من أين يأتي الخوف؟ وما المعنى الذي يستطيع الخوف إضافته؟ أو بالأحرى من أين يأتي الخوف بمعناه المهدد أو المقلق؟
إنه العنف، منبع الخوف الذي يستمد الخوف منه معناه المهدّد، فثنائية العنف /الخوف هي التي تمنح المعنى لكليهما. إذا تخيّلنا أن العنف هو ذلك الوحش المهول الذي يولد من منابع معينة أو يكمن فيها ويبقى متخفياً، فليس بوسع الخوف إلا أن يرافقنا من مجرد التفكير في حقيقة وجود العنف أو من تجليه.
فالعنف أمر فطري يتفاوت وجوده وقوته من إنسان إلى آخر، فإما أن ينفذ إلى حيّز الوجود بالقوة الظاهرة التي قد تكون مادية ومحسوسة باستخدام القوة العضلية، أو أنه قد يأخذ شكلاً غير مادي، وتَغيُّر ماهية تلك القوة لا يغيّر أبداً من مراميها المقصود منها إلحاق الأذى والضرر بالآخر سواء كانت مباشرة أم غير مباشرة، خفية أم معلنة وظاهرة. فاختلاف الدوافع لتوليد العنف لا تغير من كونه سلوكاً عدائياً موجهاً ضد الآخرين؛ يستطيع سالكه رده إلى تبريراته الخاصة، وإننا في كل الأحوال نستطيع القول عند ظهور فعل عدواني فيزيائي في المحيط أنه عنف، لكن متى نستطيع القول عن مظاهر غير فيزيائية أو غير مادية أنها عنيفة؟
يُعَد الفيلسوف الفرنسي بيير بورديو من أوائل من تطرقوا إلى العنف الذي يوجد دون أن يدفع به من قبل قوة مادية ودون أن يأخذ مظهراً فيزيائياً وأطلق عليه العنف الرمزي. وعلى الرغم من أن العنف الرمزي هو قديم قدم البشرية لكن لم يسبق لأحد قبل بورديو أن شرح خلفية قواه ومصادر تلك القوى والأشكال والأساليب التي يتبعها العنف الرمزي لتحقيق مصالح الفئات المهيمنة.
يشير بورديو إلى تَطرُّق ماركس للعنف الاجتماعي لكن معالجة ماركس للعنف الاجتماعي ظلت محوِّمة في فضاء العنف الطبقي فقط، دون الإحاطة بخلفيات العنف الرمزي الذي يعمد إلى فرض المعاني بطريقة تولّد العنف أو تأخذ مظهراً عنفيّاً من خلال الكلام واللغة والرمز والإشارة والصورة ، بل إنها تتعدى ذلك لأن تكون قوّة ناعمة مجرّدة حتى من الظهور المعلن، وذلك بأن تفرض نوعاً من الهيمنة يعاد إنتاجها و تدويرها من قبل المؤثرين في الأوساط الاجتماعية الذين يعمدون إلى فرض رؤاهم و أفكارهم بالشكل والكيفية الأمثل لتحقيق مصالح معينة، بغض النظر عن الأضرار التي يمكن أن تخلّفها أو تسبّبها في النسيج والعلاقات الاجتماعية والبنى الثقافية والاقتصادية .
وتُستخدَم في سبيل ذلك مظلة من الممارسات القيمية والوجدانية والثقافية تعتمد على أدوات (كاللغة والخطاب والدلالة والمعنى) لتتحول هذه الأدوات تحت تلك المظلة إلى رأسمال رمزي يُمَكّن المؤثرين من ممارسة سلطة لا مرئية تتجسد في الواقع الاجتماعي ويستتر وجودها في كنه القضايا كافة، فتتمثّل في الأيديولوجيات وتستطيع الهيمنة على البيئات الاجتماعية والأوساط الثقافية من خلال استثمارها لجموع الرساميل الرمزية في خطاباتها.
ويُصَدَّر العنف الرمزي عبر الطرق والوسائل الرمزية الخالصة، أي عبر التواصل والتلقين والاعتراف ويذهب أبعد ليخترق أقصى حدود المشاعر والحميميّات، فيتجسد من خلال قدرته على تغيير الأوضاع الاجتماعية أو الثقافية عن طريق التأثير في المعتقدات أو تغيير وتحريف مقاصدها فيكون قادراً على بناء أو تغيير أو هدم معطيات فكرية من خلال ترسيخها أو مهاجمتها، حيث يرى بورديو أن القدرة على تحويل مسار التأثير باستخدام الألفاظ هي قدرة على فرض المعاني و الرؤى وتحويلها وهذا ما يُعَدّ قدرة على التعبئة التي تبدو "كالعصا السحرية".
ويَعتبر أن النفوذ القائم على العنف الرمزي يستطيع فرض دلالات معينة فارضاً أنها دلالات شرعية وحاجباً علاقات القوة الخفية التي تؤصل هذه الدلالات ما يكسب هذه الدلالات قوة ذاتية منفصلة عن قوة العلاقات التي تؤصّلها.
لذا نجد أن العنف الرمزي حسب بورديو ينطلق من نظرية إنتاج المعتقدات وتكريس صور معينة، وإنتاج خطاب يُدار من قبل أشخاص يتمّ تهيئتهم وإعدادهم لممارسة ولعب أدوار التقييم والتطبيع، لذا تُعَدّ الثقافة والعوامل المؤثرة في نشأتها من الحوامل الأساسية التي يمكن من خلالها تمرير وتصدير العنف الرمزي، فالعناصر الثقافية من قيم ومعتقدات وأفكار تتأثر بعوامل التربية والتنشئة الاجتماعية، وهذا ما استفاض بورديو في شرحه وتحليله في كتاب العنف الرمزي (بحث في أصول علم الاجتماع التربوي).
وهنا نستطيع التنبّه إلى الدور المسؤول الذي تتحمّله الثقافة التي تأخذ سبيل الحياد والموضوعية وتعزل تأثرها السلبي بالعنف وتقترن بأخلاق الفهم الإنساني، كي لا يُجَيّر استخدامها فتتحول لأداة عنف رمزي يوجهها المعنِّف نحو ذاته أو الآخرين، أو كي لا يتمّ استخدامها من أجل تصدير الهيمنة بأشكالها المختلفة.
إن قولنا الثقافة بشكل عام يحيلنا إلى أحد مفهومين عن الثقافة الأول يُقصد به الأفكار والقيم والتصورات التي يكتسبها الفرد بشكل تلقائي من الموروث الاجتماعي والعادات والتقاليد السائدة في بيئته الاجتماعية، ويُحيلنا المفهوم الثاني إلى مجموع المعارف والخبرات الإنسانية التي تدمغ رحلة كل إنسان في تجربة خاصة به دون غيره.
في تتبّع انتشار العنف الرمزي واقترانه بأحد المفهومين عن الثقافة نجد أن الثقافة بالمفهوم الأول هي الوسط الذي يجد فيه العنف الرمزي بيئته الخصبة للانتشار والتأثير، أمّا بالمفهوم الثاني فهي المسؤولة عن تصدير هذا العنف أو عن عدم تمريره، وهذا يطرح سؤالاً هاماً؛ ما الدوافع التي تكمن وراء تصدير المثقف "صاحب الخبرات والمعارف" للعنف الرمزي؟
قلّما نفاجأ من اختيار مفكر أو مثقف أو أديب لمذهب فكري أو اجتماعي أو اقتصادي أو حتى سياسي لينتمي إليه وهذا ما يفترضه بطبيعة الحال دوره، إذ يُعتبر أنه بذلك الانتماء اختار نطاق تأثيره الذي يجد فيه تحقيق القيمة الذاتية والنفع لمحيطه بما ينسجم مع رؤاه الخاصة، فلا يُعتبَرُ الانتماء بالضرورة شبهة تصمه بأنه أداة لتنفيذ أجندة او ترسيخها.
فالثقافة ليست تهمة تلحق بأصحابها افتراض أنهم أدوات لتصدير أو إعادة إنتاج هيمنة ما. لكن المثقف الذي يسلك سلوك التطرف والتهليل والهجوم والتبخيس والسخرية والشتيمة والسب أثناء الدعوة لأفكار جديدة أو لهدم وتشويه فكرة أو قيمة أو صورة شخص، يغدو جلياً أنه يفعل ذلك بدوافع ذاتية لتبوّء مكانة ما أو للدفاع عن تهديد بتفريط القيمة يشعر به.
يبدو واضحاً غياب الوعي عند بعض المثقفين حول تأثرهم السلبي بعوامل تنشئتهم وتربيتهم، وتغييبهم الواعي لدورهم المسؤول عن عدم تصدير العنف الرمزي من خلال الأساليب والرموز اللفظية التي تنقل صورة مؤذية عن الآخرين باستخدام الدلالات والاستعارات الرمزية. ما يُحيل بدوره إلى سؤال أبعد؟ ما الأسباب الكامنة وراء غياب هذا الوعي وما علاقته بأخلاق الفهم؟ وما ارتباطاته باضطراب تهديد القيمة الذاتية واضطرابات أُخرى؟
يعرف إدغار موران أخلاق الفهم الإنساني بأنها هي فن العيش الذي يتطلب منا القدرة على الفهم بشكل نزيه، ويتطلب مجهوداً كبيراً لأننا لا يمكن أن ننتظر من الآخر أن يفهمنا ويعاملنا بالمثل، ففهم الآخر وإن كان متعصباً أو عاجزاً عن فهمنا يعني فهم جذور وإشكاليات التعصب الإنساني، وبالتالي فهم لماذا وكيف نحقد أو نحتقر. إن أخلاق الفهم حسب موران تتطلب الحجج والتفنيد عوضاً عن عزل الآخرين ولعنهم، وتتطلب تلك الأخلاق تجنب الإدانة القطعية غير القابلة لإعادة النظر.
إن انجراف المثقف أو غيره في سبل التعنيف الرمزي من سباب وشتيمة وتبخيس وتشويه للمعاني والصور والدلالات والرموز حول أشخاص أو أفكار يحتّم غياب أخلاق الفهم التي تحدّث عنها موران، ويرتبط غياب تلك الأخلاق باضطراب سلوكي نفسي المنشأ تتأرجح فيه الصورة الذاتية للمعنّف بين القيمة التي تتمتع الذات بها وبين قيمتها التي تتهدد بالتفريط.
حيث تظهر إشكالية تقدير الذات للمعنّف في مواجهة الآخرين، وتشير إلى المدى الذي كان يتمنى فيها الإنسان فيه قبول ذاته وإثبات وجودها في مواجهة الآخرين وفشله في ذلك، وذلك لأن تقدير المعنّف لذاته هو عملية متذبذبة تتغير بسرعة في الأوضاع القلقة بين تقدير عالٍ ومنخفض للذات، وفي تتبّع هذا العَرَض نجد أنه أحد أعراض الاضطرابات السلوكية للشخصية الحدّيّة.
حيث يخشى الذين يعانون من هذا الاضطراب من الرفض ويعتبرون أن أفعال الآخرين تهدد قيمتهم بالتفريط. وتدلّ شدة رد الفعل لدى المشخصين بهذا الاضطراب على حساسيتهم تجاه الرفض والاختلاف. فيمكنهم أن يهاجموا شخصاً مباشرة بعد أن تعاطفوا معه وقاموا بدعمه وتزكيته، حيث تنقلب مشاعرهم تبعاً لتوقعاتهم الخاصة بسرعة وبشكل شديد إلى غضب؛ يعبرون عنه بشكل متطرف وغير لائق من خلال السخرية الجارحة والشتائم حتى إن كان هذا الشخص من المقربين، ومواقفهم تتقلب بناء على إدراكهم لتوفر الآخرين وموافقتهم لهم، فحالما يشعرون بالإحباط ينقلب هذا الإحباط إلى شعور بالتهديد بتفريط القيمة، ما يغضبهم ويدفعهم إلى التقليل من شأن الآخرين.
يعيدنا هذا إلى ثنائية العنف/الخوف، فالخوف المرافق والمصاحب لخطر تهديد القيمة لدى المثقف الذي يُشَخّص سلوكه باضطراب الشخصية الحدية هو ما يجعل من ثقافته أداة لممارسة العنف الرمزي اللفظي الظاهر، بينما يصعب عبر الزمن تتبُّع القوة الناعمة الخفية للعنف الرمزي الإيديولوجي الذي قد يمارسه مؤثرون آخرون من مثقفين أو غيرهم.
المصادر:
١- العنف الرمزي ل بيير بورديو، ترجمة نظير جاهل، الناشر: المركز الثقافي العربي بيروت والدار البيضاء، الطبعة الأولى 1994.
٢- تربية المستقبل لإدغار موران، ترجمة عزيز لزرق ومنير الحجوجي، دار توبقال للنشر المغرب، منشورات اليونيسكو، الطبعة الأولى 2002
٣--مراجع علمية متفرقة في الطب النفسي: مقالات أكاديمية حول اضطرابات الشخصية الحدية.
٤- اضطرابات الشخصية الحدية للدكتور محمود يونس أحمد، منشورات كنوز القاهرة طبعة أولى 2021.