كما يشكل موسم رمضان مضمارا سنويا للسباق الدرامي، فإنه على السوية ذاتها يشكل موسما للأغاني على نحو مواز، وذلك عبر التنافس الفني في تترات المسلسلات، التي تمتاز عن غيرها من الأغنيات بفرصة تكرار سماعها 30 مرة، إن كانت الأغنية مخصصة لتتر البداية فقط، و60 مرة إن كانت مخصصة للبداية والنهاية معا، وهذا ما أفرز مع الوقت تكنيكا خاصا درج عليه صناع هذا النوع من الأغاني، سعيا لاستغلال خواصها الفريدة.
وفي الوقت الذي تصنع فيه شروط هذا النوع الغنائي تحديات للشعراء والملحنين والموزعين والمغنين على حد سواء، فإنها في الوقت ذاته، تضيق هامش الاختيارات على نحو يسهم في تسهيل هذه الصناعة، عبر حصرها في حيز البساطة الضرورية، والإيقاع المنساب بما يتلاءم مع أحداث القصة، فيجد الشاعر نفسه إزاء موضوع محدد تفرضه حبكة العمل، ويجد الملحن نفسه أمام قالب تفرضه سرعة الأحداث ومكانها وروح الكلمة التي انتخبها الشاعر، ويجد الموزع نفسه وسط طقس اتفق عليه كل من صناع العمل الدرامي ومنتج الموسيقى التصويرية، وشاعر الأغنية وملحنها.
وفي رمضان 2023، استولت على الشاشات باقة كبيرة من الأعمال الدرامية، ووازتها كذلك باقة بالحجم ذاته من التترات، بعضها اكتفى بالتشكيل الموسيقي، فيما تجاوز بعضها الآخر ذلك التشكيل إلى أغنية متكاملة.
ومن هذه الأغنيات: "ضاع القلب" بصوت نادر الأتات، لمسلسل "وأخيرا" من بطولة قصي خولي ونادين نجيم، و"بدل ماضي" بصوت رحمة رياض، لمسلسل النار بالنار بطولة عابد فهد وكاريس بشار وجورج خباز، و"وحشني نفسي" بصوت أحمد سعد، لمسلسل جعفر العمدة من بطولة محمد رمضان، وباقة فريدة من الأغنيات لمسلسل الزند – ذئب العاصي، من بطولة تيم حسن.
ضاع القلب
الأغنية من كلمات منير بو عساف وألحان هشام بولس وتوزيع عمر الصباغ، وقد أعادت تقديم نادر الأتات بطريقة لم يسبق لنا أن سمعناه عليها، إذ أطرت الأغنية هويته الصوتية بشكل أفضل مما سبقها، وقد استطاع الأتات مستفيدا من المسلسل أن يحقق 3 ملايين استماع حتى لحظة كتابة هذه المادة على قناته على يوتيوب فقط (حيث نشرت الأغنية على أكثر من قناة يوتيوب رسمية)، وهو أعلى رقم يحققه على قناته نسبة إلى الزمن.
ميزة الأغنية أنها في الوقت ذاته الذي تتوافق فيه مع قصة المسلسل وتجسد ثيمته وأحاسيسه، تستطيع أن تقف بشكل مستقل، حاملة مقولتها الخاصة كأغنية عاطفية، تعبر عن حالة يمكن عيشها بمعزل عن أحداث مسلسل يمكن أن يتجاوز الواقع إلى الفانتازيا، فحين تسمع هذه الأغنية تجدها واقعية ويمكن أن تتقاطع مع أزمة أي شاب يعيش ظروفا صعبة على المستوى الاجتماعي أو المادي، ويناور من أجل الحفاظ على قصة حبه.
"مش عطول الحب
بالظروف الحلوة بيِخلق
ولما القلب بيعشق ما بعمرو بيستأذن يعشق
بس القدر لي ودّاك
حتى ابقى انا وياك
غيّر قراره هلق
انت عارف هالحياة حطتني بموقف صعب
بين قلبي اللي بده ياك وظروفي ضاع القلب
كل شي ضدي ضلّك حدي وما تخليني انغلب"
والمتأمل لوزن الكلمات، يمكنه ببساطة أن يتوقع أن الكلمات رُكّبت على لحن جاهز، وهذا التوقع قد يكون صحيحا وقد لا يكون، ولكن الجمل الأولى على وجه التحديد، توحي بذلك من خلال تفاوت المسافات الزمنية فيها، وهذه بالمناسبة وصفة سهلة لنجاح الأغنيات، لأن اللحن يبنى في هذه الحالة على أساس حر، ثم يأتي شاعر محترف كمنير بوعساف فيضع كلمات على اللحن تمنحه تذكرة الوصول.
في اللحن انتبه بولس إلى أهمية الجملة الطويلة الحكّاءة، بما يفي بغرض المسلسل، وهو ما يتلاءم مع نفَس الشاعر أو يتيح له (حسب أيهما أسبق) أن يسرد قصته بشكل متسلسل.
وقد وضع الصباغ أدواته السحرية في التوزيع، متنقلا من الآلات الحادة إلى الهامسة، ومنح صوت المغني الريفيرب الملائم بحيث يعود رجع الصوت هامسا، مشكلا صورة مصغرة للحديث للآخر عن طريق المونولوغ.
بدل ماضي
المغامرة الكبيرة في هذه الأغنية تكبدتها الفنانة العراقية رحمة رياض، حين غنت اللهجة اللبنانية، من كلمات الشاعر مازن ضاهر، الذي اختار أن يوظف الحكمة كثيمة للأغنية، وكأنها استخلاص عام لحبكة المسلسل، واختار قوافي جديدة، كالضاد، التي تكاد تغيب عن مجمل الأعمال:
" متل ما في شخص راضي
في شخص زعلان
متل ما في حكي فاضي
في صمت مليان
مرّات وسع الكون يا ناس ما بدنا
بدنا حضن ضيّق يبقى على قدنا"
ويواصل حتى يصل إلى عبارة القول: "بدنا بدل ماضي" مقترِحا طريقة جديدة للتعويض عن الألم.
اللحن وضع الأغنية في إطار البساطة، من خلال عدم تعديد الإيقاعات بصورة تثقل الأذن، وبالاعتماد على الجمل الموسيقية غير المركبة، وهو شرط أساسي لهذا النوع الغنائي، أفلح فضل سليمان في تحقيقه، وبالبساطة ذاتها التي فرضها اللحن، جاء التوزيع الذي اضطلع به ماجد ضاهر، ويحسب في آخر الأمر لرحمة رياض إتقانها اللهجة إلى حد موفق.
وحشني نفسي
اتحاد محمد رمضان وأحمد سعد في عمل واحد، أتاح لهذه الأغنية تحقيق استماعات عالية نسبيا مقارنة بغيرها، خصوصا أن الأغنية لم تهمل الكلمة الحادة مقابل اعتمادها على لحن بسيط ومعقد في آن، فجنح الشاعر أحمد إبراهيم إلى الكلمة الشعبية التي تلائم طقس العمل، لكنه لم يفرض على أحمد سعد كملحن لحنا شعبيا، إذ اختار إيقاعا غربيا، مع نوتة شرقية، بنى بينهما لحنا اقتضى الغناء قبل الإيقاع، وتمكن من ضبط غنائه خارج المنظومة الإيقاعية على نحو ساحر، أما التوزيع الذي أوكل لخالد نبيل فجاء على نمط كلاسيكي جميل، لا يضع الغلو هدفا، محققا شرط النوع، لكن الأغنية ضيّقت دائرة مستمعيها، حين لم تراعِ أهمية الاستقلال عن العمل، فارتبطت الكلمات بقصة المسلسل، التي تعد ضربا من الندرة والفانتازيا، وقد اختار صناع المسلسل أغنية أخرى للنهاية هي شيال الجبال، من كلمات سارة سعيد وألحان هيثم نبيل وتوزيع خالد نبيل، وبصوت أحمد سعد، فضلا عن أغنيات أخرى انطوت عليها الحلقات.
أغنيات مسلسل الزند
أما مسلسل الزند فقد وضع صناع أغانيه نصب أعينهم الاقتراح الجديد هدفا واضحا، تمثل في استعارة التراث وتقديمه على نحو معاصر، ففي أغنية المقدمة انتخب الموسيقي جان آري سرحان عتابا قديمة بصوت الفنانة الراحلة نوفة البدوية، وهي " قالوا يا ليلى الناس بغرامك ولوعين..." وأعاد توزيعها مستثمرا في البناء المشهدي الموسيقي، عبر خلق أصوات موسيقية جديدة، تراوح بين رهبة التراث ووثبة المستقبل، الصادم المدهش تجلى بالتوصل إلى إنتاج عتابا يعرفها الباحثون في موسيقى بلاد الشام جيدا، ولكن بصورة جديدة فيها مغامرة تتمشى بحذر على خيط الخطورة، بل تركض ركضا، إذا أخذنا الإيقاع الغربي لها بعين الاعتبار، ولم يركن سرحان إلى الصوت الموسيقي التراثي بصفته محيطا حيويا للعتابا، إنما استدخل أصواتا أكثر لمعانا، فاستقدم الدودوك الأرمني وأراح الناي من عناء الوصول، واستعار الكامونتشا التركية لتعبر عن الربابة بصورة أكثر حدة، وبالبزق عبّر عن دور عن العود بصوت أرخم، فلا أفقر موسيقاه ولا شوّه التاريخ الموسيقي للمنطقة.
أما في تتر النهاية الذي قدمته الفنانة مها الحموي، فقد غير جان آري سرحان قواعد اللعبة كلها، إذ استعان بعتابا كان قد كتبها شاعر العتابا المخضرم برهوم رزق، وغناها كثيرون من قبل، وهي "أنا وانت رفاق الدرب يا بليّاه"، لكنه طلب من شاعرها إضافة مقاطع جديدة، ولحنها بنمط جديد، متخذا من الإخلال بشروط العتابا منهجا، ومع ذلك فقد أفلح في صناعة عمل جدير بالاحتفاء، فاتجه إلى مقام النهاوند، متخليا عن الاقتران التاريخي للعتابا بمقام البيات، وأصر على استدخال إيقاعات مركبة وغير منتظمة، لتلعب دور الحشد الحسي، صعودا على سلم الحماس، بعد أن أسقط الحماسة المعتادة في غناء العتابا، عبر الاقتراح الذي حمّله على صوت مها الحموي، التي غنت كما تفعل أمهاتنا وجداتنا في الهدهدات أو أثناء الانكفاء على أعمال البيت والمطبخ، فلا جَلجَلة ولا تضخيم صوتي في الغناء، إنما ارتكاز على الهمس الجميل، المرصع بحليات ناعمة، والمحفوف بدفق حسي لا يضاهى.
واشتلمت الحلقات أيضا على مجموعة مبسطة من العتابا، جاءت مجاورة للمَشاهِد التي وردت فيها، وتم تقديمها بالصورة التراثية التقليدية، فكأن صانع موسيقى العمل، تقصد تقديم هذا النوع بأكثر من طريقة، بغية التجديد من جهة، والحفاظ على التاريخ من جهة أخرى.