باولو سكوت، ترجمة نور طلال نصرة
(دار الخان للنشر والتوزيع، الكويت، 2023)
[باولو سكوت، روائي برازيلي، شاعر وكاتب مسرحي، وسيناريست ومترجم].
[نور طلال نصرة: كاتبة ومترجمة سورية، مواليد دمشق 1987. وحاصلة على إجازة في الترجمة من جامعة تشرين، كلية الآداب والعلوم الإنسانية، قسم اللغة الإنجليزية].
جدليّة (ج): كيف اخترت الكتاب، ما الذي قادك نحوه؟
نور نصرة (ن. ن.): كل ترجمة هي مغامرة تقودني إلى التحدّي والاكتشاف ومتعة الإنجاز. الناشر اقترح الكتاب أولاً، لكن ما شدّني إلى الرواية هو أنّها تنتمي للأدب أمريكا اللاتينيّة، بشقّها البرازيلي الناطق بالبرتغاليّة، فلطالما كنتُ أعتبره أدباً ثرياً وغنياً، وقد سبق لي أن ترجمت كتابًا للكاتب البرازيليّ الكبير ماشادو دي آسيس، ناهيك عن الذين عرفتهم كقارئةٍ على غرار جورجي أمادو وباولو كويلو. ومن جهة أخرى رغبتُ بالتعرف على المجتمع البرازيلي البعيد عنا جغرافياً وثقافياً، وهذا ما نلته من خلال قراءتي لهذه الرواية التي وصلت للقائمة القصيرة في جائزة ساو باولو الأدبية عام 2020، وذلك نظراً لطرحها قضية مهمة وشائكة كالعنصرية في بلد تحكمه الفوضى ويسير نائماً على حدّ تعبير الكاتب باولو سكوت.
(ج): ما هي الثيمة/ات الرئيسية؟ ما هو العالم الذي يأخذنا إليه النص؟
(ن. ن.): الثيمة الأساسية هي العنصرية العرقية في المجتمع البرازيلي وتشعباتها العميقة في الثقافة هناك. ففي بلد مثل البرازيل، لا تبدو مشكلة العنصرية واضحة ومحسومة كما نعرفها في باقي البلدان والثقافات. هذا البلد الكبير والشاسع في أمريكا الجنوبية، بأعراقه وإثنياته وسكانه الخليط من الهنود والمحليين والأوروبيين، كما باقي البقع الجغرافية المهملة، يُعاني من تنوع عرقيّ أشبه باللعنة المستدامة التي توسم أكثر من ثلث سكانه، فلا يكفي أن تكون فاتح البشرة لتنأى بنفسك عن التصنيفات العرقية وتهمة العنصرية وشعور الذنب أنك من العرق الأسود، قد تشير شفاهك العريضة أو أيّ سمة ظاهرية أخرى لمورّثات عرقية، ناهيك أن تكون من الميستيكا أو المولاته، أو حتى بُنيًا فاتحًا على غرار بطل الرواية. تأخذنا الرواية في رحلة ممتعة في شوارع وأحياء مدينة بورتو أليغري، وهي استكشاف ومسح للتصنيفات العرقية والأطياف اللونية في ذلك المجتمع المتنوّع والمتشعّب.
(ج): ما هي التحديات التي جابهتك أثناء البحث والترجمة؟
(ن. ن.): شكّل لي أسلوب الكاتب السردي تحدياً جديداً، فعندما قرأت العمل للمرة الأولى، ظننتُ أن المترجم الإنجليزي تدخل على روح النص، فقد يستغرب القارئ العربي نمط هذا النوع من السرد الروائي المتسارع، الذي يعتمد على جملة واحدة طويلة في كل مشهد. تنتمي الرواية لأدب ما بعد الحداثة، بمفرداتها البسيطة ولغتها السريعة البعيدة عن اللغة الكلاسيكية الروائية المألوفة لدينا، حتى ليشعر القارئ أنه أمام مشهد سينمائي، بدلالات بصرية واضحة، تفرض إيقاعًا ومواكبة سريعة لأحداث الرواية وتقاطعات الحوارات، وتجاذبات الشخصيات وصراعاتها، وكأنّ الكاتب اعتمد تقنية الديكوباج في تقطيع أحداث الرواية إلى مشاهد مرئية، ليُجبرنا أن نُنقّل نظرنا بينها لئلا نضيع خيط السرد أو من يدير الحديث.
التحدّي الآخر هو أسماء الشوارع والأحياء في مدينة بورتو أليغري، استعنت بخرائط الغوغل لأكون دقيقة وحذرة في التسميات، كما لم أكتف بالنسخة الإنكليزية للعمل فقط، بل اطلعتُ على النسخة البرتغالية الأصلية وقارنتُ تشكيل المقاطع، لأتبيّن أن المترجم إلى اللغة الإنكليزية دانيال هان، كان بارعاً وأميناً في نقل العمل ولم يقُم بأيّ تدخل على روح النص، أو أي تعديل من شأنه أن يُغيّر الأسلوب، لهذا التزمتُ بتقطيع الجُمل والفواصل وطول المقاطع.
(ج): ما هو موقع هذا الكتاب في مسيرتك الإبداعية؟
(ن. ن.): إنه العمل الخامس لي ضمن الكتب المترجمة المنشورة، والتاسع ضمن مجمل كتبي الصادرة، ولديّ ترجمتين قيد الطباعة، ربّما تصدران في الأشهر القادمة. هذا بحال أردتم أن تسألوني عن موقع الكتاب من حيث العدد، ولكن بحال أردنا الحديث عن موقع الكتاب في مسيرتي من حيث الأهميّة، فهنا أجدُ نفسي محتارة، لأنّ كلّ الأعمال التي ترجمتها كانت ذات أهميّة كبيرة وقد أضافت لمسيرتي كمترجمة. لكنّني لن أتورّع عن القول إنّني أوليت لهذا الكتاب تحديدًا عنايةً خاصّة ومميّزة عن بقيّة ترجماتي، إن من جهة التفرّغ المطلق له، أو حتّى الاستعانة بكافّة الوسائل الممكنة التي تساعدني على إنجازه.
(ج): هل هناك نصوص كانت ذات تأثير خاص، أو قرأتها أثناء إنجاز الترجمة؟ ما هي المراجع التي اعتمدت عليها؟
(ن. ن.): قبل البدء بأي ترجمة يجب الاطلاع على أجواء العمل وما يتناوله من قضايا اجتماعية، قرأت لمحة تاريخية عن البرازيل والتوزع الجغرافي فيه، كما قرأت بعض المقالات المكتوبة في الصحافة عن الرواية وأهميتها في طرحها للعنصرية في بلد متعدد الأعراق مثل البرازيل.
كما أنّني لا أخفي استعانتي بالنسخة البرتغاليّة الأصلية، صحيحٌ أنّني لا أجيد البرتغاليّة غير أنّني أستطيع استشفاف روح النص من خلال النظر إليه، وهذا ما اجتهدتُ للحصول عليه كي أصل لترجمةٍ جيّدة، وأيضًا استعنت بزميلٍ لي يجيدُ البرتغاليّة ليساعدني في إجراء مقاربةٍ بين النسخة البرتغاليّة والانكليزيّة، وهذا ما يجعلني أقول إنّ هذا الكتاب من أجمل الترجمات التي اشتغلتُ عليها، إن لم تكن الأجمل.
(ج): من هو الجمهور المتوقع للكتاب وما الذي تأمل أن يصل إليه القراء؟
(ن. ن.): عليّ الإعتراف بأنّني توقّفت نهائيًّا عن توقّع جمهورٍ لكتاب ما، ليس لكتابٍ من اشتغالي بل أيّ كتاب، ربّما لأنّه احتمالٌ مفتوح، قد يقرأه قارئٌ عادي أو يقرأه متخصّص، قد يقرأه أستاذ جامعةٍ وقد يقرأه بائع خضار، قد يقرأه شابٌ في العشرين وقد يقرأه عجوزٌ في الثمانين.... القراءة للجميع، وكلّ كتابٍ يقرأه المرء يزيد من ثقافته ومعرفته، أيّا كانت نسبة هذه الزيادة. لهذا أفضّل القول إنّ الجمهور المتوقع لهذا الكتاب هو كلّ من يقرأ باللغة العربية.
(ج): ما هي مشاريعك الأخرى/المستقبلية؟
(ن. ن.): بدأت الآن بترجمة رواية جديدة ستصدر في الأشهر القادمة، وأعمل على إنهاء مجموعة نصوص سردية.
مقتطف من الرواية
جاء الموظّف، فتح الباب، ودون أن يتمهّل ليطلب إذن الدخول، خطى إلى الداخل مشيراً إليّ اللحاق به. وقفتُ أمام ثمانية أشخاص لا أعرفهم كانوا في انتظاري، هؤلاء الثمانية هم اللجنة المختارة من الحكومة الجديدة بغية إيجاد حلٍ مناسب، وهو الحل الأخير في القائمة الحلول الطويلة المواتية والخاطئة التي اتخذتها الحكومة الجديدة، للحدّ من الفوضى التي نجمت فجأة، جرّاء تطبيق سياسة الكوتا العرقية للطلاّب في البرازيل، ذلك البلد الذي يسير نائمًا، المستعمرة الضخمة السابقة للتاج البرتغالي في أميركا الجنوبية، الموسوم حول العالم كمكان متناغم إثنيًا، وناجح جدًا في تمازج الأجناس، البلد الذي كان مسموحًا فيه لقرون، اغتصاب الرجال البيض للنساء السود ونساء البلد من السكان الأصليين، دون رادع، وكما معظم كل تلك الأراضي التي عمّدت العالم الجديد، تم استيعابه، تهدئته، ومن ثمّ نسيانه، مكان في القرن الواحد والعشرين لم يجرؤ فيه أيّ أحد البتة على مجرّد اقتراح قانون، ناهيك أن يكون الأمر جديًا، يمنع شخصًا أسود الالتقاء بأبيض، أبيض بمهجّن، مهجّن مع أسود، بلد يُعدّ المرتبة الأولى في تصنيفات ما يُسمّى بالديمقراطيات العرقية على كوكب الأرض، بلد هو رمز لألفة فريدة من نوعها، ألفة مُطلسمة، تجعل الأشخاص الذين لا يعرفون ما هو أفضل منها، يميلون لاستقرائها على أنّها سمة على دفء البرازيل الذي لا مثيل له.
ودون أن ينتظرني لأتكلّم أو يتكلّم أحد من الأشخاص الثمانية، بادَرَ الموظّف على الفور في تقديمي، مرتكبًا خطأ منذ البداية، الخطأ نفسه الذي يرتكبه الكثير من الأشخاص سهوًا، في لفظ اسمي الأوّل، منادينني فريدريكو بدل فيديريكو، مع أنّه حقيقة كان ينظر إلى صفحة قياس A4 مطبوعة بخط Arial-14، مع سيرة ذاتيّة موجزة، عليها اسمي الصحيح، وبغض النّظر عن وجود ذلك الشيء القديم المُسمّى ويكيبيديا، كان بإمكانه تجميع السيرة من أخبار متفرّقة يختارها من أيّ بحث عشوائي عبر الإنترنت. أفاد أنّني كنت أحد مؤسسيّ المنتدى الاجتماعي العالمي في مدينة بورتو أليغري ، وأنني كنتُ باحثًا مهمًا في ما يُسمّى التسلسل الهرمي لألوان البشرة، وفي التدرّج اللوني والأسباب المنطقية له في البرازيل، وفي الانحراف اللوني، وفي السياسات التعويضية وعدم استيعابهم بين النخب البرازيلية، حيث أسديتُ النصح للمنظّمات غير الحكومية في البرازيل وأمريكا اللاتينية وبقية دول العالم، وكنتُ مستشارًا لشركة أديداس، نعم ذلك صحيح، أديداس الشركة الألمانية الأصل الشهيرة المُصنّعة للملابس الرياضية عالية الجودة، كان الرجل غبيًا لدرجة تأكيده على هذه النقطة كما لو أنّها الأهّم في سيرتي الذاتية، فكّرتُ في مقاطعته والقول على سبيل التوبيخ أنّني أبداً لم أعمل مستشارًا لأديداس من قبل، عملتُ فقط كوسيط لوكالة قامت بالإعلان لصالحهم بالتّعاون مع بعض فنانيّ الرسم على الجدران في شوارع برازيليا لتقديم سلسلة مقاطع فيديو كانوا يصوّرونها للبثّ على تطبيقات الڤيميو، واليوتيوب، والإنستغرام، وهو عمل مستوحى من حملة قديمة قُدّمت في الولايات الأمريكية في الثمانينات تحت شعار التزلّج ليس جريمة ، لكن تمالكتُ نفسي وامتنعتُ عن الكلام، تاركًا إياه يكمل كي لا يرتفع ضغط الدم لدى رجل في التاسعة والأربعين من عمره يتناول أصلًا خمسة ميلغرامات من نابريكس كل صباح ليسيطر على ضغطه، وآخر شخص يمكن ترشيحه من قبل رئيس الجمهورية الجديد المتميّز ليكون جزءًا من هذه المجموعة التي يُفترض أنها جديرة وذات كفاءة، ثمّ، وبمجرد أن انتهى من القراءة، ودون أن يُربّت على كتفي متمنيًا لي حظًا موفقًا، ينسحب الموظّف الذي أخطأ في لفظ اسمي.