منذ أيام، في أيار الماضي، دقت المنظمة العالمية للأرصاد الجوية ناقوس الخطر مرة أخرى، محذرة من تجاوز عتبة زيادة 1.5 درجة مئوية بحلول عام 2027 وهو الحد الذي تضمنه اتفاق باريس للمناخ، ويعتبر هذا التحذير الذي أصدرته المنظمة التابعة للأمم المتحدة والمعنية بالمناخ والطقس والماء من بين التحذيرات التي تلعب الأنشطة البشرية دوراً أساسياً وكبيراً في التسبب بأخطارها، وبهذا فإن الدور البشري في تلافي هذه الأخطار كبير وحقيقي ومهم.
لا تزال معضلة حرق الوقود الأحفوري التحدي الأبرز في قضية الاحتباس الحراري ودرجة حرارة كوكب الأرض، بسبب الارتباط المباشر والمؤكد علمياً بين انبعاثات ثاني أكسيد الكربون وارتفاع الحرارة الناتج عن ظاهرة البيت الزجاجي (الدفيئة)، ولذلك يتجه التفكير بالحلول لهذه الأزمة نحو تقليل الانبعاثات الناتجة عن حرق الوقود الأحفوري إما بالاستغناء عنها لصالح مصادر أخرى للطاقة مثل الطاقة الشمسية وطاقة الرياح والطاقة الحيوية والطاقة الكهرومائية، أو من خلال التركيز على زيادة كفاءة المحركات المعتمدة على الوقود الأحفوري، لكن بقيت هذه الحلول محدودة التأثير لأسباب كثيرة أهمها أنها غير قادرة على تغطية الطلب على الطاقة واستبدال المصادر التقليدية خصوصاً في قطاعي الشحن والصناعة الأكثر تلويثاً للبيئة والأكثر نهماً للطاقة.
في هذا السياق، ومع ازدياد الضغط على البيئة في كوكبنا، وتحول الاحتباس الحراري وارتفاع درجات الحرارة خلال السنوات الماضية إلى واقع ملموس غير قابل للإنكار، بدت الحاجة أكثر إلحاحاً لاستبدال الوقود الأحفوري بمصدر نظيف متجدد وخالٍ من الانبعاثات يسهم في تلبية احتياجات القطاعات الملوثة للبيئة ويوفر بديلاً فعالاً وآمناً يضمن استمرار النشاط الاقتصادي، فلم يكن هناك من منافس للهيدروجين الأخضر، الحل الذي بدأت تتجه نحوه الأنظار باعتباره البديل المنطقي للنفط والغاز.
ليس للهيدروجين لون، إنما يطلق على الهيدروجين الأخضر هذا الإسم بسبب خلو عملية إنتاج الهيدروجين من الإنبعاثات الكربونية تماماً، فجميعنا يعرف أن الماء يتكون من ذرتي هيدروجين وذرة أكسجين، وعند فصل العنصرين عن بعضهما من خلال التحليل الكهربائي يتكون عندنا غازي الهيدروجين والأكسجين دون أي نواتج ثانوية، وعندها نستطيع استخدام الهيدروجين في عملية إحتراق منتجة للطاقة ويتكون الماء كناتج وحيد لهذه العملية.
للوهلة الأولى يبدو أن أمر الهيدروجين سحري، وأننا امتلكنا الحل، فعمليتي إنتاج وحرق الهيدروجين نظيفتان تماماً، فإنتاجه ينتج لنا الأكسجين الذي من الممكن أن يستخدم لأغراض طبية مثلاً أو أن يتم إطلاقه في الهواء، وحرقه ينتج لنا الماء، لكن الأمر ليس بهذه البساطة، فلم تأتِ تسمية الهيدروجين الأخضر إلا بسبب وجود "ألوان أخرى" منه غير صديقة للبيئة.
تتطلب عملية فصل الهيدروجين عن الأكسجين في الماء إلى طاقة، فإذا استخدمنا مصدراً للطاقة من مصادر الوقود الأحفوري فإننا سنلوث البيئة ونتسبب بالانبعاثات، وبهذا يصبح الهيدروجين مجرد طريقة لتخزين الطاقة الأحفورية دون أن نقلل الإنبعاثات، وبهذا نكون قد حصلنا على هيدروجين رمادي، أو في حال عزلنا ثاني أكسيد الكربون خلال هذه العملية فإن أمامنا الهيدروجين الأزرق، أما الهيدروجين الأخضر فهو الهيدروجين الذي تم إنتاجه من خلال استخدام مصادر متجددة ونظيفة للطاقة مثل الطاقة الشمسية وطاقة الرياح والطاقة الكهرومائية، ورغم أن الطاقة النووية لا ينتج عنها ثاني أكسيد الكربون بالذات إلا أن العملية النووية ومخلفاتها وأخطارها تجعل منها مصدراً غير صديق ولا آمن تماماً بالنسبة للبيئة فلا يفضل إطلاق الهيدروجين الأخضر على الهيدروجين الذي تم إنتاجه من خلال الطاقة النووية.
أسهم التطور الكبير في كفاءة أجهزة التحليل الكهربائي للماء خلال السنوات الأخيرة إلى جعل الهيدروجين الأخضر فكرة ممكنة إقتصادياً وذات جدوى وقابلة للتطبيق، لذلك اختارت العديد من البلدان الإتجاه نحو الإستثمار فيها، خصوصاً البلدان التي تتوفر فيها مصادر طاقة متجددة قليلة التكلفة.
في المنطقة العربية، ستبدأ السعودية بإنتاج الهيدروجين الأخضر ضمن رؤيتها التي تتضمن جعل المملكة رائدة في هذا المجال، حيث ستبدأ بإنتاج الهيدروجين الأخضر عبر شركة نيوم التي دشنت أكبر مشروع للهيدروجين الأخضر في العالم، وأعلنت دول أخرى مثل الجزائر والمغرب ومصر دخولها إلى معترك التنافس لإنتاج الهيدروجين الأخضر، خصوصاً مع المشاريع الكبيرة التي بدأتها هذه الدول في مجال الطاقة الشمسية والرياح، بالإضافة إلى الشراكات التي بدأت بين الدول العربية ودول أوروبية والصين للتعاون في هذا المجال، حيث تتعاون دولة الإمارات العربية مع شركة سيمنس إينيرجي وكذلك وقعت مصر اتفاقا مع الصين لاستثمار ما يصل لـ 8 مليارات دولار في مجال الهيدروجين الأخضر.
وبدأت أيضاً دول أوروبية مثل ألمانيا وهولندا المشاريع المتعلقة بالهيدروجين الأخضر مستفيدة من مزارع الرياح البحرية في بحر الشمال، بالإضافة إلى أستراليا والولايات المتحدة وغيرها من البلدان التي تساعدها قاعدتها الصناعية على البدء بإنتاج الهيدروجين، ومن بين البلدان العربية التي ستتجه نحو الهيدروجين الأخضر هي الأردن التي أعلنت ضمن استراتيجة الطاقة أنها ستستثمر في هذا المجال.
إن الهيدروجين الأخضر، رغم إمكاناته الكبيرة ومستقبله الواعد لا يخلو من المخاطر، ومن بين المخاطر التي من الممكن مواجهتها هي مشكلة التسريب، ففي حال تسرب نحو 10% من الهيدروجين المخزن فإننا نفقد الميزة البيئية للهيدروجين، وهذه نقطة خطر ونقطة بحث أيضاً تنبه إلى ضرورة إستمرار الإنفاق على البحوث العلمية المتعلقة بسلامة التخزين والنسب المقبولة من التسرب، بالإضافة إلى وضع قواعد تنظيمية وقوانين لإلزام الشركات والجهات التي تستعمل الهيدروجين بإجراءات سلامة التخزين.
إن أمامنا فرصة كبيرة للإعتماد على مصدر نظيف للطاقة يغنينا عن مقايضة الرفاهية الآنية بتدمير مستقبل الكوكب، بالإضافة إلى فرصة أخرى لاقتصادات الدول، فغالبية الهيدروجين الأخضر سينتج ويستخدم محلياً، ما يمثل بالنسبة للكثير من البلدان المزيد من أمن الطاقة، وهي مؤشرات تدل على أن الهيدروجين هو المستقبل بالنسبة لقطاع الطاقة، والخيار الأمثل بالنسبة للبيئة.