على مدى العقود الماضية، أسهمت أنماط الحياة الحضرية والعولمة في شيوع وتزايد معدلات الاستهلاك، وصاحب الاستهلاك الهائل للسلع والخدمات بالضرورة استهلاك كبير لموارد الأرض وتنوعها الحيوي، ذلك لأن السلع التي تشترى وتستهلك كانت تنتج وتنقل وتستهلك وترمى بطرق لا تراعي البيئة، سواء من ناحية احتوائها على مواد بلاستيكية وبوليمرات لا تتحلل في الطبيعة، أو من ناحية اعتماد إنتاجها على استهلاك الموارد المحدودة للكوكب.
إن توجيه جهود العلماء والمبتكرين نحو أفكار خلاقة تسهم في الحفاظ على بيئة الأرض، وتحافظ بنفس الوقت على أنماط الرفاه التي يتمسك بها الإنسان الحديث، بحيث يصبح الخيار البيئي متاحاً ورخيصاً وقابلاً للتطبيق كان ولا يزال أمراً ضرورياً ومهماً، ورغم الإمكانات المحدودة وعدم الجدية التي نلمسها عند السياسيين والاقتصاديين في الرغبة بالتحول نحو الاقتصاد المستدام، إلا أن الجهود المتناثرة للعلماء والرياديين المهتمين بالبيئة أسفرت عن تصور رائع وقابل للتطبيق بشكل معقول للاقتصادات المستدامة.
تواجه الغابات في العالم جوراً كبيراً، وأحد أسباب هذا الجور هو استخدام الأخشاب لإنتاج الأثاث والورق والورق المقوى وغيرها من المنتجات القائمة على الأخشاب، ومن هنا انطلق التفكير في ضرورة إيجاد حلول مبنية على العلم، فجاءت أول إجابة علمية بأن الأشجار بشكل عام تقل قدرتها على الاحتفاظ بالكربون بشكل كبير بعد عدد معين من السنوات، فأحد الآليات التي تسهم فيها الأشجار بالحفاظ على البيئة هي قيام الأشجار بسحب ثاني اكسيد الكربون من الجو واستخدامه في النمو، وبهذا تقوم الأشجار بحبس الكربون على شكل أخشاب، ولكن بعد فترة من الزمن تقل قدرة الأشجار على النمو وبالتالي تقل قدرتها على الإحتفاظ بالكربون، وبما أن استهلاكنا يزداد وتزداد معه الإنبعاثات الكربونية فإننا نحتاج إلى المزيد من الغابات لنحافظ على درجة حرارة كوكبنا، لا يبدو الأمر مبشراً حتى الآن.
طالما أن الجهود البحثية في مجال البيئة تجد شيئاً من التمويل، على الرغم من قلته، فإن الأمل في إيجاد حلول علمية للدمار الذي يتسبب به الاستهلاك الجائر لموارد الأرض لا ينعدم، لتبدأ الأبحاث التي تتحدث عن الألياف الخشبية بالظهور، لينفتح الأفق أمام إمكانية الاستغناء عن المنتجات البلاستيكية والبوليمرات التي يستهلك العالم منها ملايين الأطنان بشكل يعرض الحياة البحرية والتنوع الحيوي لأخطار كبيرة، عبر استبدالها بالورق المقوى المستخدم في الأكياس والتغليف، بالإضافة إلى البدأ بتطوير المنسوجات القائمة على الألياف الخشبية بشكل يسمح بالتخلي عن البوليمرات المستخدمة في صناعة الألبسة، بشكل سيغير مستقبل هذه الصناعة التي تستنزف المياه والموارد وترتبط بالاستغلال وعمالة الأطفال وغيرها من التجاوزات.
يطرح هنا تساؤل مشروع: ألسنا نشتكي من الجور على الغابات، فكيف للصناعات القائمة على الغابات أن تكون حلاً بيئياً فعالاً؟ تلتقي الإجابتان العلميتان السابقتان عند نفس النقطة، فالحاجة إلى زراعة المزيد من الأشجار من أجل حبس المزيد من ثاني أكسيد الكربون على شكل أخشاب يتطلب زراعة المزيد منها على اعتبار أن الغابات مورد محدود، والحاجة إلى استهلاك الأخشاب من أجل إنتاج الألياف الخشبية والورق المقوى وغيره يتطلب الاستثمار في زراعة المزيد من الأشجار، وهنا تلتقي الإجابتان العمليتان مع المصلحة الاقتصادية للمستثمرين في هذا المجال، بشكل يجعل من الأمر نقطة جذب استثمارية وبداية مناسبة لاقتصاد مستدام يعتمد بشكل رئيسي على الإستثمار في قيام الغابات بمهمة سحب الانبعاثات الكربونية من الجو ويقدم بنفس الوقت بدائل عن المنتجات غير الصديقة للبيئة.
ساهم التطور التكنولوجي في تناقص كبير باستهلاك الورق والطلب عليه، نتيجة لاعتماد الحكومات على الإجراءات الإلكترونية في المعاملات، وميل الأفراد لاستخدام الأجهزة اللوحية في القراءة بدلاً من الكتب التقليدية، وهذا يشكل نقطة تحول أخرى في شكل الاقتصاد القائم على الغابات.
التساؤل حول إساءة إدارة هذه الفرصة أو هدرها تساؤل مشروع أيضاً في هذا السياق، فإساءة التعامل مع هذه الفرصة ممكن جداً كما يخبرنا التاريخ عن مختلف الإختراعات التي أسيء التعامل معها، من البنسلين إلى الطاقة النووية وحتى الطاقة الشمسية وطاقة الرياح، فالأرض والمساحات القابلة للزراعة مورد مهم ومحدود، لذلك فإن الاقتصاد المستدام القائم على منتجات الغابات والألياف الخشبية يجب أن يخضع منذ البداية للتخطيط والمراقبة، وأن تنطلق في البلدان المهتمة بدخول هذا المجال نقاشات علمية وقانونية لسد الثغرات التي من الممكن أن تكون منفذاً للتدمير والاستنزاف بدلاً من الاستدامة، وهو ما تتقنه الشركات الرأسمالية التي لا تحمل قيماً سوى تعظيم الأرباح والتي ستتجه نحو الإستثمارات الصديقة للبيئة باعتبارها محض فرصة استثمارية.
أخيراً، هل من الممكن أن يكون العالم العربي جزءاً من هذا الاقتصاد المستدام؟ الإجابة نعم، ومن الممكن أن يكون رائداً في هذا المجال أيضاً لاعتبارات كثيرة، أهمها توافر المساحات الشاسعة والأيدي العاملة، لكن خطوة استثمارية جريئة وتعتمد على الإنتظار لعدة سنوات ريثما يتحقق العائد تحتاج إلى استقرار سياسي وحكمة في اتخاذ القرارات الاقتصادية، وهو –لسوء الحظ- ما تفتقر إليه بلداننا.