محاكاة التجربة السابقة، والركض نحو فخ النجاح.
في المحصلة الألبوم جيد، ولكنه لا يستطيع الصمود أمام الألبوم السابق في أي مقارنة، وهذه نتيجة حتمية للمغامرة والمجازفة من أجل صناعة فنية جديدة، حيث إن التجريب مادة النجاح الأساسية، لكنه في الأساس مغامرة ومراهنة قد تصيب وقد تخيب، وقد تقترب من الهدف كما حدث في "جبنا للولد بيانو".
ولعل المشكلات التقنية في الألبوم، كضعف الماسترينغ، تسببت أيضاً في قضم حظوظه في الفوز بالمقارنة مع سابقه.
ولكن أن تحصل على فرصة المقارنة بأعمالك السابقة لا بأعمال الآخرين، فهذا بحد ذاته دليل نجاح وفرادة.