في المشاهد الأولى من فيلم "كيرة والجن"، يظن المُشاهد أنه إزاء فيلم مصري تقليدي، يرصد مقاومة الاستعمار البريطاني على مصر، ويصوغ من أحداث الفترة تلك قصصا تصلح لتمجيد الفعل الشعبي، وقدرة الإرادة على تذليل أي عقبات، وإضعاف أي قوة مهما بلغت في غيّها وجبروتها، ويكتشف شيئا فشيئا أن الأمر كذلك فعلا، لكن الجديد يتعلق بالمعالجة، التي تنقل الأحداث إلى مستوى مدهش، يجعلك تفكر في إعادة الفيلم أكثر من مرة.
الفيلم الذي عرض لأول مرة في 30 يونيو/ حزيران 2022، في ذكرى انطلاق احتجاجات مصرية على الرئيس المنتخب محمد مرسي، عام 2013، يشكل التعاون الفني الخامس بين الكاتب أحمد مراد والمخرج مروان حامد، بعد الفيل الأزرق، والأصليين، وتراب الماس، والفيل الأزرق 2، حيث بني الفيلم على رواية 1919 للروائي مراد، ومن عنوان الرواية الأصلي يمكن تبيُّنُ القصة، التي تدور أحداثها حول بداية الغضب المصري على الانتداب البريطاني، الذي حقق الاستقلال في نهاية المطاف.
ينوّه الفيلم في البداية، إلى أن الأحداث مستوحاة من قصص حقيقية، ولكنه يوضح أنها تحورت بفعل تصرف صانعيه، ويؤكد أنه لا يصلح كوثيقة تاريخية، وتبلغ مدة عرضه نحو 175 دقيقة، وتبدأ أحداثه في قرية دنشواي عام 1906، بحملة إعدامات نفذها الإنجليز ضد فلاحين بدون أي سبب، قتل فيها عبد الحي كيرة، الذي يسافر ابنه أحمد ليدرس الطب في بريطانيا لاحقا، ويعود إلى مصر طبيبا مواليا للانتداب، ومحسوبا عليه، يلعب دوره كريم عبد العزيز.
من زاوية أخرى يعرض الفيلم قصة عبد القادر شحاتة الجن، تاجر مخدرات صغير، يؤمن اللفافات للعسكر الإنجليز، ويحظى من خلال علاقاته بهم، بامتيازات صغيرة، يقوم بدوره أحمد عز.
إلا أن انقلاب الأحداث، يظهر أن الطبيب كيرة جزء من خلية مقاومة، يغطي نضاله بممالأة الإنجليز، وهذه الخلية تتكون من مجموعة مناضلين، هم دولت فهمي (هند صبري) ونجيب الهلباوي (سيد رجب) وإبراهيم شوكت (أحمد مالك) وراغب داود (علي قاسم) ونرجس (هدى المفتي).
تحرض هذه الخلية على احتجاجات كبيرة في مصر، يذهب المئات ضحايا فيها، من ضمنهم والد الجن، إذ يتسبب مقتلـُه في محاولة الجن الانتقام من الإنجليز، وعلى بعد خطوة من مقتله بعد هجومه على ثكنة، تنقذه خلية المقاومة فينضم إليها، وهناك يلتئم شمل نجمي العمل.
بناء الشخصيات
يركز الفيلم على تنويع شخصيات الخلية لتشمل جميع أطياف الشعب المصري، ففيها امرأتان: دولت المسيحية الصعيدية ونرجس الراقصة، وفيها راغب اليهودي، وفيها شاب في مقتبل العمر هو إبراهيم، وكهل متعلم وهو كيرة، وشاب متحمس وهو الجن، ورجل كبير السن وأسير سابق وهو هلباوي، ولا يخفى على المتابع للشأن التاريخي المصري، أنه ثمة شخصيات حقيقية تم تضمينها لهذه الخلية، كدولت فهمي ونجيب الهلباوي.
وعمد الفيلم إلى بناء الشخصيات بطرق متغايرة، فلكيرة أربع شخصيات تختلف باختلاف الظرف: أب مسالم في البيت، وطبيب رؤوف في المستشفى، وثائر شرس في الميادين والأقبية، وعاشق رومانسي لإيملي ابنة الضابط الإنجليزي (رزان جمال)، بهدف استدراجها والحصول على المعلومات.
أما الجن فتأرجحت شخصيتاه بين الشاب الشقي والمقاوم الشرس، وبينهما خيط رفيع يسير عليه سلوكه وفقا لتطور الأحداث.
كذلك دولت التي تعمل مدرّسة في القاهرة، على المستوى العلني، وتواجه مخاطر افتضاح سر انتمائها لتنظيم مقاوم من جهتين، الأولى تتمثل بالخطر الإنجليزي، والثانية بخطر هدر دمها في قبيلتها الصعيدية المحافظة.
أما هلباوي فيبدو غامضا منذ بداية الفيلم، لاستخدام هذا الغموض في التحول في نهايات القصة.
نجوم بأدوار صغيرة
الغريب في الفيلم إسناده أدوارا صغير، بل صغيرة جدا، لنجوم لامعين، كإياد نصار بدور حسن نشأت الذي يظهر في مشهدين فقط كمساند للثورة، وأحمد كمال بدور شحاتة الجن بمشهدين فقط، وكريم محمود عبد العزيز بدور فهمي أحمد كيرة بمشهد واحد، وأحمد مالك بدور إبراهيم بمشاهد صغيرة متفرقة، وكذلك روبي بدور زينب زوجة أحمد كيرة. وكأن المخرج يريد أن يقول إن هؤلاء كانوا نجوما في الثورة وإن بدت أدوارهم صغيرة جدا، في دلالة على أهمية الفعل الثوري مهما صغر أو كبر.
وعلى الجانب الآخر يستضيف الفليم ممثلين غربيين، ليؤدوا أدوار الجنود والضباط البريطانيين، وعلى رأسهم سام هزيلدين، الذي يقوم بدور الضابط هارفي المسؤول عن ملاحقة خلية المقاومة، وهو نجم بريطاني تمكن مؤخرا من وضع اسمه بين كبار النجوم في هوليود، مثل بين آفليك، من خلال مشاركته إياه فيلم المبارزة الأخيرة 2021.
تصميم المشاهد
ليس إتقان تصميم المشهد وحده ما يشد المُشاهد في هذا الفيلم، إنما ما ينطوي عليه من إدهاش وإمتاع بصريين، أسهما في رفع سوية القصة، إذ تمكن باسل حسام وكريم الشحات من بناء لوكيشن يحاكي شكل القاهرة في ذلك الزمان، حتى أن المُشاهد ينسى أن الفيلم أنتج في 2022! ساعدهما على ذلك شركة أروما التي تولت المؤثرات البصرية وتامر مرتضى مصمم الجرافيكس الذي واطأ الحقيقة، وناهد نصر الله مصممة الملابس، ومحمد حافظ مصفف الشعر.
فاجتمع هؤلاء على بناء صورة لا يمكن إعادتها إلا لتلك الفترة، وبدا الإتقان واقعيا مقنعا، وجذابا في الوقت نفسه.
ولعل الاستناد على مشاهد الآكشن المتقنة، منح الفيلم إيقاعا سريعا، خفف وطأة طول مدة العرض، فبرغم طول الفيلم إلا أنك لا تشعر بأي لحظة ملل، بسبب ما يقدمه العمل من تنويع إيقاعي، فثمة أحداث سريعة وأخرى بطيئة، ولكن في الحالتين ثمة براعة وانسجام، ومنطق تعبر عنه الاستعارة التكنيكية لمشاهد الأفلام الهوليودية، فعلى سبيل المثال، ثمة مشهد عراك طويل يخوضه الجن مع عصابة، يعتمد الـOne Shot لمدة تتجاوز المعقول، مما يضع المُشاهد في منتصف العراك، حتى لَيخيشى على رأسه من أن تطوله عصا أو حجر!
البطل المصري الخارق
ولا يتورّع الفليم في تطوير الشخصية المصرية لتحاكي أبطال هوليود الخارقين، فلا يقلق المشاهد كثيرا على أبطاله، إذ يعرف بعد انقضاء الساعة الأولى من الفيلم أنهم لا يموتون، وهذا أسلوب يستقبله المُشاهد العربي بحفاوة في إنتاجات كل من هوليود وبوليود، ولكنه يستكثر على المنتج العربي أن يذهب في هذا الاتجاه، برغم ما يحمله الأمر من متعة، إلا أن الأمر يصبح مختلفا عندما يتعلق بقضايا الأوطان، وذلك بسبب موقف المُشاهد وحماسته تجاه أبطاله، الذين يتمثلون في وجدانه أبطالا حقيقيين، يريد أن يراهم منتصرين على العدو، مهما كان، ليتمدد على أريكته مرتاحا لنصر ما، وإن كان على سبيل الترفيه، لذلك استقبل المشاهدون هذه الفانتازيا بفخر، ولم يجرؤ أحد على انتقادها في حدود متابعتي لردود الأفعال، ومع ذلك يعود الفيلم ليقلب هذه الصورة الرومانسية، واصلا إياها بالواقع على نحو ناجح سينمائيا، ومخيب واقعيا.
لعب منضبط
إيكال أدوار شخصيات على هذه السوية من التعقيد، لنجوم كبار ومتمرسين، لا يجعل أداءهم مفاجئا، ولكن يبقى أن يقول المشاهدُ إنهم لم يخيبوا أمله للحظة، فكل انفعال كان مدروسا ومحسوبا، وكان واضحا مدى التمرن على الأدوار، بصورة ترسم ابتسامة كاسب الرهان على الوجوه، ثمة دقة في الأداء تجعل الإيقاع منضبطا، وكأن الفيلم مباراة كرة قدم، الجميع فيها ينافس ويناور، ولكن ضمن ضوابط ومحددات فنية وسردية وأدائية، جعلت العمل أكثر نضجا، والمشاهدة أكثر متعة.