مخاطر تفكك السودان

مخاطر تفكك السودان

مخاطر تفكك السودان

By : Gwenaëlle Lenoir

نُظمت مظاهرة في شندي يوم الثلاثاء 18 أبريل/نيسان 2023. قد يبدو هذا الأمر ثانويا بينما يواصل القتال بالأسلحة الثقيلة ونيران الطائرات المقاتلة ترويع سكان العاصمة السودانية، وحيث تصل شهادات عن النهب والقتل الذي حصل في دارفور، وحيث يعيش الناس في جميع أنحاء البلاد حالة رعب لا نهاية لها منذ يوم السبت 15 أبريل/نيسان، بسبب تنافس الجنرالين والقوات التابعة لهما. لكن الأمر ليس كذلك. فقد تكون هذه المظاهرة علامة على تدهور أكبر للوضع والدخول في دوامة.

موكب شاحنات بيك-أب على متنها رجال يرتدون جلابيات بيضاء، ويلوّحون بقبضاتهم أو بسلاح خفيف. إنه استعراض عدوانيّ للقوة، وقد تم تنظيمه لدعم الجيش الوطني الذي يقاتل ضد القوات شبه العسكرية التابعة لقوات الدعم السريع. مكان المظاهرة بليغ أيضًا، إذ تقع شندي على بعد 160 كم شمال شرق الخرطوم، على الضفة الشرقية لنهر النيل. وُلد اللواء عبد الفتاح البرهان، القائد الفعلي للبلاد والقائد العام للجيش وأحد أطراف القتال الحالي، في قرية مجاورة والتحق بالمدرسة الثانوية في شندي. كما تنحدر من هذا الجزء من البلاد معظم الطبقة الحاكمة في السودان منذ استقلالها. وتتّهم ما يسمّى بالمناطق الطرفية - وفي مقدمتها دارفور - هذه النخبة بالتمييز ومصادرة السلطة. دارفور التي هي مهد محمد حمدان دقلو المعروف باسم "حميدتي"، وقوات الدعم السريع.

الخرطوم والوسط ضد بقية البلاد

باختصار، ومثل ما تقول المحلّلة السودانية ومؤسسة مركز "كونفلونس ادفايزوري" للاستشارات في الخرطوم خلود خير، وهي مراقبة دقيقة جدًا لبلدها، يُخشى أن تكون هذه المظاهرة في شندي تنذر بتغيير في طبيعة الصراع الدائر. "يتمّ فعلاً وبوحشية إضفاء طابع عرقي على الصراع. قد لن ينحصر الأمر عن قريب في طموح ذي محصلة صفرية للرجلين، بل سيصبح إعادة لمشاكل السودان المزمنة: من له حقوق على الدولة؟ وهو نزاع يقوّض حتى قدرة بقاء البلد"، كما كتبت على صفحة حسابها على تويتر.

لفهم هذا النزاع وعنف المواجهة، يجب العودة إلى تاريخ السودان. يحكم البلاد منذ استقلالها في عام 1956- باستثناء فترات نادرة وقصيرة من الحكم المدني والديمقراطي - جيش تتكون قيادة أركانه من ضباط ينحدرون من وسط وشمال البلاد. ومنذ الاستقلال، هناك نزاعات بين هذا المركز - أي الخرطوم ووادي النيل - وما يسمى بالمناطق الطرفية. إذ عادة ما يتم في السودان الإشارة إلى سكان المركز على أنهم "عرب" أو "نيليون"، وهم يحبون تقديم أنفسهم على أنهم "أبناء البلد". بينما يُصنّف سكّان الأطراف بأسماء مجموعتهم العرقية (البجا، الفونج، النوبة، الفور، المساليت، وآخرون كثيرون لا نذكرهم). غالبًا ما يُنظر إلى الرعاة الرحل "العرب" في الشرق على أنهم بالكاد سودانيون، لأن قبائلهم تمتد إلى البلدان المجاورة، حيث تم رسم الحدود هنا - كما في كامل إفريقيا - من طرف القوى الاستعمارية. دارت حربان بين الشمال والجنوب - الذي استقل في 2011 -، استمدتا جذورهما من التمييز ومصادرة الثروة واحتكار المناصب أكثر من الدين.

لا تزال السنوات الطويلة لحرب العصابات تسكن الجزء الشمالي من السودان الحالي، سيما بوجود مجموعة مسلحة نشطة، رغم وقف إطلاق النار منذ ثورة 2018. كما هزت إغراءات انفصالية خطيرة شرق البلاد. أما منطقة دارفور، فهي ساحة صراع مروع منذ عشرين عامًا، أدت إلى اتهام الديكتاتور السابق عمر البشير بارتكاب جرائم إبادة وجرائم ضد الإنسانية وجرائم حرب. صحيح أن كلا طرفي النزاع اليوم - أي عبد الفتاح البرهان وحميدتي - خدما عمر البشير وحربه في دارفور، لكن طريقة تجنيد قواتهما كانت مختلفة تماماً. إذ تضم قوات الدعم السريع التي أنشأها الديكتاتور السابق سنة 2013 قدماء الجنجويد التابعين للخرطوم، والذين تم تجنيدهم من بين صفوف بعض القبائل العربية البدوية في دارفور. وقد جعل عمر البشير من هذه القوات ميليشياته الخاصة، ثم حولها الى "قوة نظامية" قصد مواجهة الجيش النظامي الذي قد يهدّده، قبل استقدامها أخيرًا إلى الخرطوم سنة 2018، مباشرة قبل الثورة.

يتمّ فعلاً وبوحشية إضفاء طابع عرقي على الصراع. قد لن ينحصر الأمر عن قريب في طموح ذي محصلة صفرية للرجلين، بل سيصبح إعادة لمشاكل السودان المزمنة: من له حقوق على الدولة؟ وهو نزاع يقوّض حتى قدرة بقاء البلد

احتقار "راعي الماعز"

تم نقل عناصر من الجيش الوطني إلى قوات الدعم السريع، والعكس صحيح. كما تم توسيع التجنيد، لكن لا شيء من ذلك منع أو أنسى استياء "الأطراف ضد المركز". كثيرا ما يشار في العاصمة إلى حميدتي، الذي لم يعرف مقاعد الأكاديميات العسكرية، باسم "راعي الماعز"، احتقاراً لقوات الدعم السريع. وكان حسّ الانتقام واضحاً في مقطع فيديو قصير نُشر على شبكة تويتر، حيث نرى القوات شبه العسكرية تصرح بنشوة المنتصر: "نحن في القيادة العامة [للجيش، في الخرطوم]، في الداخل! نعم، بالداخل!".

بعد الثورة، انتشرت قوات الدعم السريع في العاصمة، واستحوذت على أماكن متعددة في الخرطوم وقامت بمصادرتها، خاصة من المنظمات المرتبطة بالنظام القديم. وهكذا تمكنت هذه القوات من وضع يدها على مبنى زجاجي مهيب يقع "صدفة" مقابل القيادة العامة للجيش الوطني، وهو مجمع ضخم يضم مقرات جميع الأسلحة. بُوشر في الآونة الأخيرة في بناء جدار خرساني على طول المقر العسكري. وكان يقال تهكما في الخرطوم: "إنهم يخافون من قوات الدعم السريع أكثر من خوفهم من السكان". كانت المبارزة قائمة بالفعل، ومحفورة في خرائطية المدينة.

بالطبع، لا يمكن اختزال الحرب بين المتنافسين في بُعد "الوسط" مقابل "الأطراف"، حيث يدخل في الحسبان أيضا الصراع من أجل السيطرة على الثروات ومصالح الجهات الإقليمية والدولية الراعية للطرفين المتصارعين. لكن تناسي قوى الانفصال عن المركز يعد خطأ أكبر خطورة، لأنه بعد فترة وجيزة من الشعور بالوحدة الوطنية خلال الانتفاضة الشعبية في 2018 والسنة ونصف الأولى من فترة الانتقال الديمقراطي في ظل الحكومة المدنية لعبد الله حمدوك، ظهرت الكسور بشكل أعمق من أي وقت مضى بعد انقلاب 25 أكتوبر/تشرين الأول 2021.

قاد الانقلاب عبد الفتاح البرهان وحميدتي معاً، وعمل الاثنان على إنهاء الانتقال الديمقراطي، واعتقال أهم الوزراء والقادة السياسيين والنشطاء، وشن القمع ضد الحركة الثورية، وعلى وجه الخصوص ضد لجان المقاومة، وهي تنظيمات أحياء تشكّل العمود الفقري للثورة. وقد عمل عبد الفتاح البرهان، المعروف بقربه من الإسلاميين، على إعادة العديد منهم إلى الساحة، من الأعضاء السابقين في حزب المؤتمر الوطني، وهو تشكيل مترام للنظام القديم.

الاستعداد للحرب

شَعر حميدتي بأنه مهدد، هو المتفاخر بأنه اعتقل عمر البشير وبالتالي شارك في إسقاط نظامه. لقد سعى ليكون بشير الثورة والقوى المدنية، ونصّب نفسه حاجزًا ضد عودة الإسلاميين. باختصار، عمل على الظهور بأنه حامي الضعفاء ضد الكيزان، أنصار المستبد المخلوع ورجال أعمال فاسدين سُراق ثروات الأمة. في الصيف الماضي، أقر بأن الانقلاب كان فاشلاً وخطأ وأيد علناً عودة المدنيين إلى السلطة. صدّقه بعضهم. رحبت بعثة الأمم المتحدة المتكاملة للمساعدة خلال الفترة الانتقالية في السودان والآلية الثلاثية (الأمم المتحدة والاتحاد الأفريقي والمنظمة الإقليمية لشرق إفريقيا) والمجموعة الرباعية (الولايات المتحدة والمملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة والمملكة المتحدة) بالاتفاق الإطاري الموقع في 5 ديسمبر/كانون الأول 2022 بين الجنرالين البرهان وداقلو ونحو أربعين حزبا ومنظمة سياسية تمثل المدنيين. وهذا هو المسار السياسي الذي انفجر لتوه أمام مسألة إصلاح المؤسسات العسكرية والأمنية. إذ أراد البرهان أن يتم دمج قوات الدعم السريع في الجيش في غضون عامين، بينما يسعى حميدتي إلى إبقاء السيطرة الكاملة على قواته.

بدأت المبارزة فعليا قبل الانقلاب، وتفاقمت العداوة بسبب الانقلاب وعواقبه، مع آثار ملموسة جدا على البلاد. في شباط/ فبراير ا2023، شرح جمعة كوندا كومي، الباحث والمستشار السابق لشؤون السلام لرئيس الوزراء عبد الله حمدوك، خلال بودكاست بثته مجموعة الأزمات الدولية: "خارج المركز، شهدت البلاد زعزعة استقرار متزايدة. تتلاعب بعض الأجندات السياسية بالتيارات العرقية، كما تدهور الاقتصاد في المناطق الريفية وكذا سبل العيش. ازدادت حدة التوتر بين المركز والأطراف".

قام الطرفان بتعزيز قواعدهما واستعدا للحرب. شرح احمد قوجا، الناشط من النيالا بدارفور في مارس/آذار 2023 أن "حميدتي استعمل سلاح العنف والمال لفرض سيطرته. قد قام بتوزيع سيارات لاند كروزر وهيلوكس على قادة المجموعات، كما وظف الشباب لإرسالهم إلى اليمن. الارتزاق يجلب مالا كثيرا لهؤلاء الشباب، 50 ألف دولار بعد تسعة أشهر. يمكنهم بهذا المال الزواج وبناء منزل ومباشرة عمل تجاري. وهكذا فإن حميدتي يعرض عليهم مستقبلا". وقصد إدخال الرافضين في الصف، يستخدم الأخير ورقة العنف: "إنه يثير النزعات بين الأعراق وبين القبائل العربية والمزارعين، ثم يأتي بعد ذلك بعرض للمصالحة".

ثِقل دارفور

حاول الجيش أيضا التجنيد في دارفور، ولكن بنجاح أقل لأنه لم يكن قادرا على توفير نفس المزايا. وأضاف احمد قوجا منذ بضعة أيام: "لهذا السبب ترى قوات الدعم السريع في المنطقة مجهزة بشكل أفضل من الجيش، ولها مركبات أكثر وسيارات أكثر قوة".

اتُهم الجيش وأنصار النظام القديم خلال الأشهر الأخيرة بتشكيل ميليشيات بشمال ووسط البلاد. وهكذا أعلنت قوات درع السودان بنفسها عن تشكيلها في مدينة دنقلا في ديسمبر/كانون الأول 2022، ثم نظمت تجمعات في الأحياء خلال الأسواق الأسبوعية المزدحمة، دون أن تحرك السلطات ساكنا.

بينما كان الجنرالان يعلنان في البيانات الإعلامية وخلال لقاءات مع الفاعلين الدوليين عن قبولهما عودة المدنيين إلى السلطة، كانا يهيئان شروط الانتصار في مواجهتهما المقبلة. لقد تحوّلا إلى أميري حرب مستعدين لتمزيق بلادهما من أجل السيطرة عليها. سكان الخرطوم وسكان دارفور محاصرون في منازلهم أو يتحملون كل المخاطر في محاولة الفرار. فهم يتحركون ويُنظمون أيضا الإغاثة ويتبادلون المساعدة في الأحياء ومن خلال الشبكات الاجتماعية. أصدرت لجان المقاومة بولاية الخرطوم بياناً يحتوي تعليمات لمكافحة التضليل الإعلامي وتنظيم المستشفيات الميدانية وإيصال الغذاء والدواء والماء لمن هم في حاجة إليها. وأضاف البيان أنه يجب نشر شعار "لا للحرب" في كل مكان.

على شبكات التواصل الاجتماعي يؤكد كثيرون: "هذه ليست حربنا". تُظهر بعض مقاطع الفيديو سكانا من الخرطوم وهم يرشون بعبوات الدهن عبارة "لا للحرب" على جدران المدينة. تماماً كما كانوا يكتبون قبل أربع سنوات: "يسقط النظام".


[ترجم المقال عن الفرنسية حميد العربي].

[تُنشر هذه المقالة ضمن اتفاقية بين جدلية وموقع أوريان 21].


  • ALSO BY THIS AUTHOR

    • السودان: أفق مجهول للاتفاق سياسي

      السودان: أفق مجهول للاتفاق سياسي

      تتكثف المفاوضات من أجل الانتقال الديمقراطي في السودان في الوقت الذي يواجه فيه المجلس العسكري الذي استولى على السلطة في أكتوبر/تشرين الأول 2021 عقوبات شديدة وتعبئة شعبية لا تتزعزع. فهل لا يزال الانتقال الديمقراطي أفقاً ممكناً أم بات مجرّد سراب؟

بدرخان علي: "الانتخابات الحرّة" ليست شيئاً عظيماً، بعد خراب البلد

‫يأخذنا الباحث الكردي السوري بدرخان علي في هذه المقابلة في جولة نقدية حول الثورة السورية ودروبها المتشعبة، خصوصاً في المناطق ذات الأغلبية الكردية، التي تقع تحت سيطرة أحزاب كردية متعددة، تتضارب في المصالح والأهداف. ويتطرق إلى طبيعة العلاقة التي تربط حزب الإتحاد الديمقراطي PYD بالنظام السوري وبحزب العمال الكردستاني PKK في تركيا، وكذلك عن علاقة بقية الأحزاب الكردية بالسيد مسعود البرزاني رئيس إقليم كردستان العراق. وهو إذ يصف نفسه هنا بـ "أكثر المتشائمين"، لا يرسم بطبيعة الحال، صورة وردية عن مستقبل سورية ما بعد الأسد، إلا أن مكاشفته القارئ تلامس حيزاً كبيراً من هواجس كل سوري ومخاوفه المستقبلية.

م.د: ثمة لغط كثير حول مطالب الأكراد، هل لك أن تضعنا بصورة تفصيلية وواضحة حول المطالب الكردية الحقيقية؟‬

ب.ع: قبل اندلاع الثورة السورية كانت مطالب الحركة السياسية الكردية ترد إجمالاً في صيغ "الحقوق القومية المشروعة للشعب الكردي في إطار وحدة البلاد". وكان ثمة تشديد دائم على نفي تهمة الانفصال عن سوريا التي تلصق عادة بالحركة الكردية، وإبراز الدور الوطني للكرد في سوريا منذ الاستقلال حتى اليوم. وبالطبع التركيز على المظالم التي مورست بحق الكرد، مثل حرمان حوالي ربع مليون منهم من الجنسية السورية بموجب الإحصاء الاستثنائي لعام 1962 الخاص بمحافظة الحسكة، وحظر اللغة والثقافة الكرديتين إلى التمييز في سلك الديبلوماسية والجيش، وإقامة "الحزام العربي" في محافظة الحسكة.
بعد اندلاع الثورة وتشكيل المجلس الوطني الكردي (إئتلاف يضم معظم الأحزاب الكردية والتنسيقيات الشبابية الكردية) طرحت صيغة حق تقرير المصير في إطار وحدة البلاد، واللامركزية السياسية، ومن ثم الفيدرالية والدولة الاتحادية. يلاحظ أن هناك تصوّراً كردياً غالب أنّ الفرصة مواتية لانتزاع أكبر قدر من المطالب القوميّة بعد سقوط النظام الحاكم. وفي ظنّي هذا رهان كبير، ولا يخلو من قدر غير محسوب من المغامرة، ويحصر المسألة الكردية في السلطة الحاكمة أو شخص الرئيس. ويغفل معطيات وعوامل عديدة في المسألة القومية الكردية في بعدها السوريّ.

م. د: ما هي العوائق التي تقف في طريق المطالب الفيدرالية الكردية؟

ب.ع: الحقيقة أن هناك جملة عوامل جغرافية، سكانية، محلية، سياسية، إقليمية تطرّقت إليها في كتابات سابقة سوف تعترض صيغة الفيدرالية المطروحة بمجرد سقوط النظام، لا بل من الآن. وستضطر النخبة الكردية نفسها إلى مواجهة الواقع كما هو، لا كما تشتهي. حتى الآن رغم كل الاجتماعات واللقاءات والنقاشات، ورغم إلحاح الجانب الكردي، ورغم رغبة قوى المعارضة في ضمّ الأحزاب الكردية إلى صفوفها، لم تبد أية جهة سياسية سورية موافقتها على هذه المطالب الفيدرالية، أي أنه لم يمكن حتى الآن انتزاع "اعتراف وطني-عربي سوري" بالحقوق الكردية وفق ما تطرحها القوى الكردية. وهو الأمر الذي تسبّب به الطرف الكردي برفع سقف مطالبه خلال الثورة، وكذلك بعض الأطراف في المعارضة التي لا ترى في المطالب الكردية سوى مشكلة عابرة لا تحتاج سوى إلى كلمات عامة، ناهيك عن وجود تيار قوميّ- شوفينيّ بكل معنى الكلمة داخل صفوف المعارضة اليوم.

وهناك لا شك عوامل عديدة سوف تحدّ من بقاء سورية دولة مركزية متشددة، بالمعنى الإدراي الإقتصادي-الأمني، أي بصورة تتيح للأطراف والمحافظات ممارسة سلطات أوسع في نطاقها المحليّ. لكني أرى أن تصبح سورية دولة لامركزيّة سياسياً ودستورياً، أمراً بعيد الاحتمال.

خلال فترة قصيرة من الإضطراب والفوضى قد تمارس سلطات الأمر الواقع من جماعات مسلّحة وقوى سياسية قدراً من سلطة سياسية محليّة. لكن ليس على المدى البعيد وعلى نحو مستقرّ. من جهة أخرى يبقى الأمر مرهوناً بمآلات الحرب القائمة في البلاد، وكيف ستنتهي، والارتدادات الإقليمية للصراع السوري.

م.د: هل يخشى الأكراد من أن تدير المعارضة السورية العربية لهم الظهر حال سقط النظام، وما الضمانات التي تطالبون بها لمنع ذلك؟

ب.ع: بلى، هناك تخوّف من هذا القبيل، ويستند هذا الخوف إلى ميراث الاضطهاد والتهميش الذي مورس بحق الكرد بعد مشاركتهم الفاعلة في نيل استقلال سورية عن الانتداب الفرنسي، كما يجري استحضار تجارب كردية خارج سورية وبشكل خاص المشاركة الكردية في معارك الاستقلال التركي ووعود كمال أتاتورك لهم بالحكم الذاتي والمشاركة في الدولة الجديدة، والتي أخلفها على الفور بعد نيل الاستقلال ومارس أشد السياسات عنفاً وشوفينية ضد الكرد في الجمهورية التركية التي سارت على نهجه في اضطهاد الكرد. كما مشاركة الكرد في "الثورة الإسلامية" في إيران عام 1979. وتهميشهم واضطهادهم بعد استقرار الحكم للملالي ورجال الدين. يعبّر أحياناً بعض الساسة الكرد عن ذلك، في لحظات الصراحة والوضوح، بالقول "لن نكون بندقية على كتف أحد" أو " ثوّاراً تحت الطلب". الثورة السورية أنعشت آمال الأكراد في سوريا في نيل حقوقهم، ودفعت النخب، باستثناءات قليلة، إلى رفع سقف مطالبها على شكل حكم قوميّ ذاتيّ موسّع (بصرف النظر عن التعبيرات)، من غير أن يطالب أحد بالانفصال عن سوريا. الضمانات المطلوبة المطروحة هي انتزاع اعتراف مسبق من الآن بتضمين الحقوق القومية الكردية، بالصيغة المطروحة، في الدستور القادم.

م.د: تحوّلت مناطق الأكراد إلى مناطق آمنة للاجئين السوريين من المناطق التي تعرضت لعنف النظام بعد احتضانها المعارضة المسلحة، فهل تضعنا في صورة الوضع الاقتصادي في تلك المناطق؟ وما صحة أن حزب العمال الكردستاني يدير الوضع الاقتصادي/ المعاشي بغض نظر من النظام؟

ب.ع: كان الوضع المعاشي في محافظة الحسكة ممكناً و مقبولاً، بشكل نسبي، حتى قبل بضعة أشهر وكان النازحون من المناطق السورية الأخرى يتمتعون بأمان. لكن مع اشتداد المعارك في المنطقة الشرقية والاشتباكات بين الجماعات المسلحة العربية والكردية في رأس العين (سري كانيه) والخراب في البنية الخدمية عموماً وحالة الفوضى وبروز العصابات التي تسطو على الشاحنات القادمة من حلب وغيرها، تدهورت الشروط المعيشية خاصة خلال الشتاء حيث البرد الشديد وانقطاع الكهرباء لساعات طويلة و أيام متواصلة أحياناً. وبسبب إغلاق المنافذ بين المحافظة والجوار، التركي والعراقي، حيث المعبر بين قامشلي ونصيبين التركية مغلق، والمعبر بين اليعربية (تل كوجر) السورية وربيعة العراقية مغلق أيضاً، ورأس العين تشهد معارك، والسلطات التركية كانت تسمح فقط للمسلّحين والأسلحة بالدخول لمجموعات مسلّحة مدعومة منها على الأغلب، قامت حكومة إقليم كردستان العراق بإرسال معونات إنسانيّة مقدّمة باسم رئيس الإقليم السيد مسعود بارزاني، تتضمن محروقات ومواد أساسية لأهل المحافظة عبر معبر غير نظامي بين حدود إقليم كردستان العراق ومدينة ديرك (المالكية) الكردية السورية، ودون موافقة الحكومة المركزية في بغداد. وكذلك السماح بإدخال معونات مقدمة من المواطنين وجمعيات وقوى سياسية عبر الإقليم. وقد شكّل هذا المعبر شريان حياة صغير للمنطقة ومازالت بعض المواد الأساسية ترد عبره. أما في المناطق الكردية الأخرى شمال حلب والرقة فالوضع هناك أسوأ، حيث منطقة عفرين مثلا (شمال حلب) محرومة من أية مساعدات إنسانية من الجهة التركية.

م.د: في مؤتمر القاهرة الذي أعد لوحدة المعارضة، حصل في نهايته خلاف عربي- كردي أرخى ظلالاً سيئة على العلاقة العربية الكردية عموماً وعلى وحدة المعارضة السياسية. هل ترى أن الخلاف بين العرب والكرد هو خلاف عميق الجذور من الصعب تجاوزه على المستوى السياسي فحسب، أي أنه عمودي، أم أنه خلاف مرهون بوجود الاستبداد ويزول بزواله؟

ب.ع: لا أودّ الحديث غير الواقعي بالتهويل عن متانة الوحدة الوطنية وإطلاق الشعارات الجميلة. وكما بيّنت في سؤال سابق، مشكلة الكرد وحقوقهم ليست مرهونة فقط بالنظام الحالي، ولا بالطبقة الحاكمة وحسب، حتى يكون إسقاطهما حلاً ناجزاً للمسألة الكردية. بالتأكيد، الاستبداد المديد، وثقافة حزب البعث القومية، وتغييب الحياة السياسية والحريات العامة أسهم في تعقيد القضية الكردية. كما أن تطورات المسألة الكردية في الجوار الإقليمي تلعب دوراً مؤثراً على الحركة الكردية في سوريا.

لكن الفرق الأساسي هو بين رؤيتين أساسيتين (مع استثناءات وتدرّجات في الجهتين): الكرد باتوا ينظرون إلى سوريا من منظورهم الكرديّ الخاص (ولذلك أسباب ومعطيات) أكثر من أي وقت مضى، أي كشعب ضمن شعب وإقليم ضمن دولة، وتحضر هنا تجربة كردستان العراق في المخيلة السياسية، في المقابل ينظر عموم السوريّون إلى الكرد من منظور عام، "الوحدة الوطنية" و"الشعب الواحد" و"أسنان المشط".

في تقديري: الواقع الذي سيفرز بعد سقوط النظام ونتائج الحرب المستعرة حالياً، والمخاض الإقليمي جراء الوضع السوري المتفجّر، والجدل القائم حول البدء بحل ما للقضية الكردية في تركيا وما سيتمخض عن ذلك، سيكون له دوراً كبيراً في تقرير حدود الحلّ السوري للمسألة الكردية. أي موازين القوى ومعادلات القوة الناتجة. الشعارات من الطرفين (سلباً أو إيجاباً) لن تفيد كثيراً، ولا "التطمينات" المتبادلة. رغم أهمية التواصل الأهلي وضرورة التنسيق بين المكونات الاجتماعية في المناطق المتداخلة من أجل تجنب الصراعات الأهليّة.

م.د: ثمة كثير من الأساطير تحاك حول حزب الاتحاد الديمقراطي (الجناح السياسي لحزب العمال الكردستاني) بين من يرى أنه يعمل لحساباته الخاصة مستغلاّ التحولات الحاصلة في سوريا والمنطقة، وبين من يرى أنه أداة بيد النظام السوري، وبين من يرى أنه يتحاور مع أنقرة من تحت السطح. كيف تقرأ واقع هذا الحزب الإشكالي في الانتفاضة السورية؟

ب.ع: القسط الأكبر من "الأساطير" التي تقال عن حزب الاتحاد الديمقراطي ( pyd) تعود إلى سياسته وسلوكياته بالطبع، لا إلى اتهامات من الآخرين. فالواقع أن سياسة الحزب في سوريا خاضعة تماماً للأجواء التي تسود العلاقة بين قيادة حزب العمال الكردستاني، خارج سوريا، والسلطة السورية. ولو قارننا مثلاً موقف الحزب في انتفاضة قامشلي 2004 مع موقفه الحالي لتوصلنا إلى ذلك. ففي العام 2004، كانت علاقة الحزب قد تدهورت مع دمشق بعد طرد زعيم الحزب السيد عبدالله أوجلان، من الأراضي السورية عام 1998 وتوقيع الاتفاقية الأمنية بين دمشق وأنقرة، التي تسمح لتركيا بالتوغل داخل الأراضي السورية لملاحقة مقاتلي الحزب. ورغم أن النظام السوري كان أقوى بكثير في 2004، ورغم أن الكرد كانوا معزولين عن بقية السوريين وفي المواجهة لوحدهم، كان حزب الاتحاد الديمقراطي، وإعلامه خصوصاً، يمارس تجييشاً كبيراً وتحريضاً غير مسبوقاً ضدّ النظام السوري، وبإغفال تام لإمكانات الكرد ومقدرتهم على خوض ثورة مستمرّة ضد النظام. إلا أن ذلك كان مطلوباً حينذاك من قبل قيادة حزب العمال الكردستاني للضغط على النظام السوري.

أما في الثورة السورية الراهنة، فنلاحظ لغة سلميّة غير مألوفة منهم تجاه النظام السوري، وبات الشباب المحتجّون ضد النظام السوري عملاءً لأردوغان!
لا أرى أن حزب العمال الكردستاني أداة بيد النظام السوري. إلا أن هناك استفادة متبادلة بين الطرفين. النظام السوري يستفز تركيا عبر الورقة الكردية مجدداً، ويسمح لقادة حزب الاتحاد الديمقراطي، واللجان الشعبية التابعة له، بالنشاط المستقل تماماً عن الحراك الثوري في البلاد، والكابح له في المناطق الكردية. من جهة أخرى، ازدادت وتيرة العمليات الهجومية لحزب العمال الكردستاني وشدّتها ضدّ الجيش التركي خلال فترة الأزمة السورية في خطوة أعادت إلى الأذهان الدعم الذي كان يتلقاه الحزب سابقاً من النظام السوري.

م.د: أين يكمن الانعكاس السلبي للحزب على القضية الكردية، خاصة أن هناك من يقول أن الحزب يعمل لاستغلال الأوضاع الحالية للهيمنة على الداخل الكردي لفرض رؤيته القومية؟

ب.ع: ليس من خطأ شنيع ارتكبه الحزب في سوريا بقدر محاولة فرض هيمنته الحزبية على الساحة الكردية، ولو كان ذلك بالعنف الصريح، والاعتداء الجسدي. وهذه، كما نفترض، وسائل غير مشروعة للعمل السياسي والدعاية السياسية ونيل الهيبة الحزبية. الشهوة للسلطة والتلهّف المبكر لها وللتسلّط، كان وراء كل الممارسات الطائشة والقمعيّة للحزب بشكل أضرّ به أيضاً، ووضعه في موقع حرج. كل ما عدا ذلك يخضع للنقاش والاختلاف.

لذلك لست مع نظرة تقول أنه بمجرد سقوط النظام السوري سوف تتوقف هذه الممارسات، بافتراض أن ذلك يجري خدمة للنظام السوري وبأوامر منه. موضوع حزب الاتحاد الديمقراطي وتشابكه مع وضع الـ (ب ك ك) في تركيا معقّد بعض الشيء. وهناك ثقافة قمعيّة ذاتية، وتربية شمولية، و"عبوديّة طوعيّة"، أي لا علاقة مباشرة لها بالموقف من النظام السوري، قد تستثمر في أية لحظة، والقاعدة الشعبية جاهزة للتلبية والتصفيق بطبيعة الحال، وللهجوم أيضاً.

م.د: الحوار بين حزب العمال الكردستاني وأنقرة الجاري الآن، هل تعتقد أن يكون له انعكاس على الداخل السوري وتوازن القوى، أي هل يمكن أن يبيع الحزب النظام السوري؟

ب.ع: بلا شك، سياسة حزب الاتحاد الديمقراطي يخضع بشكل مباشر لتأثير الحزب الأم (العمال الكردستاني. ما تزال المفاوضات في بدايتها وغير معلنة للرأي العام، سوى تسريبات من هنا وهناك. ولا نعلم كيف ستسير. وإذا ما قيّض لها النجاح بعد فترة، رغم الصعوبات الكبيرة والجمّة والملفات المرتبطة، سوف يلقى الأمر بظلاله على سياسة الاتحاد الديمقراطي في سوريا. أكبر تأثير إيجابي قد نجنيه في سوريا هو إعادة الاعتبار للسياسة والعقل، والعمل لمصالح الكرد السوريين أنفسهم، وتصالح أنصار حزب العمال الكردستاني السوريين أنفسهم مع مكانهم الواقعي والمحيط المعاش. وربما خلاص باقي أطراف الحركة الكردية من الابتزاز المزمن لحزب العمال الكردستاني.فحتى اليوم لم تكن قضايا الكرد السوريين أنفسهم على رأس أولويات المناصرين للـ pkk، لا قديماً ولا الآن.

م.د: في رأس العين، وبعد اقتتال بين الطرفين، عقد الجيش الحر وحزب الاتحاد الديمقراطي اتفاقية وشكلوا معاً "لجنة حماية السلم الأهلي والثورة". هل يمكن لهذا الأمر أن ينجح رغم الإيديولوجية المختلفة لكل منهما، والأجندة الخارجية المتضاربة لكل منهما أيضا؟

ب.ع: التفاهم الذي جرى في رأس العين (سري كانيه) كان بين وحدات الحماية الشعبية التابعة لحزب الاتحاد الديمقراطي وتشكيل عسكري تابع لـ"الجيش الحر" والإئتلاف الوطني السوري، هو المجلس الثوري العسكري في محافظة الحسكة. ووقع هذا التفاهم بعد زيارة وفد برئاسة المعارض ميشيل كيلو ودعوات عدة من "الهيئة الكردية العليا" وقوى المعارضة وقيادة "الجيش الحر" لوضع حد للمعارك والاقتتال الدائر في رأس العين والذي تسبب بتشريد ومقتل الكثير من أبناء المنطقة ونهب البيوت.

لكن على الفور قامت جهات عديدة بمهاجمة الإتفاق، لا سيما ذات النزوع القومي- الطائفي مثل "جبهة تحرير الفرات والجزيرة" التي يقودها السيد نواف راغب البشير المدعوم من تركيا، والذي يضمر بعض رواسب النزاعات القبلية التي تعود للخمسينات بين عشيرته- البكارة- وبعض العشائر الكردية. ولم يعد يخفي السيد نواف البشير ميوله المعادية للأكراد. إلا أن المفاجأة كانت حين هاجم الجنرال سليم إدريس، رئيس أركان "الجيش الحر" التابع للإئتلاف الوطني الاتفاقية واعتبرها لاغية. من هنا لا أظن أن الصراع انتهى. إذ قد يتجدد بأشكال أخرى وفي منطقة أخرى.

م.د: في البيت الداخلي الكردي هناك طرفان أساسيان: المجلس الوطني الكردي المدعوم من أربيل ويحظى بشرعية دولية وعلاقات دولية مقبولة مقابل ضعف سيطرته على الأرض، والاتحاد الديمقراطي المدعوم من حزب العمال الكردستاني في جبال قنديل والمفتقد لشرعية وغطاء دولي في حين لكنه يمسك بالأرض. هل ترى أن الاتفاق الذي وقعه الطرفان في أربيل وأسفر عن تأسيس "الهيئة الكردية العليا" هو اتفاق حقيقي، أم أنه اتفاق هش أو "زواج مصلحة" ولا يمكن التعويل عليه؟

ب.ع: الاتفاق بين الطرفين الكرديين جاء من أجل تطويق مخاطر حرب كردية-كردية ، حيث بلغت الرغبة لدى الطرف المهيمين على الأرض إلى إقصاء غيرهم بالعنف وفرض هيمنتهم القسرية بطريقة هستريائية، وممنهجة. إنه اتفاق أمر واقع وتجنباً لإراقة الدماء. خلاصة الاتفاق هو أن حزب الاتحاد الديمقراطي استطاع انتزاع الاعتراف الرسمي بكونه "الحزب القائد" عملياً، وهو كان مستعداً لإشعال حرب أهلية كردية من أجل تحقيق هذا الاعتراف، في مقابل إزاحة شبح الاقتتال الكردي- الكردي بعض الشيء. من هذه الزاوية المهمة نال تشكيل "الهيئة الكردية العليا" ارتياحاً كبيراً في الوسط الكردي، رغم الملاحظات العديدة. فالمسؤولية الوطنية والقومية اقتضت تنازلاً سياسياً من قبل الأطراف الكردية تجاه حزب الاتحاد الديمقراطي في هذه المرحلة الحساسة والحرجة.

م.د: من المعلوم أن إقليم كردستان برئاسة مسعود البرزاني يدرب جنودا أكراد انشقوا عن الجيش السوري، وهناك من يقول أن تدريب هذه الفرقة العسكرية يأتي في إطار إعداد ذراع عسكرية للمجلس الوطني الكردي لمواجهة حزب الاتحاد الديمقراطي الذي يسيطر على الأرض. ما رأيك؟

ب.ع: حسب معلوماتي هي قوة عسكرية قليلة العدد مؤلفة من الجنود السوريين المنشقّين من الرتب الدنيا والمطلوبين للخدمة العسكرية، إذ لا يوجد أكراد برتب عالية في الجيش السوري، لكن بسبب الضجة الإعلامية التي أثيرت، يتوقع المرء أنه جيش كبير كأيّ جيش نظامي.

السيد مسعود بارزاني، رئيس إقليم كردستان العراق، لم يعرض على المجلس وطني الكردي تبني تلك القوة العسكرية الموجودة في كردستان العراق ولم يعرض إرسالها إلى سورية في أي لقاء مع قيادات المجلس في أربيل، حسبما سمعنا. لكن بالطبع، فور تداول الخبر حول إحتمال عودة الجنود المنشقين المتدربين في كردستان العراق إلى مناطقهم في سوريا، أعلنت قيادات الاتحاد الديمقراطي علناً رفضهم لقدومهم وعدم السماح بدخولهم، والتهديد بمقاومتهم أيضاً بحجة أنّ هذا الأمر سيكون سبباً لاقتتال داخلي كردي. و في هذا هم يتكلمون صحيحاً. إذ لا يمكن أن يرضى "الحزب القائد" بأي شيء يحد من نفوذه، ولو كلف ذلك اقتتالاً كردياً كردياً.
بغياب مركز قرار سياسي كردي موحّد هناك خطر كبير بالفعل من وجود قوتين مسلّحتين مختلفتين في نفس المنطقة.

م.د: بالإطار الأوسع، أي بما يتعلق بسوريا ككل، نقرأ لك انتقادات حادة أحياناً للمعارضة "الراديكاليّة" كما تسميّها. برأيك أين أخطأت المعارضة السورية في تعاملها مع الانتفاضة السورية؟

ب.ع: مع أنه أصبح النقاش حول هذا الموضوع بلا فائدة عمليّة بعد حصول ما حصل وخراب البلد، لكن للتوثيق والتاريخ فقط، يمكن القول أن الخطأ الجوهري الأساسي كان منذ الأسابيع أو الشهور الأولى للانتفاضة. أما الآن فلم يعد بمقدور أحد السيطرة على الوقائع على الأرض، بعد أن أصبح البلد كله مستنقعاً من الدماء و الدمار، وخرج الأمر من سيطرة المعارضة السياسية نفسها. بدون الدخول في التفاصيل أقول: أخفقت المعارضة السورية التقليدية والجديدة في تقدير قوّة النظام السوري و تماسكه، وبالتالي وقوعها في فخّ "الوهم البصريّ" الذي أشاعته الميديا من خلال نمذجة انتفاضتي تونس ومصر عربيّاً؛ أي أن كلّ نظام عربي يلزمه بضعة أسابيع ليسقط. هذا قبل أن تتحوّل بعض الفضائيات العربية المعروفة إلى منبر للمعارضة السورية الراديكالية، التي كانت تدفع الشباب المتحمس والثوار في الداخل إلى مزيد من الحماس، بل إلى التهوّر، وتقوم بتزيين ذهاب زهرة شباب سوريا إلى دورة العنف الجهنميّ و"محرقة" النظام. كما أخفقت المعارضة في البناء على شيء مهم وأساسي تحقّق فعلاً بعد انتفاضتي تونس ومصر هو عودة السوريين إلى السياسة والشأن العام. الأمر الذي غيّب لعقود في "سوريا الأسد".

كانت هذه فرصة تاريخية لا تعوّض ومكسباً كبيراً بالنسبة لشعب كالشعب السوري غيّب عن السياسة والشأن العام تحت حكم ديكتاتورية شنيعة. بيد أن المعارضة الراديكالية ولأسباب مختلفة أحياناً (الإخوان المسلمين في الخارج، الذين وجدوا أنفسهم أمام فرصة مؤاتية للانتقام من النظام، و النشطاء السياسيين، من المعتقلين السابقين الذين ذاقوا الويلات في سجون النظام ،من بعض التنظيمات اليسارية والقومية، وبعض الشباب المتحمّس قليل الخبرة السياسية) وجدت في ذلك فرصة للذهاب إلى أقصى المطالب فوراً ظناً أنه "أقصر السبل". من هنا تفرّعت كلّ المشكلات برأيي.

لا أغفل أننا لسنا في لعبة شطرنج، نختار ما نشاء من خطط وحركات. ونهمل أشياء أخرى، ولسنا في شروط صحيّة تسمح لنا بالتفكير البارد، ولا الواقع يسير بناء على تفكيرنا وبرامجنا. غير أنه كان للحسابات الدقيقة والمدروسة في بداية الانتفاضة أن تنقذ السورييّن من هذه الكارثة الإنسانية التي يعيشونها منذ سنتين، أو تقلّل من حجمها وعمقها. لا ننسى بالطبع أن رعونة النظام ووحشيّته اللامحدودة تتحمل المسؤولية الكبرى عما جرى وما سيجري لاحقاً. ليس من خلاف كبير حول تشخيص النظام، كونه أكبر عصابة منظّمة ومسلّحة ومستولية على مقدرات البلد. الخلاف هو حول سبل المواجهة و الحلول، والخسارة والربح. وأصارحك أنني لا أعرف شيئاً في العالم يستحق كل هذه التضحيات العظيمة بما فيها "الديمقراطية". لا شيء خلف التلّة. "الانتخابات الحرّة" ليست شيئاً عظيماً، بعد خراب البلد.

م. د: كيف تقرأ المستقبل السوري إذن؟

ب.ع: ليس مبشّراً على أية حال، حتى وفق أكثر السيناريوهات تفاؤلاً، إن بقي هناك متفائلون أو سيناريوهات لحلول قريبة. ليس هناك حل سياسي متوقّع للاستعصاء السوري الدموي. ولا حسماً عسكرياً قريباً. برغم رفع درجة التمويل العسكري للجماعات المقاتلة، في الآونة الأخيرة، بدرجة غير كافية للحسم. ولا ترضى أميركا بحسم سريع. بل نتوقع اشتداد ضراوة المعارك وازدياد منسوب العنف وضحاياه.

وهذه ليست مهمة أميركا ولا أوربا على أية حال. ولا يمكن لومهم أيضاً، إذ ليس من مهمة الأميركان وغيرهم إحصاء عدد القتلى السوريين. هناك أشياء واقعيّة أهم بكثير: أمن إسرائيل، خطوط الطاقة في الشرق الأوسط، الاقتصاد الأميركي، إيران وملفها النووي، التنظيمات الجهادية المعادية لها، الخ…

كان أكثر المتشائمين، مثلي، يقول أن النظام السوري لن يسقط إلا بسقوط الدولة بأكملها معه. الآن نحن أمام حالة رهيبة وأشد خطورة: انهيار الدولة وبقاء السلطة! حتى في المناطق المحرّرة (الأدق أن نقول مناطق منكوبة) والتي تغيب فيها الدولة تماماً بأبسط أركانها (ماء، خبز، كهرباء، وقود) هناك "حضور" ما للسلطة بشكل متقطع: صواريخ السكود وطائرات الميغ بين الفينة والأخرى!
أن نقترب من سقوط السلطة الحاكمة لا يعني أن أهداف الثورة قد تحقّقت. فور سقوطها (لا أدري متى) سوف يتعيّن على السوريين إعادة بناء الدولة نفسها، ولملمة أشلاء المجتمع المحطّم، ولن يكون الأمر سهلاً في أي حال من الأحوال. بعد ذلك يمكن الحديث عن إمكان (فقط إمكان) تحقيق الديمقراطية، والحريات والعدالة وحكم القانون ودولة المؤسسات.
وفي ظني أن لحظة سقوط بشار الأسد وسلطته الفاشيّة لن تجلب للسوريين تلك السعادة المتوقعة، بمن فيهم من ضحّى أكثر وفقد أعزّاء من أسرته أو شرّد من بيته على يد هذه السلطة. هي لحظة عابرة وسنفتح أعيننا جميعاً على خرابٍ عميم، وسيتساءل كثيرون: أمن أجل هذا قُتِل أولادنا، وهُجّرنا وشُرّدنا ودمّرت بيوتنا؟.

*بدرخان علي: اسمه الأصلي "آزاد علي"، كاتب وباحث سياسي سوري، من مواليد مدينة القامشلي 1978. درس في جامعة حلب، كلية الطب البشري، وتخرج عام 2004، ومقيم منذ العام 2010 في السعودية. يكتب بدرخان علي في صحف كردية وعربية عديدة حول الشأن الكردي و السوري وقضايا فكريّة تتعلّق بالعلمانيّة والديمقراطيّة. شارك في الكتابة في أول المواقع الكردية في سوريا "موقع عامودا"، وفي العام 2005 انضم لأسرة تحرير مجلة "الحوار"، وهي فصلية ثقافية كردية تصدر باللغة العربية تهتم بالشؤون الكردية وتهدف إلى تنشيط الحوار العربي الكردي، تطبع وتوزع سرّاً منذ عام 1993. يقوم حالياً بإعداد كتاب عن المسألة الكردية في سوريا، يتضمن سجالات مع مثقفين وسياسيين عرب وكرد.


[ نشر الحوار في موقع "مراسلون" Correspondents.org وتعيد “جدلية” نشره]‬
‫ ‬