[معين رباني باحث وأكاديمي نشر الكثير من المقالات حول الشؤون الفلسطينية، والصراع الإسرائيلي الفلسطيني، والشرق الأوسط المعاصر. عمل سابقاً كمحلل رئيس للشرق الأوسط ومستشار خاص حول إسرائيل وفلسطين في مجموعة الأزمة الدولية،و كمستشار للشؤون السياسية في مكتب المبعوث الخاص للأمم المتحدة إلى سوريا. معين رباني أيضاً أحد أعضاء طاقم تحرير "جدلية"].
عارضتْ إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن منذ البداية الانخراط في الملف الإسرائيلي الفلسطيني، لاسيما في الوقت الذي تَطَلَّبَ فيه الأمر التدخل وبذل رأس مالٍ سياسي. ولقد اختار بايدن منذ تولّيه للرئاسة تركيز الجهود الأمريكية في الشرق الأوسط على إيران، وعلى المفاوضات حول شروط ستستأنف واشنطن بموجبها الامتثال لخطة العمل الشاملة المشتركة، وأعني الاتفاقية الدولية التي أُبرمت في ٢٠١٥ مع إيران والتي أعلن سَلَف بايدن دونالد ترامب في ٢٠١٨ الانسحاب منها من جانب واحد. وفي مطلع ٢٠٢٢، وبسبب الحرب في أوكرانيا، غيّرتْ الولايات المتحدة أولوياتها، وركزت على إضعاف النفوذ الروسي في المنطقة، وإقناع منتجي الطاقة فيها بزيادة الصادرات لتخفيف تأثير العقوبات المفروضة في صناعتيْ النفط والغاز الروسيتين.
كانت المقاربة السياسية التي اختارتها الإدارة الأمريكية إزاء إسرائيل والفلسطينيين هي إدامة الوضع القائم بحجة أن الظروف غير مهيأة لطرح مبادرات لتغييره. ولقد كان الهدف من وراء هذا الإهمال الاستراتيجي إبقاء قضية فلسطين خارج جدول الأعمال الإقليمية والدولية كي تستطيع واشنطن الانصراف إلى أولوياتها، سواء أكانت أوكرانيا أم الصين.
تعني هذه السياسة في الممارسة العملية دعماً أمريكياً متواصلاً لترسيخ حكم إسرائيلي دائم على الفلسطينيين، وإفلات إسرائيل من العقاب فيما تحقق أهدافها التوسعية. وبصرف النظر عن إعادة التمويل الأمريكي للأونروا، وﻛﺎﻟﺔ ﺍﻷﱈ المتحدة ﻹﻏﺎثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين، رفضت إدارة بايدن إلغاء الإجراءات والمبادرات العديدة التي اتُخذت أثناء سنوات ترامب دعماً لأجندة إسرائيل التوسعية، كما تبنت أيضاً سياسة هدفت إلى زيادة التطبيع العربي الإسرائيلي من أجل أن تزيد من تهميش القضية الفلسطينية. وواصلت واشنطن على نحو لافت معارضة المبادرات الفلسطينية مثل اللجوء إلى المحكمة الجنائية الدولية ومحكمة العدل الدولية، من أجل وقف السياسة التوسعية وضم الأراضي.
كان موقف بايدن ووزير خارجيته (ومساعده في السياسة الخارجية منذ وقت طويل) أنتوني بلينكن طبيعياً وغير مفاجئ فقد كان كلاهما داعماً قوياً لإسرائيل وسياساتها. (ودعم الثنائي أيضاً بقوة غزو العراق واحتلاله في ٢٠٠٣، وأيدا بعد ذلك تقسيمه. وعلاوة على ذلك دافع بلينكن عن التدخل العسكري في ليبيا، ودعم التدخل الأمريكي في حرب ٢٠١٥ التي قادتها السعودية ضد اليمن، وأعرب عن أسفه من قرار إدارة أوباما الامتناع عن قصف أهداف للحكومة السورية).
كانت الذبابة التي في المرهم (المشكلة المعرقلة) المتجسدة في رئيس الوزراء الإسرائيلي بينامين نتنياهو المتناغم مع عدو بايدن دونالد ترامب قد أزيلت من المشهد بعد وقت قصير من تولي بايدن لمنصبه. وصار دعم الائتلاف المتصدع الذي أطاح بنتنياهو حافزاً إضافياً لواشنطن كي تدعم إسرائيل وهي توسع استعمارها للضفة الغربية. وفي ٢٠٢٢ قتلت إسرائيل من الفلسطينيين على الأرض عدداً تجاوز ما فعلته منذ نهاية انتفاضة الأقصى في ٢٠٠٠-٢٠٠٤. إلا أن المشكلة التي تواجهها واشنطن هي أن الوضع القائم - التوسع الاستيطاني الزاحف- ديناميكي بطبيعته وليس ساكناً. بالتالي، إذا افترضنا أنَّ هدف الإهمال الاستراتيجي هو تمكين الولايات المتحدة من أن تزيد من تهميش القضية الفلسطينية، إلا أنَّ هذا الهدف نفسه يبدو فاشلاً. ولقد توضح هذا لكل من بايدن وبلينكن في الأشهر الأولى من توليهما لمنصبيهما، حين تصاعدت الهجمات الإسرائيلية على حي الشيخ جرَّاح في القدس الشرقية والمسجد الأقصى، وتطورت إلى مواجهات في كل أنحاء إسرائيل والأراضي المحتلة، وأدت إلى سقوط عدد كبير من الضحايا. وبعد أن توسعت المظاهرات المؤيدة للفلسطينيين على نطاق واسع في أنحاء العالم العربي وحذر رئيس هيئة الأركان المشتركة الأمريكية مارك ميلي من ”زعزعة أوسع للاستقرار“ إذا تواصل الاعتداء الإسرائيلي، تطلب الأمر تدخلاً أمريكياً على مستوى رفيع لإيقافه.
أظهرت أحداث عام ٢٠٢٣ مرة أخرى حماقة سياسة واشنطن، وكذلك عواقبها المهلكة. وبوجود نتنياهو مرة أخرى على رأس السياسة الإسرائيلية وفريقه الداعم الذي يلائم حكومة لموسوليني، انخرط القادة الإسرائيليون في استفزازات ممنهجة ضد الفلسطينيين، وصعّدوا مستوى العنف في الضفة الغربية.
هذا، وكشفت سيرورة الواقع الراهن عن أنَّ الرئيس الفلسطيني محمود عباس ليس إلا تابعاً متواطئاً وشخصاً عاجزاً في علاقته مع السلطة الإسرائيلية، غير أنه ردَّ مبكراً هذا العام ببيان لم تُؤكد صحته بعد بأن السلطة الفلسطينية علّقتْ التعاون مع قوات الأمن الإسرائيلية، وأنه أمر دبلوماسييه بدعم قرار مجلس الأمن الذي يؤكد عدم شرعية المستوطنات الإسرائيلية. لم ترغب واشنطن بإلقاء اللائمة على إسرائيل بسبب انتهاكاتها للقانون الدولي، ولكنّها تردّدت، بطريقة معيّنة، في أن تكون صوتاً وحيداً يدعم التوسُّع الإسرائيلي؛ ذلك أنها تطالب الآن بقية دول العالم بالتنديد بالتوسُّع الروسيّ في أوكرانيا، ولذلك أشار مسؤولون ومحللون على حدٍّ سواء إلى أن الفلسطينيين كانوا موضِعَ حسد لقدرتهم على التأثير في الأمريكيين، إلا أن الولايات المتحدة نجحت في ترتيب سحب مشروع القرار واستبداله ببيان رئاسيّ مُهَدِّئ، ذُكِرَ فيه "التزام" وحيد لطرف مُسَمَّى هو التزام "السلطة الفلسطينية بالتخلي عن الإرهاب ومواجهته". وكان الثمن الذي دفعته واشنطن لاجتناب استخدام حق النقض المحرج هو التزامها بدعوة عباس إلى البيت الأبيض في وقت لاحق من هذا العام. وبحسب ما قاله الصحافيّ الإسرائيلي باراك رافيد: إن ما ”أقلق“ الأمريكيين هو أن تصويت مجلس الأمن ”سيقود إلى مزيد من التصعيد بين الإسرائيليين والفلسطينيين قبل المدة القادمة الحساسة تاريخياً من عيد الفصح وشهر رمضان المبارك“ لكن ما حدث هو أن التصعيد هو بالضبط ما تمخضت عنه جهود بلينكن لحماية إسرائيل من المساءلة عن أفعالها. وكان هذا متوقعاً تماماً. وفي 22 شباط / فبراير، بعد أقل من 48 ساعة من دعوة مجلس الأمن الخجولة "جميع الأطراف لالتزام الهدوء وضبط النفس" و"تهدئة الوضع على الأرض"، قُتل 11 فلسطينيًا في هجوم إسرائيلي واسع في الصباح على نابلس.
استجابت واشنطن في السادس والعشرين من شباط (فبراير) بمساعدة كل من الأردن ومصر. ورعت عَقْد محادثات إسرائيلية فلسطينية عالية المستوى في ميناء العقبة الأردني، نتج عنها أول بيان مشترك منذ سنوات تعهدت فيه إسرائيل بالامتناع مؤقتاً عن عمليات ضم إضافية، والتي كان من المقرر إجراء مداولات بشأنها بعد انتهاء فترة الالتزام. وأوضح نتنياهو والمسؤولون الكبار الآخرون أيضاً أن ”التزامهم بالعمل لإنهاء الإجراءات المتخذة من جانب واحد على الفور“، لن يؤثر في تنفيذ القرارات المتخذة حيال التوسع الاستيطاني.
وبينما شكرت الأطراف واشنطن ”على دورها الذي لا غنى عنه بسبب جهودها المبذولة لمنع التدهور والعثور على آفاق للسلام“، فإن الانفصال بين ما يجري في العقبة والواقع غربَ نهر الأردن، وعدم ارتباط السلطة الفلسطينية بهذا الواقع، تجلّى في ذلك اليوم نفسه، في قتل مُستوطنيْن رمياً بالرصاص في بلدة حوارة على المداخل الجنوبية لنابلس؛ ذلك رداً على اقتحام نابلس، واعتداء المستوطنين في حوارة في ذلك المساء والذي نعته عدد من المعلقين الإسرائيليين في إعلام التيار الرئيس وبينهم اللواء يهودا فوكس القائد العسكري الأقدم في الضفة الغربية بأنه ”مذبحة“. وكما لو من أجل أن يوضح هذه النقطة أكثر طالب وزير المالية الإسرائيلي بتسلئيل سموتريتش بأن تتصرف الحكومة على نحو يُظهر أنَّ سارية البناء اهتزت أركانها“، وبعد عدة أيام من الاضطرابات أعلن أن ”حوارة يجب أن تُمحى“. أما المزاعم بأن الجيش الإسرائيلي فشل في منع اعتداء حوارة لأن المستوطنين باغتوه، والذين كان قادتهم يعلنون ذلك صراحة في الإعلام الاجتماعي، فأمرٌ مثير للسخرية. إن الحقيقة هي أن المستوطنين المسلحين تم تمكينهم باستمرار وحمايتهم من قبل الجيش كمسألة سياسة، ويعملون بشكل فعال كميليشيا مساعدة في خدمة الدولة الإسرائيلية. إن المستوطنين المتشددين ممثلون جيداً في الجيش الإسرائيلي، ولا يحتل عدد من قادتهم الأكثر تشدداً وتعصباً الأرض الفلسطينية فحسب؛ بل أيضاً مناصب عليا في الدولة. على النقيض من ذلك لو أن الجيش بوغت من قبل سكان حوارة وهم يدخلون إلى مستوطنة يتسهار القريبة المبنية على أراضيهم لما استمرت الحادثة أكثر من بضع دقائق.
وكما حصل، تصرف الجيش بعد عدة أيام بكفاءة عالية حين منع مجموعة من الناشطين من دخول حوارة كي يعبّروا عن تضامنهم مع سكانها، وأثناء العملية تصرف الجيش بخشونة مع رئيس الكنيست السابق أفراهام بورغ. ورغم ذلك في السادس من آذار (مارس) سمح الجنود مرة أخرى لمجموعة من المستوطنين بالانتشار في البلدة، وهذه المرة رقصوا معهم احتفالاً بعيد المساخر في الشوارع. ويتساوق مع سير الأحداث بشكل كامل قتل ستة فلسطينيين آخرين على يد الجيش الإسرائيلي في جينين في اليوم التالي ومناصرة واشنطن للهجوم كـ ”حق شرعي“.
ورغم أن إسرائيل هي المستفيد والشعب الفلسطيني هو الضحية الرئيسة لسياسة واشنطن، إلا أن هذا الإهمال الاستراتيجي مصمم بالدرجة الأولى كي يخدم المصالح الأمريكية. وكما أوضحت الأحداث الأخيرة بشكل متزايد، فإن الولايات المتحدة تستند إلى فرضية خاطئة مفادها أن إسرائيل قوية وعقلانية بما يكفي، وأن الفلسطينيين عاجزون بما يكفي لإنتاج استقرار طويل الأمد بين البحر الأبيض المتوسط ونهر الأردن، وبالتالي إبقاء قضية فلسطين خارج جدول الأعمال لإقليمي والدولي.
يصعب التنبؤ بكيفيّة ما ستؤول إليه العلاقات الإسرائيلية الفلسطينية في الأسابيع والأشهر القادمة والأمر خاضع لمتغيرات كثيرة. غير أنه من الواضح مسبقاً أن مصير سياسة واشنطن سيكون الفشل والسير نحو حافة جرف بسرعة متزايدة.
[نشرت هذه المقالة في الإنكليزية في موقع أفكار وهو نشرة لمجلس الشرق الأوسط للشؤون العالمية، ثم أعيد نشرها على جدلية، وترجم النسخة العربية أسامة إسبر].