تعيش الأغنية الأردنية حالة من الازدهار في هذه الأيام، على مستوى الرواج والمشاهدات والاستماعات، مقارنة بتاريخها القريب، ومقارنة بنظيراتها من الأغنيات العربية.
ولا يخفى أن النجاح الذي حققه أدهم نابلسي قبل اعتزاله كان عاملا مهما في تسليط الضوء على التجربة الأردنية الجديدة.
ومن بين الأسماء التي تتقدم بسرعة وثقة، المغني الشاب المعروف بـ"الأخرس"، والذي يحقق من ناحية أرقاما عالية على مستوى الاستماعات، ومن ناحية أخرى محاولات جادة في التجريب وتقديم اقتراحات جديدة، ومن ناحية ثالثة يقترب من الجدل بين الحين والآخر.
يقدم الأخرس نفسه على أنه فنان مستقل، يكتب ويلحن أغنياته بنفسه، مما يمنح هذه الأعمال هوية واحدة، يجعلها متقاربة بالمعنى الإيجابي، وبلغة الموسيقى التجارية، فهو يصنع بذلك لونه الخاص، ويركز من خلال مراكمة أعمال جديدة بسرعة، على صوغ هذه الهوية، بما يخدم تثبيت وجوده، وبرغم سرعة هذه المراكمة، إلا أن المستمع الجيد، يمكنه ملاحظة تطور كل عمل بمقارنته بالعمل السابق له.
آخر كاس
أول أغنية غذت حساب الأخرس بزمرة من ملايين المشاهدات على يوتيوب، وقدمته للمستمع الأردني والعربي على حد سواء، كانت أغنية آخر كاس، والتي يمكن القول إنها تنتمي إلى الأندرغراوند، يسيطر على الأغنية لوب من الإيقاع والموسيقى، تعبر عنه جملة موسيقية مدورة على مقام الكورد، مؤطرة بإيقاع إلكتروني ثابت، ولكن الاقتراح الجديد يتمثل بالكلمات، عبر العودة إلى اللهجة الأردنية التي كانت مسيطرة في السبعينيات والثمانينيات على أغاني الفنانين الأردنيين –وكان أول من أعادها من مغني البوب أدهم نابلسي بأغنيتي "هذا انت وهذا أنا" و"خايف"- وكذلك عبر نوع الكلام الذي ينتمي إلى مدرسة الراب في الكتابة، وهي مدرسة بدأ الأخرس من خلالها بأغنيات حذفها عن قناته الرسمية.
تقول الأغنية:
"هذا آخر كاس
حشرب وانسى
وأقسى عليك
تعبت أظل أداري فيك
وبحبك أنا
ضيعت الناس
بطريقي تا لاقيك
يا جرحي أنا"
بهذه الصور الفنية المتلاحقة، وخفة التعبير، اكتسبت الأغنية رواجا مرده حرفة التخييل وجرأة الاستخدام وبساطة الصياغة.
يؤخذ على الأغنية اعتمادها على "الكاس" كلاما وصورة – عبر الفيديو كليب- واعتماد المخرج على إشعال السيجارة في بداية الكليب، تصويرا لحالة اليأس والعبث، دون الانتباه إلى الترويج المباشر لهذه العناصر، التي ترفضها الثقافة العربية، وبعض المرجعيات الصحية أيضا، رغم توضيح الأخرس على منصاته على مواقع التواصل الاجتماعي بأن الكأس كانت تحتوي على عصير تفاح!
لساتني جنبي
ولعل القفزة الأعلى تجلت في العمل اللاحق، وهو أغنية "لساتني جنبي"، التي امتازت ببساطة أكبر في الطرح، لكن بحدة وحرارة في الصياغة، قوامها العتاب المحموم، الذي يشكل ثيمة الأغنية الرئيسية، إذ يقول فيها:
"مين فينا اللي خان
من فينا الغلطان
من فينا اللي باع مين القاسي والأناني
واللي ناسي ومين الـ صان
بعدك مش تعبان
ولسا حتزعل لتكسب وتطلع خسران؟"
ويقدم عبر هذه الكلمات البسيطة حكمة مفادها أن الفوز على الخصم الذي يفترض أن يكون شريكا في العلاقة، ما هو إلا خسارة!
ويواصل ليتحول بالحوار إلى قلبه، إذ يقول:
"طمني عنك يا قلبي
شو ضايلي منك انت وشو مخبي
كم كسرة لزمك لتفهم وتعدي
انك مش قد الغرام"
لينتقل بعدها للحديث مع نفسه:
"وانا لساتني جنبي
أنا بطيب جروحي بيدي
كلها يومين وهالسنين تعدي
إلخ.."
هذه التحولات في الحوار من شأنها – سواء أكان الأخرس منتبها أم لا – أن تعبر عن شتات الخاسر في العلاقة، أو المتروك، إذ يعرب مرة عن ألمه وأخرى عن قوته، وبينهما عن خيبة أمله.
اللحن جاء على مقام النهاوند، لكنه مجروح بقدر ملائم للكلمات، والإيقاع لوب أيضا، بما يتيح للمستمع حفظ هذه الأغنية دون أن يشعر.
نجاح مشؤوم
ومع أن أغنية "بعد شو" حققت نجاحا كبيرا، إلا أن خللا عاديا كثيرا ما يحصل مع فنانين مكرسين، تمثل بنشاز ألمَّ بصوت الأخرس عندما غنى هذه الأغنية أمام الجمهور، عند الجملة التي تمثل قمة التصاعد الغنائي: "بعد شو بعد هالسنين"، تحول إلى لعنة على مواقع التواصل الاجتماعي، اضطرته إلى التصريح بأنه جديد في الغناء وأنه ما زال يتعلم، مقدما اعتذارا لجمهوره، أتبعه بباقة أغنيات جديدة مثل "لا تسن السيف" و"أنا بريء" و"من اليوم"، وغيرها، بعد توقف مؤقت، ومن وجهة نظر المختصين، فلا تعني زلة الأخرس على المسرح شيئا كبيرا، فهذه مشكلة قد يقع فيها أي فنان، لأسباب عدة، كعدم التمرن الفيزيائي جيدا، أو كرهبة الجمهور، أو كحالة الطقس حتى، في حال كان المسرح مفتوحا.
التلحين على Beat جاهز
وحاله كحال شطر واسع من الملحنين الجدد، يعمل الأخرس على تلحين معظم أغنياته على بيتس جاهزة، يشتريها من مواقع موسيقية، ويبدو الأمر في ظاهره سهلا، إذ يقدم الــ Beat موسيقى أولية جاهزة، إلا أنه تطبيقيا ليس بتلك السهولة، إذ يتطلب صوغ وقفات تلائم الموسيقى الأولية الجاهزة تلك، إيقاعيا وزمانيا، ليس على مستوى اللحن فحسب إنما على مستوى الكلمات أيضا، وهذا تحد ليس بسيطا، في المحصلة يمكن القول إن البيتس الجاهزة، توفر وقتا وجهدا على مستوى توزيع الأغنية وليس على مستوى صناعة الكلمات واللحن.
يؤكد ذلك أن أغنيات أخرى للأخرس وغيره ممن يستخدمون البيتس، صنعت بموسيقى أصيلة وحققت نجاحات موازية لتلك التي حققتها أغنيات مبنية على بيتس جاهزة، وهذا دليل على أن النجاح سببه وأساسه الصنعة الجيدة، والصوت الجميل والقريب، والإحساس الذي يستطيع أن يصل إلى المستمع بقوة.
وتحسب للأخرس أيضا، قدرته على تطوير نصه دائما، والخوض في موضوعات متقاربة، دون التركيز على جمل معينة، بمعنى آخر، فهو قادر على كتابة أغنيات مختلفة البنية ومتشابهة في الموضوع، فضلا عن بحثه عن لون خاص، برغم اقتراب خامة صوته من خامة صوت فضل شاكر، وهي نقطة تحسب له، على سبيل عدم الاستسهال في تأطير هويته الغنائية.