[صدر كتابُ الباحث والأكاديمي والمترجم الأمريكي ماكس وايس "جمالية الثورات، التاريخ الثقافي لسوريا تحت حكم حزب البعث" Revolutions Aesthetic, A Cultural History of Baathist Syria عن مطبعة جامعة ستانفورد في ٢٠٢٢، و قام القسم الإنجليزي في "جدلية" بإجراء هذا الحديث معه حول الكتاب، وترجم النسخة العربية أسامة إسبر].
[وماكس أستاذ مشارك في التاريخ والأدب المقارن بجامعة برينستون، ومترجم من اللغة العربية إلى الإنجليزية. من كتبه: في ظل الطائفية، القانون والتشيع وصناعة لبنان الحديث (مطبعة جامعة هارفارد 2010). وترجم العديد من الأعمال الروائية والدراسات العربية، ومن الروايات التي ترجمها "اسمه الغرام" لعلوية صبح و "عزف منفرد على البيانو" لفواز حداد. يقوم حالياً بتأليف كتاب حول التاريخ الفكري لسوريا الحديثة، ويترجم كتاباً للكاتب والباحث والناشط السوري ياسين الحاج صالح].
جدلية (ج): ما الذي دفعك إلى تأليف هذا الكتاب؟
ماكس وايس (م. و.): وُلد كتابي "جمالية الثورات" من اهتمامي بالتاريخ الفكري والثقافي لسوريا الحديثة، وكذلك من عملي في ترجمة الأدب. وجاءت إحدى البذور الأولى لفكرة شروعي بالبحث من قراءة الروايات السورية وترجمتها. وتبين لي أن الروائيين السوريين أكثر عرضة للخطر بسبب تطرقهم في رواياتهم إلى مسائل سياسية، وتناولهم على نحو مباشر ومتزايد للدولة وممثليها وللأجهزة الأمنية والسلطة السياسية في البلاد. وهذا أمر تبين أن الأدبيات البحثيّة لم تخصّه باهتمامٍ كاف.
بعد أن رصدتُ في البداية التطوّرَ في روايات نُشرتْ بعد وفاة الرئيس حافظ الأسد عام ٢٠٠٠، في العقد الأول من استلام بشار الأسد للسلطة وسّعتُ قراءتي متنقلاً في الزمن ومواكباً لسَوْرة الكتابة الروائية التي رافقت الثورة السورية في ٢٠١١، واكتشفتُ أن هناك قصة مهمة عن الجماليات والسياسة والإنتاج الثقافي في صناعة سوريا المعاصرة لم تُرْوَ بعد.
وبما أنني أهتم منذ مدة طويلة بالفيلم السينمائي بدأتُ أفكر بأوجه التشابه والاختلاف والتواشج بين الأدب والسينما، ما قادني إلى استخدام الروايات والأفلام وكذلك الدوريات الأدبية والسينمائية كأساسٍ لنوع جديد من التاريخ الفكري والثقافي. وما يزال يجب علينا القيام بمزيد من البحث في تاريخ أجناس أخرى من الإنتاج الثقافي أثناء فترة حكم الأسد: الشعر، القصة القصيرة والمسرح، والفنون التشكيلية، هذا إذا سمينا الأبرز بينها. إلا أن الروايات والأفلام الروائية تتناغم جيداً، بعضها مع بعض، لأسباب تتعلق بالشكل. دعْ أنَّ الروائيين والمخرجين السينمائيين يلعبون أدواراً اجتماعية وسياسية قابلة للمقارنة كمفكرين وشخصيات عامة، ما يجعل هذه الأعمال ومبدعيها بخاصة مناسبين جداً لتحليل مؤرِّخٍ للأفكار. زدْ على ذلك، تبيّن لي أن مقاربة التاريخ في هذا الأمد باستخدام منهجيات وأدوات التاريخ الفكري سيكون ملائماً وفعالاً نظراً للصعوبات التي واجهها الباحثون في سوريا في القيام ببحث أرشيفي وأنواع أخرى من البحث داخل البلاد، سواء أكان ذلك قبل الحرب، أم مع اندلاعها. ويسلط كتابي "جمالية الثورات" الضوء على الصراع حول الأيديولوجيا الجمالية التي كانت أساسية لبناء الدولة والمجتمع والثقافة في سوريا في الخمسين سنة الماضية.
(ج): ما المواضيع والمسائل والأدبيات الخاصة التي يتناولها هذا الكتاب؟
(م. و.): إن الحجة التي يطرحها كتاب "جمالية الثورات" هي أن التاريخ الثقافي والفكري لسوريا المعاصرة يمكن أن يُفْهَم من منظار صراعٍ حول أيديولوجية جمالية حيث كانت سوريا من حيث الظاهر تحت حكم نظام بعثي منذ ١٩٦٣ غير أن هذا النظام خضع للسيطرة المحكمة لحافظ الأسد وحاشيته من الداعمين، وخاصة حزب البعث، والجيش والأجهزة الأمنية في أعقاب ما دُعي بـ "الحركة التصحيحية" في تشرين الثاني (نوفمبر) ١٩٧٠. ولقد لمّح إلى هذه النقطة بعض الباحثين؛ بيد أنها لم تُؤَرَّخ جيداً، في رأيي. بهذا المعنى، يقوم هذا الكتاب ببعض التحركات المنهجية غير التقليدية جامعاً بين مقاربات النقد الأدبي ودراسات الأفلام والتاريخ الفكري، ويترافق هذا مع تركيز على الأسئلة الكبيرة التي يطرحها عادةً علماء اجتماع يسعون إلى شرح طبيعة تشكّل النظام، والتحوّل السياسي والارتقاء الاستبدادي. ويقول كتاب "جمالية الثورات" إن ما شكّل سوريا المعاصرة هو صراعٌ جدليٌّ لم يحظ بفهم كاف حول الأيديولوجيا الجمالية، وهو صراع يضع رؤى مختلفة للسياسة والمجتمع والفن، بعضها ضد بعض. ومن قام بنشر الأيديولوجيا الجمالية التي تقودها الدولة - ما سميته ثورة أسدية بعثية استندت، بمجازفة الإفراط في التعميم، على جماليات السلطة - هم مسؤولو النظام ومؤسساته مثل المؤسسة الوطنية للسينما واتحاد الكتاب العرب في خدمة برنامج سياسي وثقافي شامل نشره النظام الجديد. لكن الدولة لم تستحوذ على الحقل الثقافي بشكل كامل أبداً، وظهرت رؤى بديلة للفنّ والسياسة عن طريق أشكالٍ أشرتُ إليها باسم جماليات المقاومة وجماليات التضامن. ويعيدُ كتابي النظر في السياسة السورية المعاصرة والاستبداد والحياة الثقافية مسلطاً الضوء على مجموعة واسعة من الروايات والأفلام والدوريات الثقافية كي يطلع عليها جمهوراً ناطقاً بالإنكليزية للمرة الأولى. وتجدرُ الإشارة إلى أن هذه أعمال لم تحظ بانتباه كاف في أية لغة، بما فيها العربية. ودرستُ موضوعات كانت أساسية لصناعة سوريا المعاصرة مثل البطولة والقيادة والجندر والسلطة والكوميديا والأيديولوجيا والمراقبة والحواس والشهادة والزمانية والموت والخيال. ويسلّط كتاب "جمالية الثورات" الضوء على الأيديولوجيا الجمالية التي كانت جوهرية لبناء الدولة والمجتمع والثقافة في سوريا في السنوات الخمسين الماضية.
(ج): كيف يرتبط هذا الكتاب بأعمالك السابقة، وكيف ينفصل عنها؟
(م. و.): لقد بنيتُ نفسي أكاديمياً كمؤرخ للشرق الأوسط الحديث، وألّفتُ كتابي الأول عن الأبعاد الفكرية والمؤسساتية والقانونية لـ "لزرع الفتنة الطائفيّة" داخل البيئة الشيعية اللبنانية، أي في مُدّتيْ حكم الانتداب الفرنسي وبداية استقلال لبنان. واستند كتابي إلى سجلات المحكمة الإسلامية، ومادة الأرشيف الاستعماري الفرنسي والمصادر المنشورة في العربية والفرنسية والإنكليزية. ومن هناك تشعبت اهتماماتي إلى التاريخ والأدب والثقافة في سوريا الحديثة والمعاصرة، وكذلك إلى مناهج واهتمامات تحليلية بالتاريخ الفكري. وشاركت مع جينز هانسين في تحرير مجلدين حول التاريخ الفكري العربي الحديث يهدفان إلى إلقاء الضوء على حالة هذا الحقل، وتعقّب مقاربات جديدة بزغت من أجل إشراك دراسات الشرق الأوسط والتاريخ الفكري في سجال أكثر مباشرة ودينامية. في الوقت نفسه، ازداد عملي في الترجمة الأدبية ونشرتُ عدداً من الروايات العربية والدراسات في الإنكليزية، وهذه ممارسة تلعب الآن دوراً رئيساً في بحثي الأكاديمي أيضاً. بتعبير آخر، إن أنشطتي البحثية تجاوزت اختصاص التاريخ، إلى حقول التاريخ الفكري والنقد الأدبي والدراسات السينمائية.
(ج): من تأمل أن يقرأ هذا الكتاب، وأي نوع من التأثير تحب أن يحدثه؟
(م. و.): إن "جمالية الثورات" كتاب ضخم، ومن الجلي أنني ألّفتهُ واضعاً الجمهور الأكاديمي في ذهني. لكنني أظن أن المهتمين بتشكّل سوريا الحديثة سيجدون فيه الكثير مما يهمهم. ويطمح كتابي إلى نوع من توظيف مناهج متعددة غالباً ما يُثار لكنه نادراً ما يُطبّق. ولا شك أنه بفضل هذه المقاربة - أو مجموعة المقاربات - ينفتح كتاب "جمالية الثورات" على حقول بحثية متعددة - التاريخ، الأدب المقارن، دراسات الأفلام، علم السياسة - وبالطبع، على احتمال أنه لن يقبل الجميع خياراتي المنهجية أو تأويلي للأعمال المدروسة. ولكن ليكن ما يكون، آملُ أن يقرأ السوريون الكتاب وتظهر طبعة عربية في القريب العاجل، وأن يجد كثيرون التمثيلات المتنوعة للأدب السوري والسينما والحياة الفكرية مألوفة ومريحة.
كانت صداقتي مع الكتاب والسينمائيين الذين ناقشتُ أعمالهم في الكتاب جزءاً جوهرياً من عملية بحثي، وتفكيري وكتابتي، وآمل أيضاً أن يتجاوز هذا الكتاب الاهتمامات الأكاديمية كي يصبح جزءاً من محادثة واسعة النطاق بين السوريين والباحثين في الشأن السوري.
(ج): ما المشاريع التي تعمل عليها الآن؟
(م. و.): ينصبُّ اهتمامي حالياً على تأليف كتاب عن التاريخ الفكري لسوريا الحديثة، وكتابي يدرس الأشكال المختلفة للبحث الفكري والفكر الاجتماعي أثناء القرن العشرين وأوائل القرن الحادي والعشرين. سيربط الكتاب بين مظاهر مختلفة للجدل الفكري والفكر الاجتماعي والتيارات السياسية التي عرّفتْ تاريخ سوريا الحديث والمعاصر. ولقد نُشِرَ أحد أجزاء هذا المشروع، في مقال عن ميشيل عفلق والتاريخ الفكري للبعث، ونشرتُ جزءاً آخر في فصل في كتاب عن مسألة الدين والعلمانية والطائفية في الفكر الاجتماعي السوري الحديث. علاوة على ذلك، أنا منخرط في عدة مشاريع ترجمة. أنا أترجم كتاباً لياسين الحاج صالح، وهو كتاب مهم يموضع النقاشات الكونية حول العنف الجماعي والإبادة الجماعية والتعذيب في علاقة مع القمع الوحشي للثورة السورية وكذلك التجارب الشخصية للسجناء السياسيين في سوريا تحت حكم الأسد، بما فيه الحاج صالح نفسه.
(ج): ما حال الدراسات السورية وما الذي يمكنها أن تفعله أكثر كي تبرز صورتها وكذلك صورة الباحثين والمفكرين السوريين؟
(م. و.): كانت الدراسات السورية دوماً حقلاً صغيراً لكنه حيوي داخل دراسات الشرق الأوسط - رابطة الدراسات السورية هي منارة جماعتنا البحثية - لكنها لم تبْنِ نفسها بما يكفي من الناحية العالمية. ونظراً لتعقيدات الوضع في سوريا وحولها على مدى العقد الماضي من المنطقي أن يبدأ هذا المجال بالانطلاق. لكنني أعتقد أن هناك فرصة الآن لتنظيم أنفسنا بطريقة أكثر تناغماً وعالمية. ثمة مشاهد فكرية وثقافية مزدهرة ومتنوعة أبدعها سوريون في أنحاء العالم، خاصة في برلين واسطنبول. علاوة على التعرف على الظروف المقيتة التي قادت إلى إنشاء هذه الجماعات السورية في الشتات سيكون رائعاً أن يبني باحثو الدراسات السورية شبكات وينظموا مناسبات تجمع الأكاديميين العالميين والمفكرين السوريين. لا أحب اجتماعات الزوم - نحن كلنا متعبون من حياة الشاشة - إلا أن البنية التحتية الرقمية الجديدة تمكن هذا النوع من التعاون للذين لا يستطيعون السفر، لأية أسباب. لم يكن أبداً سهلاً للسوريين (سواء أكانوا قادمين من سوريا أم من أمكنة أخرى) أن يحضروا الاجتماعات البحثية مثل التي تعقدها مؤسسة دراسات الشرق الأوسط "ميسا" بسبب إجراءات الفيزا المعقدة التي تواجه الزوار المحتملين إلي الولايات المتحدة وكندا. أحب في الحقيقة أن أرى سلسلة من المناسبات التي ربما يمكن أن تصبح منتظمة وتسمح لباحثي سوريا ومفكريها وكتابها وفنانيها بأن يجتمعوا ويتبادلوا أفكارهم وعملهم بطريقة لم يُضْف عليها الحقل طابعاً مؤسساتياً حتى الآن.