تقدم "جدلية" للقراء العرب مقالات مختارة تشكل إضافة فكرية في حقلها، في مجال الفكر والفلسفة والسياسة والأدب، تحت عنوان "مقالات تأسيسية".
المقالات تتجاوز الكتابة الصحافية إلى كونها تحليلاً فكرياً يحفز على طرح أسئلة جديدة حول الموضوع المناقش، ويهدف إلى تقديم فكر تنويري مختلف يقدم للقارىء مادة تضيء له مساحات في الفكر والواقع غير مألوفة. وهذه المقالات التأسيسية التي يشرف عليها أسامة إسبر، ستُترجم من لغات مختلفة كالإنكليزية والإسبانية والفرنسية والإيطالية، كي تقدم فكرة متكاملة عن الفتوحات الفكرية في هذه البلدان وتطور فن المقالة الذي يقدم أفكاراً جديدة في حقول مختلفة. ستنشر جدلية المقالات بشكل منتظم، من أجل تعميم الفائدة على القراء وبناء جسور مع ثقافة الآخر.
المقالة الأولى، المقالة الثانية.
هل ماتت الفلسفة؟
خطأ ستيفن هوكينغ
[بول ثاغارد، فيلسوف وعالم كندي. صدر له كتاب "الدماغ ومعنى الحياة"، كما صدر كتابه الأخير عن جامعة كولومبيا بعنوان "التوازن: كيف يعمل وماذا يعني؟". وهذه المقالة المترجمة نُشرت في الأساس بالإنجليزية في موقع "علم النفس اليوم].
صرَّحَ ستيفن هوكينغ بصفته أحد أكثر العلماء شهرةً في العالم بموت الفلسفة وذلك في كتابٍ نالَ إقبالاً كبيراً من القرّاء. ولا ريب في أنَّ هناك أشخاصاً يتجاهلون الفلسفة، لكن لا بدَّ من أن يتفلسفوا في يومٍ ما؛ أما أولئك الأشخاص الذين يحطّون من قدْرِها، فليسوا عادةً أكثر من عبيدٍ أرِقَّاء لفكر فيلسوفٍ غابر.
أعلن كلٌّ من ستيفن هوكينغ وزميله عالم الفيزياء ليونارد ملودينو على الصفحة الأولى من كتابهما "التصميم العظيم" موت الفلسفة؛ لأنها لم تواكب التطورات الحديثة في العلم ثم أطلقا سلسلة من التصريحات الفلسفية تضمّنت الآتي:
أ: "لا يوجدُ مفهومٌ مستقلٌ عن صورةِ أو نظريّةِ الواقع.
ب: " يُعَدُّ النموذج نموذجاً جيداً إذا:
١- كان بديع الانسجام.
٢- كان عدد العناصر الشاذة أو القابلة للتعديل فيه قليلاً.
٣- إذا اتفق مع الملاحظات الموجودة وفسَّرها.
٤- إذا قام بتنبؤات تفصيلية عن ملاحظات مستقبلية تستطيع أن تفنّد أو تزيّف النموذج إذا لم يتم إثباتها.
٥: إن نموذجاً بُني جيداً يبتكر واقعاً خاصاً به".
من بين هذه التصريحات، أرى أن (١) لا يكون صحيحاً إلا إذا قبلتم مثلي وجهة النظر القائلة بأن المفاهيم تعتمد على النظريات. لكن التصريح (٢) ينسجم على نحوٍ عادل مع الطريقة التي يتحدث بها فلاسفة العلم عن العلم، رغم أنه قد يكون من بنات أفكار علماء الفيزياء الرياضية أن يفترضوا هذا الانسجام البديع قبل وجود سَنَدٍ تجريبيٍّ. علاوة على ذلك، إن التصريح (٣) مثير للجدل للغاية لأنه يقترح أن النماذج يمكن أن تخلق الواقع عوضاً عن أن تكتشفه. ومن الجلي أن كل هذه التأكيدات كافةً تُعَدُّ فلسفية في طرحها لمزاعم عامة حول طبيعة المعرفة والواقع.
يفترض هوكينغ وملودينو وجود صلة بين مزاعمهما الفلسفية وما يعدّانه استنتاجات علمية مثل:
ج: "ليس للكون وجود أو تاريخ واحد فقط ، بل توجد كل نسخة ممكنة من الكون في وقت واحد".
ح: "ليس للكون في ذاته تاريخ واحد، وليس له حتى وجود مستقل".
خ: "لدينا الآن مرشح للنظرية النهائية لكلِّ شيء، إذا كانت موجودة بالفعل، تُسمّى النظرية إم".
ف: "تتنبأ نظرية كلِّ شيء بأن أكواناً عديدة خُلقت من لا شيء".
د: "ليس للكون، بحسب فيزياء الكم، ماض أو تاريخ واحد".
ر: "ليس للكون تاريخ واحد فحسب، بل كل تاريخ ممكن، وكل واحد منها محتمل".
يطرح هوكينغ وملودينو هذه المزاعم العامة كما لو أنها نتائج لميكانيكا الكم، التي حظيت بقدر هائل من الدعم التجريبي. لكن مزاعمهما ليست نتائج لنظرية الكم في حد ذاتها، بل نتائج تفسيرات فلسفية معينة فحسب، يوجد منها أكثر من اثني عشر تفسيراً، وكلها مثيرة للجدل إلى حد كبير. ويتفق علماء الفيزياء على أن نظرية الكم تقدم تنبؤات ناجحة، لكن هناك خلافاً شديداً حول كيفية فهم ذلك النجاح. ولقد شكّك كثير من علماء الفيزياء البارزين، وبينهم آينشتاين ولي سمولين، بنوع تأويل نظرية الكم الذي افترضه هوكينغ وملودينو، اللذان كان نقاشهما عن الأكوان المتعددة نقاشاً فلسفياً بحتاً، ويخلو من الدقة العلمية. وعلى غرار نظرية الأوتار التي تستند إليها، من الصعب العثور على دعم تجريبي مباشر للنظرية إم. لهذا يقوم هوكينغ وملودينو بالتوصل إلى استنتاجات فلسفية من تأويل متهافت لنظرية علمية مثيرة للجدل.
ما هي العلاقة الصحيحة بين الفلسفة والعلم؟ كان الجواب في إحدى المرات هو وجهة النظر الطبيعية، التي جسّدها فلاسفة مثل أرسطو ولوك وهيوم وميل وبيرس وديوي وكواين وكثير من فلاسفة العلم المعاصرين. رأى أولئك الفلاسفة أن الفلسفة والعلم مستمران، وأن الأسئلة الجوهرية عن طبيعة المعرفة والواقع والأخلاق والمعنى يجب أن يُجاب عنها بالاعتماد على النظريات العلمية والأدلة. ولقد دافعتُ في آخر كتاب صدر لي بعنوان، "الدماغ ومعنى الحياة"، عن هذه المقاربة، قائلاً: إن الفلسفة لا تختلف عن العلم إلا في كونها أكثر شمولية ومعيارية، وتُعْنى بالكيفيّة التي يجب أن تكون عليها الأشياء وبكيفيّة ما هي عليه.
على النقيض من ذلك، هناك فلاسفة كثيرون يعتقدون أن الفلسفة والعلم مؤسستان مختلفتان من حيث الجوهر؛ ذلك لأن الفلسفة قادرة على استخدام العقل وحده، أو على أن تركز انتباهها على اللغة والمنطق، كي تتوصل إلى حقائق هي بديهية (مستقلة عن التجربة) وضرورية (صحيحة في كل العوالم الممكنة)، أو نظرية صرفة. هذا، وفي مقابل أولئك الفلاسفة المناهضين للطبيعة أعتقد، على أيّ حال، أن هوكينغ وملودينو لديهما الحق للنظر في مسائل جوهرية حول طبيعة الواقع عن طريق الأخذ بالحسبان لحركة التقدم في الفيزياء.
إن السؤال الأساس هو: إلى أي مدى نجح هوكينغ وملودينو في التوصل إلى استنتاجات معقولة حول المعرفة والواقع؟ ستستغرق الإجابة عن هذا السؤال بدقة تقويماً أطول، لكن يجب أن يكون جلياً من المقبوسات أعلاه، أن تأكيداتهما تذهب إلى ما وراء النجاحات التجريبية الحقيقية للنظرية الكمومية نحو حقل من التأمل الفلسفي قريب من فلاسفة آخرين شككوا في الوجود المستقل للواقع.
إن الفيلسوف الغابر الذي صار هوكينغ وملودينو عبدين له دون أن يعيا ذلك هو إمانويل كانط، الذي حاول أن يبين أن الواقع يتكوّن بفعل العقل الإنسانيّ. لقد روّعتْه التهديدات التي أثارها فلاسفة تنوير مثل ديفد هيوم لقيمه الدينية والمتعلقة بالخلود والإرادة الحرة. وطوّر كانط وجهة النظر القائلة: إنه من المستحيل أن توجد معرفة عن الأشياء في ذاتها؛ لأنَّ التجربة (=الإدراك الحسيّ=الخبرة والملاحظة) تخضع للإسكيمات المتعالية schemas التي تربط هذه التجربة بمقولات الذهن. إن وجهة النظر هذه هي سلف الادعاء بأن المعرفة كلها تستند إلى نموذج.
يكرر هوكينغ وملودينو الخطأ الفلسفي الكانطي في الاستنتاج بتبيانِهما حقيقة أننا نحتاج إلى عقول من أجل تطوير معرفتنا بالواقع. ويفترضان أنه لا يوجد واقع مستقل عن هذه العقول والنماذج التي تنتجها. لدينا أدلة وافرة من علم الفلك وعلم نشأة الكون والجيولوجيا والبيولوجيا بأن العقول البشرية هي نسبياً إضافات حديثة إلى الكون، وأن النجوم والمجرات سبقتنا ببلايين الأعوام. ثمة حاجة للعقول لبناء نماذج حول كيفيّة عمل الكون، لكن طريقة عمل الكون لا تعتمد على النماذج الحديثة نسبيّاً التي يبنيها الناس. فالعلاقة بين العقول والنماذج والواقع مشكلة فلسفية مهمة قائمة في علوم كثيرة ولا تستطيع الفيزياء الحديثة وحدها أن تقدم جواباً عنها.
كان الفيلسوف برتراند راسل والروائي مارك توين من بين كثير من الأشخاص الذين تم الإبلاغ عن موتهم خطأً وبالتالي تمكنوا من قراءة نَعْيِهِما المبكر، فكتب توين معلقاً على ذلك أن "الإبلاغ عن موتي مبالغة"، وما قاله ينطبق على الفلسفة.
[ترجمة: أسامة إسبر، المصدر: Psychology Today].