[د. نادية هناوي هي كاتبة وناقدة أدبيّة عراقية صدر لها عددٌ من الكتب منها «نحو نظرية عابرة للأجناس» وكذا كتاب «السرد القابض على التاريخ» فضلًا عن كتاب «القارئ في الخطاب النقدي العربي المعاصر: نجيب محفوظ أنموذجًا» وكتاب «مقاربات في تجنيس الشعر ونقد التفاعلية» وكتب أخرى من هذا القبيل بما في ذلك كتابها «تمظهرات النقد الثقافي وتمفصلاته: قراءات تطبيقية» وكتاب «ما بعد النقد فضاءات المقاربة ومديات التطبيق»].
لم تقم شاعرة عربية في العصر الحديث بمثل ما قامت به نازك الملائكة من خرق لعمود الشعر العربي. وعلى الرغم من أنها لم تكن وحدها في معترك التحديث، فقد شاركها السياب وعبد الوهاب البياتي وشعراء آخرون مجايلون لها، فإنها واجهت ما لم يواجهه أي واحد منهم ليس لأنهم لم يتخذوا من النقد طريقا لإثبات ثورية حركتهم، بل لأنها تولت مهمة التنظير للشعر الحر. فواجهت لوحدها المحافظين والرافضين والمزايدين على حركة الشعر الحر. وقدمت لهذه الحركة ما تستطيعه من جهود فلم تتوان أو تتراجع عن تأدية مهمتها التحديثية.
وكثيرا ما كانت تبدي تخوفها مما ستواجهه هذه الحركة/ الثورة في المستقبل من عقبات، عبرت عنها بـ"طغيان يكتسح شعرنا المعاصر" فأعلنت بعد بضع سنوات من قيام الحركة (أن الحركة بدأت تبتعد عن غاياتها المفروضة ولا نظن هذا غريبا ولا داعيا للتشاؤم فلو درسنا الحركة من وجهتها التاريخية لوجدناها لا تختلف عن أية حركة للتحرر وطنية كانت أو اجتماعية أو أدبية..).
وليس دفاعها مخصوصا في الشعر الحر لأنه حر، بل هو دفاع عن ثورية النهج التحديثي للشعر عامة. وواجهت بسبب ذلك النهج كثيرا من الانتقادات لاسيما بعد نشرها كتاب "قضايا الشعر المعاصر" مع أن فصوله ليست بالجديدة، بل هي منشورة منذ زمن في مجلتين عربيتين ذائعتي الصيت هما "الآداب" و"الأديب". وفيهما طرحت آراءها في التكرار والقافية والتدوير وغيرها، ولكنها لم تثر وقتذاك كثيرا من الريبة أو الشكوك.
وبالإمكان تعليل السبب بواحد من أمرين: أما لأن النشر كان يأتي على فترات غير متقاربة فلم يسمح بتكوين فكرة عامة عن مشروع نازك في تحديث الشعر، وأما لأن النقاد الذين كانوا واقعين تحت صدمة حركة الشعر الحر في الخمسينيات، وجدوا في صدور الكتاب فرصة للتحامل عليها شاعرة ومنظرة للحركة. ويخيل إلي أن قصدية إظهار نازك مرتدة عن مبادئها هو الأمر الذي توجست هي منه خيفة وتنبأت بحصوله، فأكدت أن تقديم التضحيات على مذبح الشعر أمر محتم لا محالة.
وعلى الرغم مما وجه لكتابها من انتقادات، فإنها قابلت ذلك كله بروح نقدية منفتحة، ناظرة إلى الانتقادات من باب تعدد الآراء. ولأجل أن ندلل على ما رافق تلك الآراء من مقدار غير قليل من التحامل والاستفزاز والضغينة، فإننا سنمثل لذلك بعينتين اثنتين:
العينة الأولى: ألف د. محمد النويهي كتابا مخصوصا في انتقاد نازك الملائكة، وكان غرضه واضحا من استعمال مسمى "الشعر الجديد" متغاضيا عن استعمال "الشعر الحر" الذي رسخ كمصطلح دال ومتداول خصوصا بعد ان قعدت نازك أساساته في كثير من كتاباتها التي سبقت كتابها "قضايا الشعر المعاصر".
وعلى الرغم مما أبداه النويهي من احترام لنازك بوصفها رائدة الشعر الحر، فانه كان شديد التحامل عليها في نقده الذي خلا في كثير من الأحيان من الموضوعية والدقة. فقال في مفتتح كتابه: "يعز علينا جدا ونحن نحمل في قلوبنا تقديرا لهذه الشاعرة المبدعة أن نأتي إلى آرائها النقدية في كتابها قضايا الشعر المعاصر فنقرر أن فيها كثيرا من الخطأ وكثيرا من الضرر لو تركت دون تصحيح" فصادر منذ البداية جهود الشاعرة، ومقصده من التصحيح هو المحافظة على نمط القصيدة العمودية عبر الرجوع إلى الصيغ القديمة، واستعادة ما تمت الثورة عليه وتغييره من تلك الصيغ.
ومن المعروف أيضا أن الذي يريد تصحيح أمر ما، عليه أن يعرض الخطأ أولا كي يدلنا على موضع التصحيح، لا أن يأتي بالتصحيح مباشرة عارضا مسماه "الشعر الجديد" من دون أن يقدم دليلا واحدا على خطأ مسمى "الشعر الحر" الذي تجاهله بشكل متعمد وكأنه ليس اصطلاحا شائعا وذائعا، واستعمل مسماه الذي اخترعه بنفسه وتوهم أنه شائع، وهو "الشعر الجديد".
ومن المفارقة أنه اقترح في نهاية كتابه وفي صفحة واحدة فقط استعمال مسمى "الشعر المنطلق" واستدرك بعد ذلك سريعا واجدا إن من الأفضل استعمال مسمى "الشعر المرسل" عائدا بذلك إلى المربع الأول وكأن الناقد لم يقرأ ما قعدته الشاعرة من قواعد في كتابها الأثير!
وإذ خصص النويهي مدخل كتابه لعرض آراء اليوت وركز في الفصل الأول على شعر امرئ القيس وجرير والمتنبي، فإن مراده واضح وهو مناهضة أي تجديد في الشعر ورفض أي شاعر ينادي بالتغيير. ويأتي تحامله على دعاة التجديد من باب أن التجديد يخرب الشكل التقليدي الذي جسدته الروائع الشعرية في العصور الأولى ونتساءل هنا: هل نسفت الشاعرة أساسات الشعر القديم؟ وهل ثورتها التحديثية مناهضة لما في شعرنا القديم من روائع؟ إن من يناقش حركة الشعر الحر عليه أن يستوعب ما طرحته منظرتها ويتعمق فيها، لا أن يتعمق في الإشادة بشعراء مصر كأحمد شوقي وصلاح عبد الصبور الذي خصص النويهي لديوانه "الناس في بلادي" مساحة كبيرة مغدقا عليه الأوصاف المنمقة. وما من حاجة إلى الاستزادة في التوضيح والتدليل على انحياز الناقد إلى شعراء بلده.
وبسبب ما تقدم، وقع النويهي في سوء القراءة وعسر التقدير، واضعا نفسه بين أمرين يصعب على المرء الجمع بينهما إلا ووصف بالتناقض واللامصداقية؛ الأول الإشادة والآخر التخطئة واتهم نازك بالتناقض، لأنها تفعل في شعرها ما تذمه في نقدها للآخرين، متسائلا: لماذا فعلت نازك الملائكة كل هذا ؟ لماذا وقعت في كل هذا الضيق والتعسف واندفعت إلى كل هذا الظلم والتحامل والتسرع؟ وجوابه الجاهز هو أنها فعلت ذلك لتقع في الخطأ من دون أي نقاش علمي مع آرائها في تجديد العروض أو الأساليب أو الأبنية، بل بقي يدور في إطار ما هو قديم مما يتعلق بالتشكيلات العروضية كالتذييل والقافية والتدوير كاشفا عن ضيق وبرم كبيرين. ومع كل ما أبداه من ضغينة، فإنه لم يستطع إلا أن يقول بحقيقة ما أنجزته حركة الشعر الحر من تطوير.
وشاكل النويهي في التزمت ومناصرة القديم كثيرون، أما لأن ذائقتهم لا تقبل التجديد أو لأن في التزمت ما يلبي الطموح في مناهضة نازك الملائكة. ومن هؤلاء مثلا الناقد عبد الجبار البصري الذي أيد النويهي في ما أخذه على نازك.
العينة الثانية: ألفت د. سلمى الخضراء الجيوسي كتابا في حركات الشعر الحديث والمعاصر وذكرت أسماء شعراء هذه الحركات الذين أصابوا شهرة في الخمسينيات والستينيات باستثناء اسم نازك الملائكة التي على الرغم من تناولها لشعرها ونقدها، فإن ذلك كان يأتي في تضاعيف الفصول من دون جعل اسم نازك الملائكة يأخذ مكانه المتفرد عنوانا لفصل أو مبحث. وعللت الأمر مستعملة صيغة المجموع "لا يمكن تناولهم على انفراد لأن تأثيرهم في شعراء ما بعد جيلهم أي جيل الرواد لم يزل مستمرا وفي حالة تطور .. غير قابل لأي حكم نهائي. لأن هذه الفترة لا تزال في أعلى مستويات التجريب" وهذا التعليل مردود على الناقدة سلمى الخضراء سلبا لأن عليها إذن جعل الكتاب مخصوصا في حركات الشعر الحديث فقط، تاركة حركات الشعر المعاصر لعدم اكتمال تطورها.
ومن المغالطات التي وقعت فيها هذه الناقدة هو أن تاريخ ظهور حركة الشعر كان في العام 1949 وأنها حصلت نتيجة الصدمة التي أحدثتها مأساة 1948 متناسية أن العام 1947 هو العام الذي فيه كتب رائدا الشعر الحر الملائكة والسياب قصيدتيهما الأُولَيين. أما نفيها القصدية عن شعراء قصيدة الشعر الحر ووصفهم بعدم الخبرة ، فإن غايته كانت سحب الريادة من نازك والسياب.
وسلبيتها جعلتها توافق إحسان عباس وجبرا إبراهيم جبرا رأيهما في حركة الشعر الحر وأعطت اهتماما كبيرا لمحاضرة يوسف الخال التي ما ذكرت مكانها بل قالت إنها تعود للعام 1957 ووقفت مفصلا عندها كي تؤكد أن لأدونيس وجماعة مجلة شعر أثرا في التجريب الشعري.
ورأت أن بانقضاء الخمسينيات تغير موقف نازك الملائكة من حركة الشعر الحر فبدت أكثر حذرا إزاء قضايا الشعر المعاصر تفرض القوانين على الشعر والنقد.
ولم يتغير موقف الجيوسي في كتاباتها اللاحقة إذ بقيت تلح على ما أخذه النقاد على نازك الملائكة وساوت بينها وبين فدوى طوقان مع أن لا مجال للمقارنة بينهما؛ فلنازك الملائكة مرتبة ومنزلة لم تصلها فدوى طوقان التي ليس لها خط شعري واضح ولا كتبت النقد ولا قدمت أبحاثا في الشعر والمجتمع والمرأة. وثالثا أن الجيوسي حصرت نقدها لإنجاز نازك في إطار الشعر النسوي. وعلى الرغم من هذه المداراة، فإن موقف الجيوسي المتحامل من نازك بدا جليا لاسيما إذا علمنا أن لنازك رأيا سلبيا في بعض قصائد الجيوسي.
وعلى الرغم من أن نازك الملائكة لم تكترث لمثل هذا النقد على ما فيه من تحامل، وفضلت عدم الرد بالعموم، فإن هناك استثناءات قليلة جدا لانتقادات، وجدت نازك الملائكة أن من الضروري الرد على أصحابها، وتفنيد التهم الموجهة إليها. وممن ردت عليهم نازك الملائكة:
1 ) سعيد زايد: باحث متخصص بتاريخ الفلسفة، وله كتاب في الفلسفة الإسلامية ومن أكثر الذين تحاملوا على نازك الملائكة وشعراء حركة الشعر الحر عامة في مقاله "بحوث أدبية : هل الدعوة جادة" ولم يذكر فيه اسم نازك، بل اكتفى بالقول "أديبة معروفة" وأخذ عليها أنها تكتب بعض شعرها بشكل الشطرين.
وعلى الرغم من أن تسمية الشعر الحر قارة ومعروفة، فإنه تعمد استعمال تسمية الشعر الجديد قائلا: "لم تفت المغالاة بعض أصحاب هذا الشعر الجديد فركبوا الشطط ودعوا إلى ترك القواعد شكلا وموضوعا.. ولقد ذهب بعضهم في هذا الغلو إلى درجة إهمال قواعد اللغة ومقاييسها" وتحامل على الحركة واصفا شعراء حركة الشعر الحر بالمغالين والراكبين للشطط.
وردت نازك الملائكة عليه بمقالة عنوانها "آراء وتعقيبات حول موقفي من الشعر الحر"، قائلة بشكل حازم: "موقفي ليس جديدا وإنما كتبت فيه مقالا نشرته مجلة الأديب عام 1957 أي منذ أربع عشرة سنة. فلا يصح أن يكون رأيي هذا مدعاة إلى وصفي بالتراجع ولقد التزمت بقيود التشكيلة الموحدة منذ أول عهدي بالشعر الحر ولم أزل التزم بها وفي رأيي أن الشعراء كلهم سيلتزمون بها في مستقبل الأمة العربية.. تحدث عني وإن كان لم يذكر اسمي نصا وإنما سماني أديبة عراقية مشهورة .. لم اقصد إيهام القارئ أن شعر الشطرين شعر حر بل إشاعة شاعت شيوعا عظيما في أوساط مختلفة ونشرتها صحف كثيرة في مختلف أنحاء الوطن العربي قالوا وأعادوا وكرروا إن نازك الملائكة قد تراجعت عن الشعر الحر وعادت إلى شعر الشطرين وقد أدت هذه الإشاعة إلى أن يرضى عني المتطرفون".
2 ) عبد الجبار البصري: تناول في دراسته المعنونة "الطفل في الشعر العراقي الحديث" قصيدة نازك الملائكة "أغنية لطفلي" 1964 فوجد أن انصراف الشاعرة إلى مداعبة صغيرها براق وكتابة ترنيمة في مهده إنما هو تعبير عن حالة تعرف في علم النفس بـ "العطب الولادي" ليس هذا حسب، بل قدّم تفسيرات مماثلة فيها يربط بين الشعر وحياة الشاعرة، فوجد مثلا أن في قصيدة "مشغول في آذار" 1963 أول "ظاهرة من ظواهر الحياة الزوجية" وفسر أسباب عدم إكمالها المطولة الشعرية "مأساة الحياة وأغنية للإنسان" بـ "الاصطدام بجدار التقاليد أو رواسب الماضي النسوي أو القوة الخفية التي تحتم على المرأة العراقية أن لا تخوض في المسائل العاطفية وان تتجنبها كلما عرضت لها وان تكون تصرفاتها محكومة بنوع من السلوكية الانضباطية الصارمة" وكأنه يتحدث عن امرأة هي ليست شاعرة كبيرة ومثقفة واعية وذات خبرة وباع معرفي كبيرين.
وحين نظر إلى تطور تجربتها وجده تطورا يشبه المحو، والسبب أن ثورتها في المفاضلة بين عروض الشعر الحر وعروض ذي الشطرين جاءت عن تحيز وتعصب واعتساف. وبسبب هذه الانتقادات الحادة ردت نازك بفصل كامل من كتابها "سيكولوجية الشعر" وشرحت الأسباب التي دفعتها إلى الخوض في تجربة النقد وإغناء حركة النقد الحديث، ورفضت هذا الربط بين الشعر وحياة الشاعر وأخذت عليه تكلفه، مؤكدة أن اللغة الشعرية تختلف عن اللغة العلمية وأن قصد الأم هو إغراء طفلها بالنوم ليس أكثر.
هوامش:
[1]: حركة الشعر الحر في العراق، مجلة الأديب، العدد الأول، 1954، ص24.
[2]: "قضية الشعر الجديد"، محمد النويهي (القاهرة: معهد الدراسات العربية العالية، 1964) ص161.
[3]: "الاتجاهات والحركات في الشعر العربي الحديث"، سلمى الخضراء الجيوسي، ترجمة عبد الواحد لؤلؤة (بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، طبعة ثانية منقحة، 2007) ص24ـ25 .
[4]: "بحوث أدبية :هل الدعوة جادة: الشعر في عهديه الموزون وغير الموزون"، سعيد زايد، مجلة الأقلام، العدد التاسع، 1966، ص144.
[5]: "آراء وتعقيبات حول موقفي من الشعر الحر"، نازك الملائكة، مجلة الأقلام، العدد الحادي عشر، 1966، ص174ـ175.