زلزال كهرمان مرعش تاريخ لا ينسى

[صورة من جنديرس]. [صورة من جنديرس].

زلزال كهرمان مرعش تاريخ لا ينسى

By : Suzan Al-Mahmoud سوزان المحمود

يوم ٦ شباط من سنة ٢٠٢٣ زلزال كهرمان مرعش، لن ينسى أحد هذا التاريخ من سكان منطقة شرق المتوسط لعشرات الأجيال القادمة، سيروى مع حكايات أدب (الديستوبيا). إن ما فعلته مجموعة الزلازل التي حدثت ولاتزال تحدث في سوريا وتركيا هي شاهد أولاً على غضب الطبيعة الأم، وثانياً على تعرية الواقع الرهيب الذي أحدثته سنوات الحرب الطويلة في هذه المنطقة، والآثار الكارثية التي خلفها صراع مصالح القوى على الأرض، والإهمال الكبير للناس واحتياجاتهم الضرورية وأبسطها الحصول على سكن متين ولائق وآمن، إذ إن معظم الأبنية التي انهارت في معظم المناطق التي ضربها الزلزال المدمر وخاصةً التي كانت بعيدة عن مركز الزلزال كانت تفتقد إلى المعاييرالإنشائية السليمة ومواد البناء الجيدة، وقد أدلى خبير الزلازل الياباني يوشينوري موكوفوري بتصريح صادم لا يمكن أن ينسى في اليوم الأول لوقوع الزلزال إذ يقول: "وقت وقوع الكارثة يمكن للناس أن يشعروا بالندم ولكن من المستحيل أن تعفو الأبنية عن الأخطاء البشرية التي تحدث في عملية إعمارها، وبالتالي تتحول فوراً إلى قبور لنا." فيما يلي محاولة لرسم صورة حول ماحدث في الأيام الأولى، وقد استعنت بشهادات حية لأشخاص متضررين وناشطين ومتطوعين على الأرض من مختلف المناطق التي ضربها الزلزال المدمر:

تركيا

أنطاكيا يقول أحد الناشطين القادمين لتقييم الوضع على الأرض إن الوضع في انطاكيا رهيب. جزء كبير من المدينة سوي بالأرض وهناك بنايات غاصت تحت الأرض تماماً، أنطاكيا المدينة الأكثر تضرراً وأيضاً نور داغ و مرعش. ويضيف: ما رأيناه في بلدة نارلجا يشيب شعر الرأس منه، من بقي على قيد الحياة سافر إلى أقاربه في أورفا أو مرسين أو غيرها من المدن، أو انتقل إلى الخيم ومراكز الإيواء التي استقبلت المتضررين لأن الأبنية التي لم تسقط أصبحت متصدعة وغير قابلة للسكن عدا عن حالة الهلع بين السكان بسبب الهزات الأرضية المتكررة، ويقول للأسف كان هناك تمييز في المعاملة بين المتضررين وكان الاهتمام موجهاً بالدرجة الأولى للأتراك على حساب السوريين، فقد فتحت المطارات وقدمت تذاكر طيران مجانية للمواطنين الأتراك لإجلائهم على وجه السرعة، وهذا لم يحدث مع السوريين.

اسكندرون

وتقول السيدة روعة وهي من سكان اسكندرون "أكثر الولايات التركية تضررا هي أنطاكيا حيث تدمر 80% من المدينة ثم اسكندرون ثم كرخان وأُعلِنت إحدى عشرة ولاية تركية منكوبة جراء الزلازل المتلاحقة"، وتقول: "قامت السلطات التركية بترحيل سكان اسكندرون السوريين الذين فقدوا منازلهم إلى مرسين حيث تفاجأ الناس هناك أنهم سيقيمون في ملاعب رياضية دون تدفئة أو شروط إقامة مناسبة للعائلات، فعاد عدد كبير منهم إلى اسكندرون وانطاكيا ليقيموا في الخيم ومراكز الإيواء".وعندما سألناها عن أصعب الحالات التي رأتها قالت:"عائلة جيراني، بقيت تحت الأنقاض لفترة، ثم عندما انقذوا أُخِذَ كلُ فردٍ منها إلى مستشفى مدينة، العائلة مشتتة في مشافي ثلاث مدن تركية الآن" و"هناك طفلة صديقة ابنتي بالصف توفي أهلها الأب والأم وأحد أخوتها وبقيت هي وأخ وأخت على قيد الحياة فقط، وأصبحت الآن هي مسؤولة عنهما".
في مدينة أديامان التي تقع جنوب شرق تركيا وهي ذات أغلبية كردية يقول أحد الناجين من الزلزال المدمر: "بقيت أنا وعائلتي 44 ساعة في العراء وفي ظروف جوية سيئة للغاية حتى تمكنا من مغادرة المدينة بعد أن انهار البناء الذي نقطن فيه".

الشمال السوري كارثة إنسانية وواقع شديد التعقيد

إدلب وجسر الشغور

تقول السيدة نسرين وهي مدرسة لغة عربية من جسر الشغور تقيم حالياً في بلدة ييلداغي على الحدود السورية التركية: "في جسر الشغور تضررت الأبنية التي كانت متصدعة أصلاً بسبب الحرب وتضررت من القرى التابعة للجسر القنية، والملند، لكن الأضرار الكبيرة وقعت في بلدتي حارم، وسلقين، وتقول أن المساعدات لا تصل لهذه القرى بسبب المحسوبيات فمن ليس لديه واسطة في إدلب لا يصله شيء من مستحقاته".


جنديرس وعفرين

الأهالي يدفعون الفاتورة الأغلى للمرة الألف، بأرواحهم ومنازلهم وأرزاقهم ومستقبل أطفالهم، جميع القوى المتصارعة على الأرض مسؤولة عن تأخر وصول المساعدات إلى ضحايا الزلزال المدمر، كما حدث في جنديرس وعفرين حيث حُرِمَ الأهالي ومعظمهم من المكون الكردي من المساعدات بينما وزعت المساعدات على المقيمين الجدد (وهم أيضاً ضحايا الصراع القائم على الأرض منذ سنوات) الذين جاءت بهم قوى الأمر الواقع السياسية والعسكرية أثناء الحرب لتقوم بعمليات تغيير ديمغرافي في مناطق الشمال ذات الغالبية الكردية، حتى المنظمات الإنسانية في الشمال تذهب في نشاطها أحياناً باتجاه سياسي وتهتم بفئات بعينها، وسبق أن تداول ناشطون فيديو صوره متضررون من الزلزال من عفرين وجنديرس وقرى عفرين لجأوا إلى قرية الأمل يقولون فيه إن إدارة قرية الأمل من منظمة (أنصر) تمنع المنظمات الإغاثية من الوصول للأهالي فقد مُنِعت منظمة شفق الإنسانية من الوصول لهم وكانت تحمل مشروع مساعدة مالية مؤلفة من 150$ لكل عائلة متضررة، كما يقول أحد المتضررين و يقول أيضاً نحن ندفع ثمن الماء هنا، على الرغم من أن هناك منظمات توزع الماء الصالح للشرب لكن منعوهم من الدخول إلى مشروع القرية مسبقة الصنع، ومُنِع وصول مساعدات عدة منظمات أخرى، ويقول الطعام الذي يوزعونه هنا لايكفي كل المتضررين، وهم يقومون عن قصد بهذا التضييق ليجبرونا على الرحيل من هنا ليستقبلوا متضررين من فئات أخرى، والمنطقة هنا جبل بعيد لايمكننا أن نؤمن أغراضنا من الخارج، إن لم تأت به المنظمات لنا ، ثم وجه نداء للمسؤولين والإدارة التركية للطوارئ وللمجلس المحلي و لمنظمة آفاد أن ينجدوهم بأسرع وقت ممكن". وتقول ناشطة: "حتى المنظمات التي فيها أكراد مُنِعَ موظفوها من خدمة أهلهم في جنديرس وأُمروا بأخذ المساعدات إلى مخيمات ومناطق أخرى، ليُترك أهل جنديرس وعفرين ليواجهوا قدرهم لوحدهم عزلاً من كل مساعدة ممكنة من الآخرين، هذا ماقالته الناشطة الكردية المقيمة في ألمانيا السيدة أمينة مستو التي تقوم بتوثيق الانتهاكات في المنطقة الشمالية، وهي من قرية "كفر صفرة" قضاء جنديرس، تبعد عنها حوالي 5كم وجميع سكان قريتها ينزلون بشكل يومي إلى جنديرس لشراء حاجياتهم الضرورية. تقول تهدم 85% من بلدة جنديرس التابعة لعفرين، انهار 140 بناء بشكل كامل، ويوجد أربعة أبنية متصدعة كما يوجد أبنية متصدعة أيضاً في عفرين وقراها، وعندما سألناها من الحاكم على الأرض في هذه المناطق قالت: "الفصائل الإسلامية التي تحكم المنطقة هي أحرار الشرقية، وأحرار الشام، وفصيل سليمان شاه (أبو عمشة) متحكم ببلدة شيا وفصائل تركمانية فصيل السلطان مراد متحكم بنواحي راجو والبلبل. وتتابع السيدة أمينة: في جنديرس هناك عدد كبير من الأشخاص الذين بقوا على قيد الحياة فضلوا أن يبنوا خياماً فوق ركام بيوتهم وحاولوا سحب ما يمكن من أغراض منازلهم من تحت الركام، لأن الفصائل منعت عنهم المساعدة، الأهالي في حالة يرثى لها فوق مصابهم، وتقول: حتى المناطق التي حدث فيها الزلزال في تركيا غالبيتها أكراد لذلك كانت استجابة النظام التركي للكارثة التي حدثت هناك مخجلة ففي هاتاي ومرعش توفي عدد كبير من الضحايا بسبب بطء الاستجابة للكارثة وتُرِك السوريون تحت الأنقاض لفترة طويلة، لم تفتح الحدود حتى اليوم الرابع للزلزال. وتتابع حول ما جرى في جنديرس: "عانى السكان من التمييز العنصري فقد تُرِكَ الأهالي تحت الأنقاض وسحبت معظم الآليات التي كانت تقوم بعملية بناء في جنديرس إلى مناطق أخرى لإنقاذ الآخرين في إعزاز وإدلب في (حارم وسرمدا)(وأيضاً كان هناك أضرار في بلدات سنارة والنقلة وكاخرية). وتعقب: في منطقتنا هناك خوف دائم من بناء مستوطنات جديدة أعمق وأكبر، و خوف من طرد الأهالي خارج قراهم. عندما سألناها عن موقف الإدارة الذاتية من ذلك أجابت أن الإدارة لا تهتم أبدا بالأهالي داخل عفرين وجنديرس.

حلب

تقول السيدة غفران المقيمة في مدينة حلب قامت المبادرات الفردية في الأيام العشرة الأولى على نجدة الناس وذلك من خلال تقديم الحاجات الضرورية الاسعافية من سلات غذائية وأدوية وتقديم مساعدات مالية لتأمين سكن مستأجر للعائلات، وقمت أنا وزوجي بمساعدة وتأمين 65 عائلة متضررة، المناطق التي تضررت في حلب (الفردوس، وصلاح الدين، والأعظمية، والعزيزية ) بعض البنايات التي انهارت كانت قد تصدعت منذ وقت الحرب ووصل عدد الوفيات في حلب لأكثر من 500 حالة وفاة ويوجد عدد كبير من المصابين.
تقول السيدة ديمة وهي من العائلات التي نزحت من حلب بعد الزلزال باتجاه دمشق: "كنت أسكن في الأعظمية في حلب بعد أن نزحت من إدلب بسبب الحرب وهذه المرة أنزح للمرة الثانية بسبب الزلزال أنا وأمي وأخواتي وطفلة عمرها أربعة شهور من حلب لبيت أقاربي في حي "جبل الرز"في الشام.
وتقول السيدة أم منى "نزحت بعد الزلزال من بستان القصر في حلب إلى بلدة "صحنايا" في دمشق، بعد أن تصدع منزلنا وكُسِرت يد زوجي من جراء الزلزال، أتيت أنا وزوجي وابنتي ونزلنا عند أقاربنا هنا"وكان قد نزح عدد كبير من العائلات من مدينة حلب باتجاه حماه و اللاذقية ودمشق بعد الزلزال.

حماه والسقيلبية والغاب

يقول السيد باسل انهارت 10 أبنية في حي الأربعين وقسم من حي الفيحاء، وهذه الأبنية كانت متصدعة بالأصل بسبب خلل في الأساسات وتسرب في المياه، الوفيات حدثت في اليوم الأول للزلزال فقط بسبب انهيار هذه المباني. في السقيلبية كما يقول السيد منذر حنا الناس يعيشون حالة خوف وهلع حتى الآن حتى أنهم نصبوا بيوت شعر وخياماً في الخارج. وقالت لنا زوجته: "الناس لا تنام في الليل من الخوف" انهارت بعض البيوت في الحارة القديمة، لكن دون خسائر بشرية في قرى الغاب. في الشريعة انهارت البيوت التي بدون أعمدة في قرية عين الكروم انهارت بنايتان حديثتان وهناك حالتا وفاة و 16 إصابة وهناك أضرار في قرية الحوايق، وفُتحت مراكز إيواء في السقيلبية لمساعدة المتضررين وقامت الجمعيات الأهلية والأهالي بمساعدة كل شخص متضرر من الزلزال.


في اللاذقية وجبلة

أكبر فاجعة صدمت أهل جبلة واللاذقية سقوط "بناء الأطباء" وسط مدينة جبلة حيث لقي مجموعة من نخبة أطباء المدينة حتفهم مع عائلاتهم، جراء الزلزال بسبب سوء البناء مع العلم بأن جميع الأبنية التي تحيط ببناء الأطباء لم تسقط، ووصل عدد ضحايا الزلزال من الأطباء والصيادلة فقط في مدينة اللاذقية وما حولها إلى 31 طبيباً وطبيبة.
يقول عبدالله كنت أسكن في الرمل الجنوبي (الرمل الفلسطيني) لكن بيتي تصدع من جراء الزلزال خرجت أنا وزوجتي وأطفالي لنقيم عند والدة زوجتي مؤقتاً حتى نتمكن من استئجار منزل صغير خاص بنا.
تقول بسمة وهي معلمة سابقة ومتطوعة في مدينة اللاذقية تنشط في تقديم المساعدات منذ الأيام الأولى من حدوث الزلزال، أنا أسكن في المساكن الجديدة في القنجرة الحمد الله لم يتأذ البناء الذي أسكن فيه ، وعندما سألناها أي الحالات التي قامت بمساعدتها وتأثرت بها أجابت: "أكثر الحالات التي أثرت بي هي عائلة في (روضو) مكونة من أب وأم و6 أطفال أخبروني أنهم كانوا يحتفلون قبل وقوع الزلزال بمرور أسبوع على تسديد آخر قسط لبيتهم وأنهم انهاروا من الحزن عندما تصدع البيت وسقط أمام أعينهم وهم في الأصل أتوا نازحين من حلب إلى اللاذقية أثناء الحرب، و حاولوا أن يشتروا هذا البيت في قرية روضو بالتقسيط وهم أناس بسطاء للغاية، وليس لديهم تلفون للتواصل".
يقول السيد محمد من مدينة جبلة "خرجت أنا و زوجتي وأطفالي السبعة من بيتنا المكون من طابقين والذي تصدع من جراء الزلزال في أول العسّالية في جبلة التي تهدم فيها مايقارب ال 14 بناء سوي بالأرض والتجأت إلى بيت أهلي في حميميم الذي التجأ له أيضاً أخي وعائلته، ولكن منزل أهلي أيضاً مهدد بالانهيار بسبب بعض الشقوق التي حدثت به بسبب الزلزال، لا ندري أين سنذهب إذا تصدع بيت أهلي أيضاً". وعندما سألناه عن إمكانية استئجار بيت في جبلة أخبرني "أن عدداً كبيراً من الناس في مدينة جبلة تركتها وذهبت إلى القرى لأنهم يخافون من هزات قادمة وخاصة الأطفال الذين اختبروا هذا الرعب". وعن المساعدات المقدمة قال: "أن الهلال الأحمر السوري يقدم بعض المساعدة المنظمة لكن بشكل عام هناك فوضى وعدم تنظيم بموضوع المساعدات وعدالة توزيعها".
ويقول أخ أحد الضحايا الذين قضوا في العسّالية: "لم يتمكن أخي الشاب وزوجته من النجاة بعد أن أنهارت البناية التي يسكنون بها. اتصلت بأخوتي وقدموا إلى مكان الردم وحاولوا الحفر بأيديهم لإخراجهم من تحت الأنقاض لساعتين دون جدوى لأنه لم توجد آليات هناك للحفر وللإنقاذ، فقدناهما".
في جبلة تضررت مناطق الرميلة ، العسّالية، الفيض، الجندرية، العمرونية ، قبو العوام.
في القرداحة تضررت مناطق الهنادي، وسطامو، فديو. تواصلنا مع بلدية قمين وقال لنا أحد موظفي البلدية إن "البلدية مسؤولة عن 7 قرى منها ثلاث قرى متضررة وهي اسطامو، ومرخو، والنبي ريح، وحرث الهوى عدد الوفيات وصل إلى 54 شخصاً في اسطامو، وانتشل من تحت الأنقاض 21 شخصاً أحياء وتضرر 100 بيت، وهناك 14 كتلة بناء متضررة" وفي قرى بستان الباشا وصل عدد الوفيات إلى 49 شخصاً.

"وقت وقوع الكارثة يمكن للناس أن يشعروا بالندم ولكن من المستحيل أن تعفو الأبنية عن الأخطاء البشرية التي تحدث في عملية إعمارها، وبالتالي تتحول فوراً إلى قبور لنا."

تقول السيدة هيام سلمان وهي فنانة تشكيلية أسست مع زوجها النحات ماهر علاء الدين جمعية "أرسم حلمي" في 2010 في مدينة اللاذقية، وهي جمعية ثقافية فنية تشكيلية تعنى باكتشاف مواهب الأطفال: "بدأت بالعمل الإغاثي من ثاني يوم لحدوث الزلزال. تواصل معي أصدقاء من كل سوريا ومن الخارج كانوا يسألون عن كل ما يحدث هنا، اضطررت أنا وزوجي للنزول إلى الميدان، وكان مؤلماً جداً ما رأيناه، وما تعرضت له الأسر من جراء الزلزال، بيوت مدمرة بالكامل تحولت إلى ركام، وبيوت أخرى متصدعة متخلخلة، المأساة الأكبر كانت جموع الناس التي تشردت وفقدت بيوتها البيت الذي يعني الحماية والسكينة، حزَّ بنفسي الأطفال الذين تشردوا وفقدوا أهلهم والصبايا والشباب والأشخاص الذين فقدوا كل شيء، نظمنا عملنا باتجاه العائلات التي استضافت عائلات منكوبة بينما اتّجه البعض للعناية بالمتضررين الذين التجأوا إلى مراكز الإيواء، نحن اتجهنا للعائلات التي استضافت عائلات أخرى منكوبة لمساعدتها في تحمل مسؤوليتها، وكان التواصل الكبير عن طريق الانترنت لتأمين الدعم للناس، قام المجتمع مدني بعمل جبار كأفراد وكمنظمات وكمؤسسات. الزلزال قرّب السوريين من بعضهم البعض، التواصل بين المجموعات على الأرض وبين المغتربين، والثقة المتبادلة في المجتمع الأهلي من أجل الدعم والمبادرات لتأمين أماكن سكن وجمع مبالغ لاستئجار بيوت للمتضررين، العمليات الجراحية التي تكفل بها أشخاص، الأطفال الذين أخرجوا من تحت الردم والدعوة لإقرار قانون للتبني وكفالة الأطفال اليتامى الذين فقدوا ذويهم، قدمنا المساعدة في اللاذقية ثم خرجنا إلى الريف لنرى كيف يمكننا أن نساعد المتضررين في القرى النائية في ريف اللاذقية وجبلة والتي لم تصلها مساعدات، والتي رغم فقرها الشديد تستضيف عائلات منكوبة. وعندما سألنا السيدة هيام كيف ترين مرحلة ما بعد الحلول الإسعافية. أجابت: "للأسف لا أرى هناك شيئاً يبشر بالخير، هناك بطء بتقديم الخدمات للناس، والناس عندها حزن وعتب كبير عندما نزورها تشتكي بألم. قالت لي إحدى العائلات في الريف لم يعزنا أحد أو يقدم لنا مساعدة حقيقية، ليس هناك عدالة في توزيع المساعدات، المبادرات الفردية جيدة جداً نتمنى أن تحدث إعادة إعمار سريعة وبناء بيوت للمتضررين لأن أماكن الإيواء يجب أن تكون حلاً مؤقتاً وليس دائماً ويجب أن ينتقل الناس إلى بيوت بأسرع وقت ممكن وتُقدم لهم تعويضات ليحدث استقرار. لا يوجد تعويض عن الضحايا لكن تأمين المسكن مهم جدا.
وعندما سألنا متطوعين ناشطين على الأرض حول أهم الصعوبات التي واجهتهم في الأيام الأولى للكارثة، أجابوا: "صعوبة إنقاذ الضحايا بسبب تأخر وصول الآليات إلى أماكن الردم بسبب عدم توفر المحروقات من بنزين ومازوت في البلاد، عدم وجود مختصين برفع الأنقاض، سوء الأحوال الجوية ليلة وقوع الزلزال، صعوبة إسعاف المصابين إلى المشافي، ثم واجهنا فيما بعد صعوبة في تأمين حليب الأطفال وأدوية مرضى السرطان وأمراض الكلى والأمراض المزمنة ذات التكاليف العالية جداً"، بعد الأيام الأولى من العمل التطوعي الإسعافي طلبت منا الجهات الرسمية الحصول على تراخيص للاستمرار في العمل التطوعي من تقديم مساعدات وغيرها، وجدنا صعوبة في ذلك لأن معظمنا يعمل بشكل تطوعي فردي وليس تحت غطاء جمعيات أو مؤسسات.

دور السوريين في الخارج في مساعدة أهلهم داخل الوطن

أنشأت على وجه السرعة مجموعات دعم كبيرة من شبكات التواصل عبر شبكات التواصل الاجتماعي من فيسبوك وواتس، وغيرها، لتنسيق عمليات المساعدة وتقديم الخدمات للمتضررين من الزلزال حيث قام عدد كبير من السوريين المقيمين في الخارج من مهاجرين ولاجئين بإرسال حوالات مالية بشكل مستمر لأهلهم وأصدقائهم في الداخل ليتمكنوا من تقديم المساعدة للمصابين ولعائلاتهم، وكان للنساء دور كبير في ذلك من جميع دول العالم قامت النساء بالمشاركة بالعمل الإغاثي. إحدى السيدات السوريات المقيمات في السويد كانت تهتم بأمور تنسيق وتوصيل المساعدات لأهالي مدينتها في سوريا بينما تنقل طفلتها المريضة باللوكيميا إلى المشفى، وهي (أي السيدة) تقاوم نوبات الشقيقة، بينما تفكر بأبناء بلدها المنكوب وتبكي بحرقة عجزها أمام مصابين كبيرين مصابها الشخصي ومصاب بلدها، أيضا سوريات مقيمات في فرنسا وإيطاليا والنمسا وبريطانيا وتركيا ومعظم دول العالم كن يعملن مع مجموعات الدعم على الأرض، يقمن بجمع التبرعات وإرسالها إلى المدن السورية المنكوبة، ويقمن بعمليات جمع المعلومات الإغاثية وأماكن توفر الدواء وحليب الأطفال ومساعدة المتطوعين على الأرض، وإرشاد المتضررين إلى مراكز الإيواء.

بعض الملاحظات المشتركة بين جميع المناطق التي حدثت فيها الزلازل:

بطء الاستجابة الرسمية للكارثة الإنسانية إن كان في تركيا أو في مناطق نفوذ قوى وسلطات الأمر الواقع في الشمال السوري أو في مناطق سيطرة الدولة السورية، مقابل سرعة ونجدة المجتمع الأهلي لأهله المتضررين حيث قام الأهالي بمحاولات يائسة لنجدة عائلاتهم بحفر الأنقاض بأصابعهم وأيديهم لساعات وفي مناطق أخرى لأيام لإنقاذ الضحايا حدث هذا في أنطاكيا وجنديرس وحلب وجبلة، سمعنا القصص نفسها، لأن الآليات تأخرت لساعات في الوصول الى أماكن الكارثة.

أيضاً تأخر قرارات فتح المعابر أمام المساعدات الإنسانية وفرق الطوارئ في الشمال.

البطء في تذليل الصعوبات للوصول للأماكن المنكوبة.

البطء بسبب الاعتبارات السياسية والقوى الحاكمة على الأرض وتحكم هذه القوى بمصائر الأهالي داخل مناطق نفوذها في الشمال.

وصول كميات كبيرة من المساعدات الدولية والأهلية، لكن كان هناك فارق كبير بين كمية المساعدات الواصلة وكمية المساعدات الموزعة على أرض الواقع وعدالة توزيعها على المتضررين في معظم المناطق، داخل سيطرة الدولة السورية وخارج سيطرتها، وهناك مناطق تم فيها الاستيلاء على المساعدات وتوزيعها لفئات تهم الفصيل المسلح الذي يحكم المنطقة.

قامت الكارثة الطبيعية بتعرية دور الفساد الهائل الذي انتشر على مستوى البلاد جميعها في العقد الأخير، وترهل مؤسسات الدولة وتخليها عن مسؤولياتها تجاه مواطنيها، إن كان في مناطق سيطرة الدولة الرسمية أو في المناطق التي أصبحت خارج سيطرتها وما اصطلح على تسميته سياسياً بالمناطق المحررة، والذي يقع تحت حكم قوى الأمر الواقع من فصائل عسكرية مسلحة تتبع سياسياً لقوى دولية وإقليمية مختلفة، يعاني الأهالي تحت حكمها الأمرين لولا بعض منظمات المجتمع المدني الإنسانية التي تقدم في بعض المناطق الشروط الدنيا للعيش.

معظم الأبنية التي انهارت في جميع المناطق غير مطابقة للمواصفات المعيارية للسكن، في جنديرس كل ما بني بعد عام 2011 انهار، وفي حلب الأبنية المتصدعة من جراء الحرب والمُنشأة بعد الحرب، وفي جبلة واللاذقية الأبنية التي انهارت كانت غير مطابقة للمواصفات بناها مقاولون تجاريون غير مهتمين بحياة الناس، حتى في الأبنية ذات الأسعار المرتفعة جدا.

تواضع الحلول، فقد ذكرت وكالة سانا السورية الأخبارية الرسمية أن مصرف "الوطنية للتمويل الأصغر" أطلق قرض "ساند" المخصص لترميم وإعادة تأهيل المساكن المتضررة من الزلزال في محافظات حلب واللاذقية وحماة، دون فائدة وبقيمة تمويل تصل حتى 18 مليون ليرة سورية، وعلى فترة سداد تمتد إلى ست سنوات، لكن معظم المتضررين لن يتمكنوا من الاستفادة منه بسبب شروطه المعقدة وثانياً لأن معظمهم لايمكنهم أن يقوموا بسداد الأقساط الشهرية بعد أن فقدوا كل ما يملكون وعدد كبير منهم يعيش على المساعدات المقدمة من الآخرين، أيضاً هذا المبلغ لا يمكن أن يفعل أي شيء حقيقي لمن فقد منزله بسبب انهيار سعر صرف الليرة مقابل الدولار الأمريكي، الحل الحقيقي الذي يجب أن تقوم به الدولة هو بناء وحدات سكنية بشروط فنية صحيحة مُقاومة للزلازل للمتضررين، وكانت مؤسسة الهلال الأحمر الإماراتية قد أعلنت عن نيتها بناء 400 وحدة سكنية للمتضررين لكن غير معروف في أي مكان حتى الآن، وكانت قد أعلنت قطر عن نيتها إرسال غرف مسبقة الصنع كانت قد استخدمت في المونديال سابقاً لمتضرري الزلزال في الشمال.

في تركيا وعد الرئيس التركي طيب رجب أردوغان الأتراك بأنه خلال عام سيكون قد بنى وحدات سكنية تستوعب جميع المتضررين الأتراك من الزلزال، لكن هذا لن يشمل للأسف السوريين الموجودين في تركيا بشكل غير قانوني أو نظامي، ممن لا يملكون "الكملك" الرقم الوطني التركي.

حتى الآن لم يتلقَ المتضررون (من غير المتواجدين ضمن مراكز الإيواء الرسمية) أي دعم نفسي لما بعد الصدمة، وخاصة الأطفال، في حين أُعلن عن خارطة خدمات الدعم النفسي الاجتماعي المجانية من قبل منظمة "مستقبل سوريا الزاهر" ويضم الملف عدداً من الجمعيات والفرق والمنصات الجاهزة لهذا الدعم لكن سيكون هناك عوائق كبيرة أمامها خاصة أن معظم هذه المنظمات ستقوم بعملها عن بعد، أي أنها بحاجة لخدمات وخطوط انترنت وهاتف سريعة لتتمكن من الوصول إلى المتضررين، وبالتالي سيكون هناك عدد كبير من المتضررين خارج شبكات الدعم هذه بسبب سوء خدمات الاتصالات في الكثير من المناطق المتضررة، في حين تقول السيدة ريتا أن الجمعية السورية للتنمية الاجتماعية في حلب تقدم الدعم النفسي بشكل مباشر للمتضررين المتواجدين في ستة مراكز للإيواء في حلب، منذ اليوم التالي لزلزال المدمر 7منذ شباط.


الزلزال جيولوجيا

سألنا الجيولوجي الأستاذ مضر سليمة بضعة أسئلة أولها لماذا وقع الزلزال وكيف؟
ثانيها ما التربة التي تأثرت بالزلزال بناءً على قراءتك الجيولوجية؟
ثالثها هل هناك إحصاء لعدد الأماكن المتضررة بالزلزال؟
رابعها كيف تتوقع أن يكون مستقبل المنطقة بالنسبة للزلازل، هل ستبقى مهددة؟
وكانت إجابته كالتالي:
يقع الجزء الأكبر من سورية تكتونياً؛ شمال الصفيحة العربية، ويحد هذه الصفيحة من الشمال الغربي صفيحة الأناضول ومن الشرق والشمال الشرقي الصفيحة الآسيوية، في حين يحدها من الغرب الصفيحة الأفريقية التي يمثل الساحل السوري أطرافها الشمالية الشرقية.
تتدافع الصفيحة العربية مع صفيحة الأناضول وفق فالق تنغرز إحداهما تحت الأخرى نتيجة حركة الصفيحة العربية نحو الشمال ويتفرع عن فالق التدافع فوالق انزلاق،هذه الحركة بطيئة وأحيانا متوقفة نتيجة المقاومة التي تبديها صفيحة الأناضول ولكن في اللحظة التي تتراكم فيها القوة وتصبح مقاومة صفيحة الأناضول أقل من قوة الدفع القادمة من الصفيحة العربية تحدث الهزات.
وهذا بشكل عام ما حدث منذ أيام وماسبق أن حدث منذ أكثر من مئة عام، لكن التفاصيل في حدثنا الآني تحتاج إلى دراسات ميدانية وسيزمية لتحدد بالضبط نوع الحركة ومدى تأثيرها وما قد ينجم عنها. لكن في الأيام الأولى: لا يستطيع المختصون سوى تقدير ما حدث، من خلال قراءة البيانات المسجلة ومنها شدة الهزات ومدتها الزمنية وعدد الهزات ومناطق وقوعها وترتيب وقوعها، وهذا ما حاولت فعله شخصيا، الجميع شعر في اليوم الأول أن الهزات كانت كبيرة وطويلة وهذه صفات الهزات الناتجة عن التصادم أما لاحقاً فقد ظهرت هزات قصيرة وشديدة وهذه صفات الهزات الناجمة عن الانزلاق strike-slip وكان معظمها (أي الانزلاق) في الساحل السوري.
لماذا تأثرت مناطق بعيدة عن الزلزال كجبلة أكثر من مناطق أخرى قريبة ككسب ورأس البسيط؟
هناك عوامل كثيرة يمكن ذكرها، ولكن ما يستحق الاهتمام (برأيي) هو نوع التربة أو الصخر الحامل فبالعودة إلى الخرائط الجيولوجية في المنطقة (حيث تثنى لي التحقق) نلاحظ الآتي:

منطقة دمسرخو وما حولها مناطق السهل الساحلي من اللاذقية إلى جبلة تقع فوق ترب لحقية.

الرمل الفلسطيني (تربة رملية).
أما الأماكن التي لم تتضرر أو كان الضرر فيها محدوداً فكانت على سبيل المثال:

صلنفة وكسب، والتربة فيها كلس صخري.

برج اسلام ، كرسانا، القنجرة، سقوبين، عين البيضا، المشرفة والتربة في هذه المناطق كلس مارني.

اللاذقية: بترب متنوعة (كلس، كلس مارني، افيوليت، صخور رملية).

رأس البسيط، صخور أفيوليتية.

وكنتيجة، وبغض النظر عن جودة البناء نجد أن أنواعاً من التربة، ساهمت في التقليل من أضرار الزلزال بعكس أتربة أخرى كان لها دور فاعل في انهيار كثير من المباني.
الإحصاء هو مهمة تقوم بها المؤسسات المتخصصة وعلى هذه المؤسسات الأخذ بعين الاعتبار الدور الذي يلعبه الجيولوجيون في المساهمة بدراسات ناجحة.

مستقبل المنطقة:

وفق ما ذكرنا في بداية الحديث فإن الصفائح المكونة للقشرة الأرضية دائمة الحركة وهناك لحظة (قد تطول) ولكنها آتية آجلا أم عاجلاً تعجز فيها صفيحة ما عن مقاومة الأخرى. وسورية التي يقع جزءها الأكبر على الصفيحة العربية يقع بعضها على الصفيحة الأفريقية في حين يمثل شمال اللاذقية امتداداً لصفيحة الأناضول، أي أننا مزنرون بالفوالق المتحركة، وهي مناطق زلزالية نشطة دوماً.

 

[تُنشر هذه المقالة بموجب اتفاقية مع موقع صالون سوريا].

بدرخان علي: "الانتخابات الحرّة" ليست شيئاً عظيماً، بعد خراب البلد

‫يأخذنا الباحث الكردي السوري بدرخان علي في هذه المقابلة في جولة نقدية حول الثورة السورية ودروبها المتشعبة، خصوصاً في المناطق ذات الأغلبية الكردية، التي تقع تحت سيطرة أحزاب كردية متعددة، تتضارب في المصالح والأهداف. ويتطرق إلى طبيعة العلاقة التي تربط حزب الإتحاد الديمقراطي PYD بالنظام السوري وبحزب العمال الكردستاني PKK في تركيا، وكذلك عن علاقة بقية الأحزاب الكردية بالسيد مسعود البرزاني رئيس إقليم كردستان العراق. وهو إذ يصف نفسه هنا بـ "أكثر المتشائمين"، لا يرسم بطبيعة الحال، صورة وردية عن مستقبل سورية ما بعد الأسد، إلا أن مكاشفته القارئ تلامس حيزاً كبيراً من هواجس كل سوري ومخاوفه المستقبلية.

م.د: ثمة لغط كثير حول مطالب الأكراد، هل لك أن تضعنا بصورة تفصيلية وواضحة حول المطالب الكردية الحقيقية؟‬

ب.ع: قبل اندلاع الثورة السورية كانت مطالب الحركة السياسية الكردية ترد إجمالاً في صيغ "الحقوق القومية المشروعة للشعب الكردي في إطار وحدة البلاد". وكان ثمة تشديد دائم على نفي تهمة الانفصال عن سوريا التي تلصق عادة بالحركة الكردية، وإبراز الدور الوطني للكرد في سوريا منذ الاستقلال حتى اليوم. وبالطبع التركيز على المظالم التي مورست بحق الكرد، مثل حرمان حوالي ربع مليون منهم من الجنسية السورية بموجب الإحصاء الاستثنائي لعام 1962 الخاص بمحافظة الحسكة، وحظر اللغة والثقافة الكرديتين إلى التمييز في سلك الديبلوماسية والجيش، وإقامة "الحزام العربي" في محافظة الحسكة.
بعد اندلاع الثورة وتشكيل المجلس الوطني الكردي (إئتلاف يضم معظم الأحزاب الكردية والتنسيقيات الشبابية الكردية) طرحت صيغة حق تقرير المصير في إطار وحدة البلاد، واللامركزية السياسية، ومن ثم الفيدرالية والدولة الاتحادية. يلاحظ أن هناك تصوّراً كردياً غالب أنّ الفرصة مواتية لانتزاع أكبر قدر من المطالب القوميّة بعد سقوط النظام الحاكم. وفي ظنّي هذا رهان كبير، ولا يخلو من قدر غير محسوب من المغامرة، ويحصر المسألة الكردية في السلطة الحاكمة أو شخص الرئيس. ويغفل معطيات وعوامل عديدة في المسألة القومية الكردية في بعدها السوريّ.

م. د: ما هي العوائق التي تقف في طريق المطالب الفيدرالية الكردية؟

ب.ع: الحقيقة أن هناك جملة عوامل جغرافية، سكانية، محلية، سياسية، إقليمية تطرّقت إليها في كتابات سابقة سوف تعترض صيغة الفيدرالية المطروحة بمجرد سقوط النظام، لا بل من الآن. وستضطر النخبة الكردية نفسها إلى مواجهة الواقع كما هو، لا كما تشتهي. حتى الآن رغم كل الاجتماعات واللقاءات والنقاشات، ورغم إلحاح الجانب الكردي، ورغم رغبة قوى المعارضة في ضمّ الأحزاب الكردية إلى صفوفها، لم تبد أية جهة سياسية سورية موافقتها على هذه المطالب الفيدرالية، أي أنه لم يمكن حتى الآن انتزاع "اعتراف وطني-عربي سوري" بالحقوق الكردية وفق ما تطرحها القوى الكردية. وهو الأمر الذي تسبّب به الطرف الكردي برفع سقف مطالبه خلال الثورة، وكذلك بعض الأطراف في المعارضة التي لا ترى في المطالب الكردية سوى مشكلة عابرة لا تحتاج سوى إلى كلمات عامة، ناهيك عن وجود تيار قوميّ- شوفينيّ بكل معنى الكلمة داخل صفوف المعارضة اليوم.

وهناك لا شك عوامل عديدة سوف تحدّ من بقاء سورية دولة مركزية متشددة، بالمعنى الإدراي الإقتصادي-الأمني، أي بصورة تتيح للأطراف والمحافظات ممارسة سلطات أوسع في نطاقها المحليّ. لكني أرى أن تصبح سورية دولة لامركزيّة سياسياً ودستورياً، أمراً بعيد الاحتمال.

خلال فترة قصيرة من الإضطراب والفوضى قد تمارس سلطات الأمر الواقع من جماعات مسلّحة وقوى سياسية قدراً من سلطة سياسية محليّة. لكن ليس على المدى البعيد وعلى نحو مستقرّ. من جهة أخرى يبقى الأمر مرهوناً بمآلات الحرب القائمة في البلاد، وكيف ستنتهي، والارتدادات الإقليمية للصراع السوري.

م.د: هل يخشى الأكراد من أن تدير المعارضة السورية العربية لهم الظهر حال سقط النظام، وما الضمانات التي تطالبون بها لمنع ذلك؟

ب.ع: بلى، هناك تخوّف من هذا القبيل، ويستند هذا الخوف إلى ميراث الاضطهاد والتهميش الذي مورس بحق الكرد بعد مشاركتهم الفاعلة في نيل استقلال سورية عن الانتداب الفرنسي، كما يجري استحضار تجارب كردية خارج سورية وبشكل خاص المشاركة الكردية في معارك الاستقلال التركي ووعود كمال أتاتورك لهم بالحكم الذاتي والمشاركة في الدولة الجديدة، والتي أخلفها على الفور بعد نيل الاستقلال ومارس أشد السياسات عنفاً وشوفينية ضد الكرد في الجمهورية التركية التي سارت على نهجه في اضطهاد الكرد. كما مشاركة الكرد في "الثورة الإسلامية" في إيران عام 1979. وتهميشهم واضطهادهم بعد استقرار الحكم للملالي ورجال الدين. يعبّر أحياناً بعض الساسة الكرد عن ذلك، في لحظات الصراحة والوضوح، بالقول "لن نكون بندقية على كتف أحد" أو " ثوّاراً تحت الطلب". الثورة السورية أنعشت آمال الأكراد في سوريا في نيل حقوقهم، ودفعت النخب، باستثناءات قليلة، إلى رفع سقف مطالبها على شكل حكم قوميّ ذاتيّ موسّع (بصرف النظر عن التعبيرات)، من غير أن يطالب أحد بالانفصال عن سوريا. الضمانات المطلوبة المطروحة هي انتزاع اعتراف مسبق من الآن بتضمين الحقوق القومية الكردية، بالصيغة المطروحة، في الدستور القادم.

م.د: تحوّلت مناطق الأكراد إلى مناطق آمنة للاجئين السوريين من المناطق التي تعرضت لعنف النظام بعد احتضانها المعارضة المسلحة، فهل تضعنا في صورة الوضع الاقتصادي في تلك المناطق؟ وما صحة أن حزب العمال الكردستاني يدير الوضع الاقتصادي/ المعاشي بغض نظر من النظام؟

ب.ع: كان الوضع المعاشي في محافظة الحسكة ممكناً و مقبولاً، بشكل نسبي، حتى قبل بضعة أشهر وكان النازحون من المناطق السورية الأخرى يتمتعون بأمان. لكن مع اشتداد المعارك في المنطقة الشرقية والاشتباكات بين الجماعات المسلحة العربية والكردية في رأس العين (سري كانيه) والخراب في البنية الخدمية عموماً وحالة الفوضى وبروز العصابات التي تسطو على الشاحنات القادمة من حلب وغيرها، تدهورت الشروط المعيشية خاصة خلال الشتاء حيث البرد الشديد وانقطاع الكهرباء لساعات طويلة و أيام متواصلة أحياناً. وبسبب إغلاق المنافذ بين المحافظة والجوار، التركي والعراقي، حيث المعبر بين قامشلي ونصيبين التركية مغلق، والمعبر بين اليعربية (تل كوجر) السورية وربيعة العراقية مغلق أيضاً، ورأس العين تشهد معارك، والسلطات التركية كانت تسمح فقط للمسلّحين والأسلحة بالدخول لمجموعات مسلّحة مدعومة منها على الأغلب، قامت حكومة إقليم كردستان العراق بإرسال معونات إنسانيّة مقدّمة باسم رئيس الإقليم السيد مسعود بارزاني، تتضمن محروقات ومواد أساسية لأهل المحافظة عبر معبر غير نظامي بين حدود إقليم كردستان العراق ومدينة ديرك (المالكية) الكردية السورية، ودون موافقة الحكومة المركزية في بغداد. وكذلك السماح بإدخال معونات مقدمة من المواطنين وجمعيات وقوى سياسية عبر الإقليم. وقد شكّل هذا المعبر شريان حياة صغير للمنطقة ومازالت بعض المواد الأساسية ترد عبره. أما في المناطق الكردية الأخرى شمال حلب والرقة فالوضع هناك أسوأ، حيث منطقة عفرين مثلا (شمال حلب) محرومة من أية مساعدات إنسانية من الجهة التركية.

م.د: في مؤتمر القاهرة الذي أعد لوحدة المعارضة، حصل في نهايته خلاف عربي- كردي أرخى ظلالاً سيئة على العلاقة العربية الكردية عموماً وعلى وحدة المعارضة السياسية. هل ترى أن الخلاف بين العرب والكرد هو خلاف عميق الجذور من الصعب تجاوزه على المستوى السياسي فحسب، أي أنه عمودي، أم أنه خلاف مرهون بوجود الاستبداد ويزول بزواله؟

ب.ع: لا أودّ الحديث غير الواقعي بالتهويل عن متانة الوحدة الوطنية وإطلاق الشعارات الجميلة. وكما بيّنت في سؤال سابق، مشكلة الكرد وحقوقهم ليست مرهونة فقط بالنظام الحالي، ولا بالطبقة الحاكمة وحسب، حتى يكون إسقاطهما حلاً ناجزاً للمسألة الكردية. بالتأكيد، الاستبداد المديد، وثقافة حزب البعث القومية، وتغييب الحياة السياسية والحريات العامة أسهم في تعقيد القضية الكردية. كما أن تطورات المسألة الكردية في الجوار الإقليمي تلعب دوراً مؤثراً على الحركة الكردية في سوريا.

لكن الفرق الأساسي هو بين رؤيتين أساسيتين (مع استثناءات وتدرّجات في الجهتين): الكرد باتوا ينظرون إلى سوريا من منظورهم الكرديّ الخاص (ولذلك أسباب ومعطيات) أكثر من أي وقت مضى، أي كشعب ضمن شعب وإقليم ضمن دولة، وتحضر هنا تجربة كردستان العراق في المخيلة السياسية، في المقابل ينظر عموم السوريّون إلى الكرد من منظور عام، "الوحدة الوطنية" و"الشعب الواحد" و"أسنان المشط".

في تقديري: الواقع الذي سيفرز بعد سقوط النظام ونتائج الحرب المستعرة حالياً، والمخاض الإقليمي جراء الوضع السوري المتفجّر، والجدل القائم حول البدء بحل ما للقضية الكردية في تركيا وما سيتمخض عن ذلك، سيكون له دوراً كبيراً في تقرير حدود الحلّ السوري للمسألة الكردية. أي موازين القوى ومعادلات القوة الناتجة. الشعارات من الطرفين (سلباً أو إيجاباً) لن تفيد كثيراً، ولا "التطمينات" المتبادلة. رغم أهمية التواصل الأهلي وضرورة التنسيق بين المكونات الاجتماعية في المناطق المتداخلة من أجل تجنب الصراعات الأهليّة.

م.د: ثمة كثير من الأساطير تحاك حول حزب الاتحاد الديمقراطي (الجناح السياسي لحزب العمال الكردستاني) بين من يرى أنه يعمل لحساباته الخاصة مستغلاّ التحولات الحاصلة في سوريا والمنطقة، وبين من يرى أنه أداة بيد النظام السوري، وبين من يرى أنه يتحاور مع أنقرة من تحت السطح. كيف تقرأ واقع هذا الحزب الإشكالي في الانتفاضة السورية؟

ب.ع: القسط الأكبر من "الأساطير" التي تقال عن حزب الاتحاد الديمقراطي ( pyd) تعود إلى سياسته وسلوكياته بالطبع، لا إلى اتهامات من الآخرين. فالواقع أن سياسة الحزب في سوريا خاضعة تماماً للأجواء التي تسود العلاقة بين قيادة حزب العمال الكردستاني، خارج سوريا، والسلطة السورية. ولو قارننا مثلاً موقف الحزب في انتفاضة قامشلي 2004 مع موقفه الحالي لتوصلنا إلى ذلك. ففي العام 2004، كانت علاقة الحزب قد تدهورت مع دمشق بعد طرد زعيم الحزب السيد عبدالله أوجلان، من الأراضي السورية عام 1998 وتوقيع الاتفاقية الأمنية بين دمشق وأنقرة، التي تسمح لتركيا بالتوغل داخل الأراضي السورية لملاحقة مقاتلي الحزب. ورغم أن النظام السوري كان أقوى بكثير في 2004، ورغم أن الكرد كانوا معزولين عن بقية السوريين وفي المواجهة لوحدهم، كان حزب الاتحاد الديمقراطي، وإعلامه خصوصاً، يمارس تجييشاً كبيراً وتحريضاً غير مسبوقاً ضدّ النظام السوري، وبإغفال تام لإمكانات الكرد ومقدرتهم على خوض ثورة مستمرّة ضد النظام. إلا أن ذلك كان مطلوباً حينذاك من قبل قيادة حزب العمال الكردستاني للضغط على النظام السوري.

أما في الثورة السورية الراهنة، فنلاحظ لغة سلميّة غير مألوفة منهم تجاه النظام السوري، وبات الشباب المحتجّون ضد النظام السوري عملاءً لأردوغان!
لا أرى أن حزب العمال الكردستاني أداة بيد النظام السوري. إلا أن هناك استفادة متبادلة بين الطرفين. النظام السوري يستفز تركيا عبر الورقة الكردية مجدداً، ويسمح لقادة حزب الاتحاد الديمقراطي، واللجان الشعبية التابعة له، بالنشاط المستقل تماماً عن الحراك الثوري في البلاد، والكابح له في المناطق الكردية. من جهة أخرى، ازدادت وتيرة العمليات الهجومية لحزب العمال الكردستاني وشدّتها ضدّ الجيش التركي خلال فترة الأزمة السورية في خطوة أعادت إلى الأذهان الدعم الذي كان يتلقاه الحزب سابقاً من النظام السوري.

م.د: أين يكمن الانعكاس السلبي للحزب على القضية الكردية، خاصة أن هناك من يقول أن الحزب يعمل لاستغلال الأوضاع الحالية للهيمنة على الداخل الكردي لفرض رؤيته القومية؟

ب.ع: ليس من خطأ شنيع ارتكبه الحزب في سوريا بقدر محاولة فرض هيمنته الحزبية على الساحة الكردية، ولو كان ذلك بالعنف الصريح، والاعتداء الجسدي. وهذه، كما نفترض، وسائل غير مشروعة للعمل السياسي والدعاية السياسية ونيل الهيبة الحزبية. الشهوة للسلطة والتلهّف المبكر لها وللتسلّط، كان وراء كل الممارسات الطائشة والقمعيّة للحزب بشكل أضرّ به أيضاً، ووضعه في موقع حرج. كل ما عدا ذلك يخضع للنقاش والاختلاف.

لذلك لست مع نظرة تقول أنه بمجرد سقوط النظام السوري سوف تتوقف هذه الممارسات، بافتراض أن ذلك يجري خدمة للنظام السوري وبأوامر منه. موضوع حزب الاتحاد الديمقراطي وتشابكه مع وضع الـ (ب ك ك) في تركيا معقّد بعض الشيء. وهناك ثقافة قمعيّة ذاتية، وتربية شمولية، و"عبوديّة طوعيّة"، أي لا علاقة مباشرة لها بالموقف من النظام السوري، قد تستثمر في أية لحظة، والقاعدة الشعبية جاهزة للتلبية والتصفيق بطبيعة الحال، وللهجوم أيضاً.

م.د: الحوار بين حزب العمال الكردستاني وأنقرة الجاري الآن، هل تعتقد أن يكون له انعكاس على الداخل السوري وتوازن القوى، أي هل يمكن أن يبيع الحزب النظام السوري؟

ب.ع: بلا شك، سياسة حزب الاتحاد الديمقراطي يخضع بشكل مباشر لتأثير الحزب الأم (العمال الكردستاني. ما تزال المفاوضات في بدايتها وغير معلنة للرأي العام، سوى تسريبات من هنا وهناك. ولا نعلم كيف ستسير. وإذا ما قيّض لها النجاح بعد فترة، رغم الصعوبات الكبيرة والجمّة والملفات المرتبطة، سوف يلقى الأمر بظلاله على سياسة الاتحاد الديمقراطي في سوريا. أكبر تأثير إيجابي قد نجنيه في سوريا هو إعادة الاعتبار للسياسة والعقل، والعمل لمصالح الكرد السوريين أنفسهم، وتصالح أنصار حزب العمال الكردستاني السوريين أنفسهم مع مكانهم الواقعي والمحيط المعاش. وربما خلاص باقي أطراف الحركة الكردية من الابتزاز المزمن لحزب العمال الكردستاني.فحتى اليوم لم تكن قضايا الكرد السوريين أنفسهم على رأس أولويات المناصرين للـ pkk، لا قديماً ولا الآن.

م.د: في رأس العين، وبعد اقتتال بين الطرفين، عقد الجيش الحر وحزب الاتحاد الديمقراطي اتفاقية وشكلوا معاً "لجنة حماية السلم الأهلي والثورة". هل يمكن لهذا الأمر أن ينجح رغم الإيديولوجية المختلفة لكل منهما، والأجندة الخارجية المتضاربة لكل منهما أيضا؟

ب.ع: التفاهم الذي جرى في رأس العين (سري كانيه) كان بين وحدات الحماية الشعبية التابعة لحزب الاتحاد الديمقراطي وتشكيل عسكري تابع لـ"الجيش الحر" والإئتلاف الوطني السوري، هو المجلس الثوري العسكري في محافظة الحسكة. ووقع هذا التفاهم بعد زيارة وفد برئاسة المعارض ميشيل كيلو ودعوات عدة من "الهيئة الكردية العليا" وقوى المعارضة وقيادة "الجيش الحر" لوضع حد للمعارك والاقتتال الدائر في رأس العين والذي تسبب بتشريد ومقتل الكثير من أبناء المنطقة ونهب البيوت.

لكن على الفور قامت جهات عديدة بمهاجمة الإتفاق، لا سيما ذات النزوع القومي- الطائفي مثل "جبهة تحرير الفرات والجزيرة" التي يقودها السيد نواف راغب البشير المدعوم من تركيا، والذي يضمر بعض رواسب النزاعات القبلية التي تعود للخمسينات بين عشيرته- البكارة- وبعض العشائر الكردية. ولم يعد يخفي السيد نواف البشير ميوله المعادية للأكراد. إلا أن المفاجأة كانت حين هاجم الجنرال سليم إدريس، رئيس أركان "الجيش الحر" التابع للإئتلاف الوطني الاتفاقية واعتبرها لاغية. من هنا لا أظن أن الصراع انتهى. إذ قد يتجدد بأشكال أخرى وفي منطقة أخرى.

م.د: في البيت الداخلي الكردي هناك طرفان أساسيان: المجلس الوطني الكردي المدعوم من أربيل ويحظى بشرعية دولية وعلاقات دولية مقبولة مقابل ضعف سيطرته على الأرض، والاتحاد الديمقراطي المدعوم من حزب العمال الكردستاني في جبال قنديل والمفتقد لشرعية وغطاء دولي في حين لكنه يمسك بالأرض. هل ترى أن الاتفاق الذي وقعه الطرفان في أربيل وأسفر عن تأسيس "الهيئة الكردية العليا" هو اتفاق حقيقي، أم أنه اتفاق هش أو "زواج مصلحة" ولا يمكن التعويل عليه؟

ب.ع: الاتفاق بين الطرفين الكرديين جاء من أجل تطويق مخاطر حرب كردية-كردية ، حيث بلغت الرغبة لدى الطرف المهيمين على الأرض إلى إقصاء غيرهم بالعنف وفرض هيمنتهم القسرية بطريقة هستريائية، وممنهجة. إنه اتفاق أمر واقع وتجنباً لإراقة الدماء. خلاصة الاتفاق هو أن حزب الاتحاد الديمقراطي استطاع انتزاع الاعتراف الرسمي بكونه "الحزب القائد" عملياً، وهو كان مستعداً لإشعال حرب أهلية كردية من أجل تحقيق هذا الاعتراف، في مقابل إزاحة شبح الاقتتال الكردي- الكردي بعض الشيء. من هذه الزاوية المهمة نال تشكيل "الهيئة الكردية العليا" ارتياحاً كبيراً في الوسط الكردي، رغم الملاحظات العديدة. فالمسؤولية الوطنية والقومية اقتضت تنازلاً سياسياً من قبل الأطراف الكردية تجاه حزب الاتحاد الديمقراطي في هذه المرحلة الحساسة والحرجة.

م.د: من المعلوم أن إقليم كردستان برئاسة مسعود البرزاني يدرب جنودا أكراد انشقوا عن الجيش السوري، وهناك من يقول أن تدريب هذه الفرقة العسكرية يأتي في إطار إعداد ذراع عسكرية للمجلس الوطني الكردي لمواجهة حزب الاتحاد الديمقراطي الذي يسيطر على الأرض. ما رأيك؟

ب.ع: حسب معلوماتي هي قوة عسكرية قليلة العدد مؤلفة من الجنود السوريين المنشقّين من الرتب الدنيا والمطلوبين للخدمة العسكرية، إذ لا يوجد أكراد برتب عالية في الجيش السوري، لكن بسبب الضجة الإعلامية التي أثيرت، يتوقع المرء أنه جيش كبير كأيّ جيش نظامي.

السيد مسعود بارزاني، رئيس إقليم كردستان العراق، لم يعرض على المجلس وطني الكردي تبني تلك القوة العسكرية الموجودة في كردستان العراق ولم يعرض إرسالها إلى سورية في أي لقاء مع قيادات المجلس في أربيل، حسبما سمعنا. لكن بالطبع، فور تداول الخبر حول إحتمال عودة الجنود المنشقين المتدربين في كردستان العراق إلى مناطقهم في سوريا، أعلنت قيادات الاتحاد الديمقراطي علناً رفضهم لقدومهم وعدم السماح بدخولهم، والتهديد بمقاومتهم أيضاً بحجة أنّ هذا الأمر سيكون سبباً لاقتتال داخلي كردي. و في هذا هم يتكلمون صحيحاً. إذ لا يمكن أن يرضى "الحزب القائد" بأي شيء يحد من نفوذه، ولو كلف ذلك اقتتالاً كردياً كردياً.
بغياب مركز قرار سياسي كردي موحّد هناك خطر كبير بالفعل من وجود قوتين مسلّحتين مختلفتين في نفس المنطقة.

م.د: بالإطار الأوسع، أي بما يتعلق بسوريا ككل، نقرأ لك انتقادات حادة أحياناً للمعارضة "الراديكاليّة" كما تسميّها. برأيك أين أخطأت المعارضة السورية في تعاملها مع الانتفاضة السورية؟

ب.ع: مع أنه أصبح النقاش حول هذا الموضوع بلا فائدة عمليّة بعد حصول ما حصل وخراب البلد، لكن للتوثيق والتاريخ فقط، يمكن القول أن الخطأ الجوهري الأساسي كان منذ الأسابيع أو الشهور الأولى للانتفاضة. أما الآن فلم يعد بمقدور أحد السيطرة على الوقائع على الأرض، بعد أن أصبح البلد كله مستنقعاً من الدماء و الدمار، وخرج الأمر من سيطرة المعارضة السياسية نفسها. بدون الدخول في التفاصيل أقول: أخفقت المعارضة السورية التقليدية والجديدة في تقدير قوّة النظام السوري و تماسكه، وبالتالي وقوعها في فخّ "الوهم البصريّ" الذي أشاعته الميديا من خلال نمذجة انتفاضتي تونس ومصر عربيّاً؛ أي أن كلّ نظام عربي يلزمه بضعة أسابيع ليسقط. هذا قبل أن تتحوّل بعض الفضائيات العربية المعروفة إلى منبر للمعارضة السورية الراديكالية، التي كانت تدفع الشباب المتحمس والثوار في الداخل إلى مزيد من الحماس، بل إلى التهوّر، وتقوم بتزيين ذهاب زهرة شباب سوريا إلى دورة العنف الجهنميّ و"محرقة" النظام. كما أخفقت المعارضة في البناء على شيء مهم وأساسي تحقّق فعلاً بعد انتفاضتي تونس ومصر هو عودة السوريين إلى السياسة والشأن العام. الأمر الذي غيّب لعقود في "سوريا الأسد".

كانت هذه فرصة تاريخية لا تعوّض ومكسباً كبيراً بالنسبة لشعب كالشعب السوري غيّب عن السياسة والشأن العام تحت حكم ديكتاتورية شنيعة. بيد أن المعارضة الراديكالية ولأسباب مختلفة أحياناً (الإخوان المسلمين في الخارج، الذين وجدوا أنفسهم أمام فرصة مؤاتية للانتقام من النظام، و النشطاء السياسيين، من المعتقلين السابقين الذين ذاقوا الويلات في سجون النظام ،من بعض التنظيمات اليسارية والقومية، وبعض الشباب المتحمّس قليل الخبرة السياسية) وجدت في ذلك فرصة للذهاب إلى أقصى المطالب فوراً ظناً أنه "أقصر السبل". من هنا تفرّعت كلّ المشكلات برأيي.

لا أغفل أننا لسنا في لعبة شطرنج، نختار ما نشاء من خطط وحركات. ونهمل أشياء أخرى، ولسنا في شروط صحيّة تسمح لنا بالتفكير البارد، ولا الواقع يسير بناء على تفكيرنا وبرامجنا. غير أنه كان للحسابات الدقيقة والمدروسة في بداية الانتفاضة أن تنقذ السورييّن من هذه الكارثة الإنسانية التي يعيشونها منذ سنتين، أو تقلّل من حجمها وعمقها. لا ننسى بالطبع أن رعونة النظام ووحشيّته اللامحدودة تتحمل المسؤولية الكبرى عما جرى وما سيجري لاحقاً. ليس من خلاف كبير حول تشخيص النظام، كونه أكبر عصابة منظّمة ومسلّحة ومستولية على مقدرات البلد. الخلاف هو حول سبل المواجهة و الحلول، والخسارة والربح. وأصارحك أنني لا أعرف شيئاً في العالم يستحق كل هذه التضحيات العظيمة بما فيها "الديمقراطية". لا شيء خلف التلّة. "الانتخابات الحرّة" ليست شيئاً عظيماً، بعد خراب البلد.

م. د: كيف تقرأ المستقبل السوري إذن؟

ب.ع: ليس مبشّراً على أية حال، حتى وفق أكثر السيناريوهات تفاؤلاً، إن بقي هناك متفائلون أو سيناريوهات لحلول قريبة. ليس هناك حل سياسي متوقّع للاستعصاء السوري الدموي. ولا حسماً عسكرياً قريباً. برغم رفع درجة التمويل العسكري للجماعات المقاتلة، في الآونة الأخيرة، بدرجة غير كافية للحسم. ولا ترضى أميركا بحسم سريع. بل نتوقع اشتداد ضراوة المعارك وازدياد منسوب العنف وضحاياه.

وهذه ليست مهمة أميركا ولا أوربا على أية حال. ولا يمكن لومهم أيضاً، إذ ليس من مهمة الأميركان وغيرهم إحصاء عدد القتلى السوريين. هناك أشياء واقعيّة أهم بكثير: أمن إسرائيل، خطوط الطاقة في الشرق الأوسط، الاقتصاد الأميركي، إيران وملفها النووي، التنظيمات الجهادية المعادية لها، الخ…

كان أكثر المتشائمين، مثلي، يقول أن النظام السوري لن يسقط إلا بسقوط الدولة بأكملها معه. الآن نحن أمام حالة رهيبة وأشد خطورة: انهيار الدولة وبقاء السلطة! حتى في المناطق المحرّرة (الأدق أن نقول مناطق منكوبة) والتي تغيب فيها الدولة تماماً بأبسط أركانها (ماء، خبز، كهرباء، وقود) هناك "حضور" ما للسلطة بشكل متقطع: صواريخ السكود وطائرات الميغ بين الفينة والأخرى!
أن نقترب من سقوط السلطة الحاكمة لا يعني أن أهداف الثورة قد تحقّقت. فور سقوطها (لا أدري متى) سوف يتعيّن على السوريين إعادة بناء الدولة نفسها، ولملمة أشلاء المجتمع المحطّم، ولن يكون الأمر سهلاً في أي حال من الأحوال. بعد ذلك يمكن الحديث عن إمكان (فقط إمكان) تحقيق الديمقراطية، والحريات والعدالة وحكم القانون ودولة المؤسسات.
وفي ظني أن لحظة سقوط بشار الأسد وسلطته الفاشيّة لن تجلب للسوريين تلك السعادة المتوقعة، بمن فيهم من ضحّى أكثر وفقد أعزّاء من أسرته أو شرّد من بيته على يد هذه السلطة. هي لحظة عابرة وسنفتح أعيننا جميعاً على خرابٍ عميم، وسيتساءل كثيرون: أمن أجل هذا قُتِل أولادنا، وهُجّرنا وشُرّدنا ودمّرت بيوتنا؟.

*بدرخان علي: اسمه الأصلي "آزاد علي"، كاتب وباحث سياسي سوري، من مواليد مدينة القامشلي 1978. درس في جامعة حلب، كلية الطب البشري، وتخرج عام 2004، ومقيم منذ العام 2010 في السعودية. يكتب بدرخان علي في صحف كردية وعربية عديدة حول الشأن الكردي و السوري وقضايا فكريّة تتعلّق بالعلمانيّة والديمقراطيّة. شارك في الكتابة في أول المواقع الكردية في سوريا "موقع عامودا"، وفي العام 2005 انضم لأسرة تحرير مجلة "الحوار"، وهي فصلية ثقافية كردية تصدر باللغة العربية تهتم بالشؤون الكردية وتهدف إلى تنشيط الحوار العربي الكردي، تطبع وتوزع سرّاً منذ عام 1993. يقوم حالياً بإعداد كتاب عن المسألة الكردية في سوريا، يتضمن سجالات مع مثقفين وسياسيين عرب وكرد.


[ نشر الحوار في موقع "مراسلون" Correspondents.org وتعيد “جدلية” نشره]‬
‫ ‬