تجريم التضامن مع فلسطين يتخذ مكانة أكبر في أوروبا

تجريم التضامن مع فلسطين يتخذ مكانة أكبر في أوروبا

تجريم التضامن مع فلسطين يتخذ مكانة أكبر في أوروبا

By : Baudouin Loos

هل مازال باستطاعتنا اليوم أن نساند القضية الفلسطينية في أوروبا؟ يبدو السؤال مفرغا من كل معنى في وقت تتكوّن فيه الغالبية العظمى من الائتلاف الحاكم بإسرائيل من شخصيات متطرّفة ومتفاخرة بعنصريتها، إلى درجة إحراج جزء من السكان الذي يروق لهم وصف البلد بـ"الديمقراطية الوحيدة في الشرق الأدنى". وعلى الرغم من ذلك تتّخذ الإجابة على سؤالنا منحى أكثر سلبية يومًا بعد يوم في الدول الأكثر كثافة سكانية بأوروبا الغربية وهي ألمانيا والمملكة المتحدة وفرنسا. إذ يكفي استعمال كلمة "أبارتايد" وخاصة التعاطف مع حركة المقاطعة ومنع الاستثمار وفرض العقوبات (بي دي اس)، حتى تبرز عدائية المنتقدين للقضية الفلسطينية.

من جهة أخرى يستغلّ مناصرو تل أبيب تبني أوروبا للمفهوم الجدليّ لمعاداة السامية الذي أسّسه التحالف الدولي لذكرى الهولوكوست، وهو ما يفضي إلى إسكات الانتقادات الموجهة لإسرائيل مهما كانت فداحة الجرائم المنسوبة إلى ممثّلي هذه الدولة.

ألمانيا المكبّلة بماضيها

أمر بديهيّ: منذ نهاية الحرب العالمية الثانية وإلى حدود اليوم، مازالت ألمانيا تجرّ أوزار الإبادة الصناعية لليهود. فقد وجب عليها تحمّل التداعيات المادية لذلك — منذ سنة 1945 إلى حدود 2018، دفعت الحكومة الألمانية ما يناهز عن 86.8 مليار دولار كتعويضات لضحايا الإبادة الجماعية والناجين منها، ناهيك عن الإلزامات المعنوية التي تُعدّ إسرائيل أكثر المستفيدين منها لتمتُّعها بدعم ديبلوماسي مطلق من قبل ألمانيا.

لا تتساهل ألمانيا مع مبدأ التضامن مع إسرائيل. فقد صادق أعضاء البرلمان يوم 17 مايو/أيار 2019 على قرار غير ملزم بإدانة حركة مقاطعة إسرائيل، واصفين أساليبهم بالمعادية للسامية ومذكّرين في ذلك بالدعوة لمقاطعة اليهود في الحقبة النازية. ينصّ القرار على أنّ ألمانيا "ستعارض بشدّة" كل الجهود المبذولة لتشويه صورة اليهود أو التشكيك في "أحقيّة الوجود أو حق دولة إسرائيل اليهودية الديمقراطية في الدفاع عن النفس". وقد تبنى القرار كلّ من الأحزاب السياسية الكبرى بالبلد وهم الحزب الاجتماعي الديمقراطي والاتحاد المسيحي الديمقراطي وحزب الخضر.

بالنسبة إلى مناصري القضية الفلسطينية، فقد تدهور المناخ في الآونة الأخيرة، وهو ما ترويه الصحفية الفلسطينية الأمريكية المقيمة بألمانيا هبة جمال على موقع 972mag.com:

"لقد تمّ تضييق مجال الدفاع عن فلسطين في السنوات الأخيرة من خلال تصنيف كل الخطابات الداعمة لفلسطين بالمعادية للسامية. وقد تفاقم الأمر إثر تبنّي البرلمان الألماني لقانون مناهض لحملة المقاطعة سنة 2019، والذي تتعامل بموجبه المؤسسات الفيديرالية مع كل التعبيرات الداعمة لهذه الحملة على أنها معادية للسامية. كلّ هذا قد سمح للجامعات وحكومات الولايات وكذلك المؤسسات العمومية بحرمان الفلسطينيين من حق حرية التعبير والتجمّع".

أعلن بيتر شافر مدير المتحف اليهودي ببرلين الذي تم تعيينه سنة 2014، عن استقالته عقب تبني ألمانيا للقانون الذي يصف حركة المقاطعة بالمعادية للسامية. وكتبت الصحفية الإسرائيلية المقيمة ببرلين مايراف زونشاين أنّه اتخذ هذا القرار "إثر تعرّضه لضغوط كبيرة من قبل القائمين على المجتمع اليهوديّ بألمانيا وكذلك الحكومة الإسرائيلية، والذين اتهموا المتحف بالانخراط فيما اعتبروه بالممارسات المعادية لإسرائيل ولليهود". ما كان خطأه؟ تغريدة للمتحف على تويتر يوم 6 يونيو/حزيران، تؤيد مقالاً – نشرته الصحيفة اليومية التقدمية "دي تاغزتسايتونغ" – يحتوي على رسالة ممضاة من قبل 240 مختص يهودي وإسرائيلي في معاداة السامية والهولوكوست، يرفضون من خلالها القول بأن حملة المقاطعة هي حركة معادية للسامية. في وضع كهذا، لنا أن نفهم بشكل أفضل لماذا لا يتجاوز عدد المناضلين الذين يجرؤون على مواصلة الالتزام بمقاطعة إسرائيل في ألمانيا، بضع المئات.

كما تذكّر هبة جمال ما قاله شير هيفي، رجل الاقتصاد الإسرائيلي المقيم بألمانيا والذي كان بدوره ضحية لهذه الرقابة:

"لست الأول ولا أعتقد بأنّي سأكون الأخير ممّن أُلزموا بالصمت بهذه الطريقة. ألمانيا في العموم دولة ديمقراطية، لكن حين يتعلّق الأمر بإسرائيل أو بفلسطين، تصبح الأمور أكثر فأكثر ضبابيّة".

تمّ مؤخّرا إلغاء العديد من المحاضرات التي كان من المفترض أن يتكلّم بها يهود وأحيانا إسرائيليّون من غير الصهاينة. في يوليو/تموز 2022، وإثر مشاركته في ندوة حول اختلاس ذكرى الهولوكوست، صُدم أفراهام بورغ، الرئيس السابق للبرلمان الإسرائيلي والمنظمة الصهيونية الدولية، لما سمعه من تهم حول معاداة السامية، وهو ما دفعه لكتابة عمود نشر في صحيفة "هآرتس":

"كيف وصلنا إلى هنا؟ لقد صنعت إسرائيل من معادة السامية سلاحًا ديبلوماسيا فتّاكا. لقد ساهمت حكومتها المحافظة في نشر هذا المفهوم على أوسع نطاق، لتكون المعادلة كالآتي: كل نقد هو معاداة للسامية، كل معارض هو عدوّ، كل عدو هو هتلر، وكلّ عام هو 1938".

في كل الحالات، لا شيء يشير إلى أن ألمانيا شرعت في مساءلة نفسها حول ما من شأنه أن يمثّل إنكارًا للحرية.

في 20 مايو/أيار 2023، أيدت المحكمة الإدارية العليا في برلين - براندنبورغ منع الشرطة لمظاهرة تم تنظيمها في برلين لإحياء ذكرى النكبة الفلسطينية. وقد بررت الشرطة ذلك بالمخاطر التي لها أن تنتج عن حدث كهذا، مثل "التحويف وتحريض الشعب على معاداة السامية وتمجيد العنف ونشر الرغبة في استعماله".

عندما تنحى لندن إلى تقليد برلين

من كان له أن يتخيّل أنّ مبدأ حريّة التعبير المتضمّن لحق انتقاد دولة إسرائيل سيكون مهدّدا بالمملكة المتحدة؟ هذه المقاربة التي كانت من الخيال المحض في ماض ليس ببعيد، صارت حقيقة يوم 3 يوليو/تموز 2023، وهي تستهدف مباشرة الهياكل البريطانية العمومية، مثل المجالس البلدية والجامعات. تم ذلك من خلال تبنّي مشروع قانون من اقتراح ماكايل غوف، كاتب دولة بالحكومة المحافظة التي يقودها ريشي سوناك. وقد فسّر ذلك في مايو/أيار 2023 قائلاً: "نحن نعارض بشدة حركات المقاطعة المحلية وكل ما من شأنه أن يلحق الضّرر بانسجام مكوّنات المجتمع وتماسكها، ويعيق حركة الصادرات ويهدّد أمننا الاقتصادي".

لكن السبب الكامن وراء ذلك يظهر جليّا بنصّ القانون الذي يذكر إسرائيل بوضوح. تجري الأمور كما لو أنّ دعم المقاطعة كان في تطوّر في المملكة المتحدة ويجب التحرّك على الفور لعرقلة تقدّمه… بالنسبة إلى ميشال غوف، "لا تحمل حملة المقاطعة سوى هدف واحد، وهو مهاجمة إسرائيل ونزع الشرعية منها ومن مبدأ تواجد دولة يهودية".

صادق مجلس العموم على مشروع القانون يوم 3 يوليو/تموز الفارط دون أدنى حماس. ومن بين 650 نائبًا، صوت 268 بـ"نعم" و70 بـ"لا"، في حين فضّل أعضاء حزب العمّال التحفّظ (تمامًا كما فعل 82 منتخبًا من الأغلبية المحافظة). لم يغب التعبير عن المواقف خلال الأسابيع التي تلت التصويت، مثل مجوعة تغريدات على تويتر تعبّر عن غضبها من حملة التضامن مع فلسطين يوم 19 يونيو/حزيران 2023 وقدّمت بالإضافة إلى ذلك إشار ة صادمة للأراضي المحتلة بهذا القانون المناهض للمقاطعة:

"حتى أن مشروع قانون مناهضة المقاطعة يذكر بالاسم "الأراضي الفلسطينية المحتلة" و "هضبة الجولان المحتلة" إلى جانب إسرائيل، على أنها أراض يحميها القانون صراحةً من مقاطعة القطاع العام، دون أي احتمال لاستثناء آني أو مستقبلي".

وقّعت أكثر من 60 منظمة من المجتمع المدني من بينها "غرين بيس المملكة المتحدة" و"ليبرتي" على إعلان يستهجن مشروع القانون وجاء فيه: "في حال اعتماد هذا القانون، سيتم تضييق الخناق على عدد واسع من الحملات التي تتناول تجارة الأسلحة والعدالة المناخية وحقوق الإنسان والقانون الدولي والتضامن الدولي مع الشعوب المضطهدة التي تناضل من أجل العدالة".

عبّر الصحفي والمستشار جايمس براونسل الذي عمل مرة واحدة بالأراضي الفلسطينية المحتلة عن رأيه في موقع "ميدل إيست آي"، معتبرا أنّ "مشروع الحكومة البريطانية المحافظة القاضي بمنع المجالس المحلية وهياكل عمومية أخرى من المشاركة في حملات المقاطعة ومنع الاستثمار، ليس سوى آخر أشكال الهجوم اللا ليبرالية والمناقضة للمعايير الديمقراطية".

من جانب آخر، عبّرت منظمات بريطانية يهودية مثل "نا’أمود" و"تحالف الشتات" عن رفضها لمشروع القانون باعتباره "مثالا جليّا لكيفية إخضاع مفهوم معاداة السامية لغرض دعم سياسة معادية لفلسطين، بالإضافة إلى التضييق على الحريات"، وفق ما صرّحت به مديرة تخالف الشتات بالمملكة المتحدة إيميلي هيلتون.

وعلى الرغم من صيحات الفزع المتتالية حول هذا الموضوع، بقي موقف حزب العمّال ضبابيّا لوقت طويل، مع أنّ رئيسه كير ستارمر لا يخفي مناهضته لحملة المقاطعة. فقد انتهى أعضاء حزب العمّال للتو من فترة ترؤّس جيريمي كوربين من 2015 إلى 2020 والتي تركت الكثير من المرارة بسبب تهم خطيرة من قبل العديد من المدّعين العامين، والذين اعتبروا تعامل الحزب داخليا مع معاداة السامية كارثيًّا. دفعت هذه التّهم بالحزب إلى تعليق مهام جيريمي كوربين، قبل أن يستعيدها جزئيّا فيما بعد.

هل مازال باستطاعتنا اليوم أن نساند القضية الفلسطينية في أوروبا؟

يعتقد البعض، ومن بينهم أساسا مناصروا كوربين، أنّ مسألة معاداة الساميّة قد تمّ تضخيمها لأغراض سياسيّة تتمثّل في تخريب الخطّ اليساريّ الرّاديكالي الذي كان يجسّده رئيس حزب العمّال. وقد صرّح المفكّر الباكستانيّ الأصل طارق علي: "البعض من الجناح اليمينيّ لممثّلي حزب العمّال بالبرلمان والذين يتراوح عددهم بين 70 و80، يُؤثرون خسارة الانتخابات على فوز كوربين".

فرنسا، "وطن حقوق الإنسان"؟

ما الذي يحدث بفرنسا؟ ولم كلّ هذا التململ في كلّ ما يتعلّق بفلسطين؟ لماذا يجد كل معارض للسياسة الإسرائيلية في الأراضي الفلسطينية المحتلّة نفسه على كرسيّ الاتّهام، في هذا البلد الذي يزعم أنّه "وطن حقوق الإنسان"؟ لماذا تنحى فرنسا الرسمية إلى تبنّي الخلط المثير للجدل حول مفاهيم معاداة السامية ومعاداة الصهيونيّة؟ لا تملك هذه الأسئلة جوابا واضحًا أو بديهيًّا.

لكنّ الأمر جليّ، حيث تكفي العودة إلى منشور أليوت-ماري (باسم الوزيرة الفرنسية ميشال أليوت-ماري التي كانت وزيرة العدل آنذاك) في 12 فبراير/شباط 2010 حتى نحدّد أصل الداء. يطلب هذا النص من المدّعين العامين تتبّع كل الدّاعين أو المشاركين بحركات تدعو إلى مقاطعة "المنتوجات الإسرائيلية"، وذلك بمقتضى القانون الجزائي المتعلّق بـ"التحريض على الكراهية والتمييز". الأحكام الصادرة تتفاوت، ووجب الانتظار حتى يوم 11 يونيو/حزيران 2020 حتى تدين المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان فرنسا في قضية تعلّقت بمناضل من حملة المقاطعة بعد أن تم تأييد إدانته من قبل محكمة التعقيب، بعد استئنافه لقضيته.

وكما يشرح المقال الذي كتبه رجل القانون فرانسوا دوبيوسون على موقع "أوريان 21" في تلك الفترة، اعتبرت محكمة سترازبورغ أنّ موضوع الإدانة (الدّعوة إلى المقاطعة من قبل مناضل أدانته العدالة الفرنسية) هو من قبيل "التعبير السياسي والنضالي" المتعلق بـ"المصلحة العامة، في جانب احترام القانون الدولي العام من قبل دولة إسرائيل ووضعية حقوق الإنسان بالأراضي الفلسطينية المحتلّة". كلّ هذا يتطلّب "مستوى عال من حماية حقّ الحريّة في التعبير".

نفس الكاتب قد تطرّق إلى ردّ الفعل الذي قامت به الحكومة الفرنسية إثر تعرّضها لإدانة المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان: "في 20 أكتوبر/تشرين الأول 2020، أصدر وزير العدل الفرنسي إيريك دوبون موريتي منشورًا ’يتعلّق بقمع الدعوات العنصرية لمقاطعة المنتوجات الإسرائيلي’، لتستعيد بموجبه التتبعات العدلية شرعيتها القانونية. بل أكثر من ذلك، صارت مرفوقة بشرط أكثر صرامة حول"موجبات قرارات الإدانة".

هل سيشكّل هذا الموضوع مجدّدا محلّ لجوء إلى العدالة؟ تبقى الإجابة على هذا السؤال ضبابية. في الأثناء، ودون الأخذ بعين الاعتبار تدخّل المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان، تعتبر فرنسا مقاطعة المنتوجات الإسرائيلية عملا إجراميًّا يقود مرتكبيه إلى السجن.

لا يساعد موقف رئيس الجمهورية على إيضاح الأمور بفرنسا. ففي مارس/آذار 2022، كرّر إيمانويل ماكرون أن "معاداة السامية ومعاداة الصهيونية هما ألذّ أعداء جمهوريتنا"، ممّا أثار استياءً كبيرًا لدى جزء من اليهود الفرنسيّين المحتجّين ضدّ السياسة الاستعمارية الإسرائيلية.

قامت فرنسا بقيادة ماكرون هي الأخرى بتبنّي إعادة بناء مفهوم معاداة السامية من قبل التحالف الدولي لإحياء ذكرى الهولوكوست في 2019، والذي تبنّته بدورها 20 دولة من بينها 16 منتمية إلى الاتحاد الأوروبي. تكمن مشكلة هذا القرار في تمظهرات معاداة السامية التي تم ذكرها ومن بينها انتقاد إسرائيل.. قرار غير ملزم، تمّ تبنّيه من قبل مجلس وطني هجره أغلب أعضائه بشكل مريب. وقد اقتصر التصويت على 154 صوت بـ"نعم" (النواب عن الحزب الرئاسي "الجهورية إلى الأمام" وحزب "الجمهوريّون" اليميني)، و72 صوت بـ"لا" (يسار) و 43 متحفّظ.

لكن حماس الرئيس الفرنسي سيقوده إلى ما هو أبعدُ من ذلك، وسيذهب يوم 24 فبراير/شباط 2022 نحو نطق هذه الجملة: "لم أتوقّف يوما عن قول أنّ القدس هي العاصمة الأبدية لليهود"، وقد كان ذلك بمناسبة العشاء السنوي للمجلس التمثيلي للمؤسسات اليهودية بفرنسا (كريف). مرّ التصريح دون أن يلاحظه الكثير. توجّب حينها على رئيس الوزراء جان كاستيكس قراءة خطاب ماكرون الذي شغلته الأحداث بأوكرانيا.

خلال نفس المناسبة، تضمّن الخطاب هجومًا على منظمات غير حكومية مثل ب’تسليم ومنظمة العفو الدولية وهيومن رايتس واتش (دون ذكر الأسماء)، باعتبارها مذنبة لإدانتها "الأبارتايد" بعد دراسات ميدانية طويلة: "توجد إساءة توظيف للمصطلحات التاريخية المشحونة بالعار. كيف لنا أن نتحدّث عن الأبارتايد؟ إنّه لمن قبيل الباطل". ألا تستحق الحجج الكثيرة للمنظمات المعنية أكثر من هذا التجاهل؟

نلاحظ في الآونة الأخيرة في فرنسا إلغاء العديد من المحاضرات بأوامر من رؤساء البلديات أو المحافظين والتي ترمي إلى مواضيع معيّنة أو تستضيف أناسا معيّنين، تحت ذرائع مختلفة. شهد المحامي الفرنسي الفلسطيني صلاح حمّوري الكثير من ذلك، فقد تم ترحيله من القدس إلى فرنسا يوم 18 ديسمبر/كانون الأول 2022 بعد عدة فترات سجن بسبب تهم ما فتئ ينكرها، واعتقال إداريّ بقي دون محاكمة. شكّلت العديد من المحاضرات التي كان سيشارك بها كمتدخّل محلّ العديد من الشكاوى التي أدت في بعض الأحيان إلى إلغائها، مثل المحاضرة التي كان سيلقيها بمدينة ليون في يناير/كانون الثاني 2023. حينها رضخ غريغوري دوسي رئيس البلدية الممثل عن حزب الخضر، إلى الضغوطات التي مورست عليه.

حلّ في مارس/آذار 2023 دور محافظة مورت-و-موزال لمنع مائدة مستديرة لصلاح حموري خوفا من "اضطرابات النظام العام". وألغى محافظ الإرلوت بدوره تجمّعا كان من المزمع تنفيذه يوم السبت 27 مايو/أيار من قبل تحالف مونبيلييه ضدّ الأبارتايد، والذي يظمّ 20 منظمة. في بلاغه الصحفيّ، برّر المحافظ بأنّه "يخشى انتقال نزاع دولي إلى مونبيلييه، وتقديم خطابات تمييزية تحرّض على الكراهية تجاه السكان، بسبب انتمائهم إلى أمة أو عرق أو دين معين".

انتهت حلقة أخرى من هذه السلسلة في مصلحة حموري وأنصاره هذه المرة. فإثر منع رئيس بلدية ليون لمحاضرة بعنوان "فلسطين-إسرائيل: استعمار - أبارتايد" كان من المفترض أن تنعقد يوم 22 يونيو/حزيران مع صلاح حموري، تم نقض قراره في اللحظات الأخيرة من قبل المحكمة الإدارية بليون التي وافقت على انعقاد المحاضرة.

لكن بعد يومين فقط، قرّر محافظ إيرولت منع محاضرة جديدة في مونبلييه، هذه المرة تحت عنوان "ضد الأبارتايد". وقد برّر ذلك باحتمال وجود "عناصر راديكالية"، وبأنه "سياق دولي حساس"بالإضافة إلى رمزية اليوم الذي تم اختياره، يوم السبت، "يوم شابات".

يعود السؤال الذي يطرح نفسه في كلّ مرة: لم كلّ هذا التحامل على أنصار القضية الفلسطينية؟ رئيس الدولة، وزراء، محافظون وعدد من القضاة، كلّهم ملتحمون ضدّ هؤلاء، وهو بالتالي نوع من الإجحاف. وهذه الإجابة التي يقترحها إيريك كوكرال، النائب عن حزب "فرنسا الأبية" اليساري:

"نشهد اليوم انتصارًا متأخّرًا لفكرة "صراع الحضارات" والتي تتمثل، في هذه الحالة، في وضع القضية الفلسطينية في نفس السلة مع الإرهاب الإسلامي. هذا التأويل الذي ينتمي إلى أطروحات نتنياهو، لم يكن أبدا خاصّا بفرنسا، إلا أنه تم ضخّه تدريجياً في صفوف السلطة".

يوجد بالتأكيد شيء من ذلك. فقد حدثت عملية "الضخ" هذه بمساعدة ناجعة وفعالة من قبل البعض، وفق المؤرخ توماس فيسكوفي:

"هناك أوّلا مجموعة من المنظمات التي عملت جاهدة لقمع حركة التضامن مع فلسطين منذ أن تبنّت فكرة الأبارتايد. لا يعني ذلك أن كل شيء كان إيجابيا في الماضي، ولكن لم يكن هناك هذا العدد من المحظورات. لنأخذ "إلنات" مثلا، التي تأخذ نوابا فرنسيين في زيارات إلى إسرائيل بشكل دوريّ. تظّم هذه المنظمة في صفوفها الكثير من الوجوه المنتمية إلى أغلبية ماكرون. هذه الأغلبية التي واجهت بصرامة قرار الأبارتايد واستقبال صلاح حموري، وقد دافعت خاصة على طريقة استيعاب مفهومي معاداة الصهيونية ومعاداة السامية، وهي النقطة التي تبدو محدّدة أكثر من غيرها في كلّ هذا الأمر. وبهذه الطريقة، تدفع هذه السياسات نحو التطبيع مع فكرة أن كل حدث يهدف إلى التضامن مع فلسطين هو محل ريبة، لما يمكن أن يتضمنه من معاداة للسامية، ما يبرّر بالتالي إمكانية منعه".

تبدو مسألة حرية التعبير محلّ تساؤل في أوروبا. وفي مفارقة كبرى، يكون ذلك باسم الدفاع عن دولة -إسرائيل- تضرب بدورها عرض الحائط مبادئ القوانين الدولية وحقوق الإنسان بثبات يدعو في كلّ مرة إلى الدهشة. من المؤكد أن معاداة السامية هو موقف مخجل وهو لحسن الحظ ممنوع قانونيّا في كل مكان. لكن عندما تقوم دول بوضع هذا المفهوم في خلط مع معاداة الصهيونية ومع كل نقد لإسرائيل، فإنها تساهم في دعم الإفلات من العقاب لهذه الدولة التي تتلاعب بكل سخرية بتاريخ الإبادة، لا لشيء إلا لتضمن حصانتها.


[تُنشر هذه المقالة بموجب اتفاقية تجمع بين جدلية وموقع أوريان 21].

بدرخان علي: "الانتخابات الحرّة" ليست شيئاً عظيماً، بعد خراب البلد

‫يأخذنا الباحث الكردي السوري بدرخان علي في هذه المقابلة في جولة نقدية حول الثورة السورية ودروبها المتشعبة، خصوصاً في المناطق ذات الأغلبية الكردية، التي تقع تحت سيطرة أحزاب كردية متعددة، تتضارب في المصالح والأهداف. ويتطرق إلى طبيعة العلاقة التي تربط حزب الإتحاد الديمقراطي PYD بالنظام السوري وبحزب العمال الكردستاني PKK في تركيا، وكذلك عن علاقة بقية الأحزاب الكردية بالسيد مسعود البرزاني رئيس إقليم كردستان العراق. وهو إذ يصف نفسه هنا بـ "أكثر المتشائمين"، لا يرسم بطبيعة الحال، صورة وردية عن مستقبل سورية ما بعد الأسد، إلا أن مكاشفته القارئ تلامس حيزاً كبيراً من هواجس كل سوري ومخاوفه المستقبلية.

م.د: ثمة لغط كثير حول مطالب الأكراد، هل لك أن تضعنا بصورة تفصيلية وواضحة حول المطالب الكردية الحقيقية؟‬

ب.ع: قبل اندلاع الثورة السورية كانت مطالب الحركة السياسية الكردية ترد إجمالاً في صيغ "الحقوق القومية المشروعة للشعب الكردي في إطار وحدة البلاد". وكان ثمة تشديد دائم على نفي تهمة الانفصال عن سوريا التي تلصق عادة بالحركة الكردية، وإبراز الدور الوطني للكرد في سوريا منذ الاستقلال حتى اليوم. وبالطبع التركيز على المظالم التي مورست بحق الكرد، مثل حرمان حوالي ربع مليون منهم من الجنسية السورية بموجب الإحصاء الاستثنائي لعام 1962 الخاص بمحافظة الحسكة، وحظر اللغة والثقافة الكرديتين إلى التمييز في سلك الديبلوماسية والجيش، وإقامة "الحزام العربي" في محافظة الحسكة.
بعد اندلاع الثورة وتشكيل المجلس الوطني الكردي (إئتلاف يضم معظم الأحزاب الكردية والتنسيقيات الشبابية الكردية) طرحت صيغة حق تقرير المصير في إطار وحدة البلاد، واللامركزية السياسية، ومن ثم الفيدرالية والدولة الاتحادية. يلاحظ أن هناك تصوّراً كردياً غالب أنّ الفرصة مواتية لانتزاع أكبر قدر من المطالب القوميّة بعد سقوط النظام الحاكم. وفي ظنّي هذا رهان كبير، ولا يخلو من قدر غير محسوب من المغامرة، ويحصر المسألة الكردية في السلطة الحاكمة أو شخص الرئيس. ويغفل معطيات وعوامل عديدة في المسألة القومية الكردية في بعدها السوريّ.

م. د: ما هي العوائق التي تقف في طريق المطالب الفيدرالية الكردية؟

ب.ع: الحقيقة أن هناك جملة عوامل جغرافية، سكانية، محلية، سياسية، إقليمية تطرّقت إليها في كتابات سابقة سوف تعترض صيغة الفيدرالية المطروحة بمجرد سقوط النظام، لا بل من الآن. وستضطر النخبة الكردية نفسها إلى مواجهة الواقع كما هو، لا كما تشتهي. حتى الآن رغم كل الاجتماعات واللقاءات والنقاشات، ورغم إلحاح الجانب الكردي، ورغم رغبة قوى المعارضة في ضمّ الأحزاب الكردية إلى صفوفها، لم تبد أية جهة سياسية سورية موافقتها على هذه المطالب الفيدرالية، أي أنه لم يمكن حتى الآن انتزاع "اعتراف وطني-عربي سوري" بالحقوق الكردية وفق ما تطرحها القوى الكردية. وهو الأمر الذي تسبّب به الطرف الكردي برفع سقف مطالبه خلال الثورة، وكذلك بعض الأطراف في المعارضة التي لا ترى في المطالب الكردية سوى مشكلة عابرة لا تحتاج سوى إلى كلمات عامة، ناهيك عن وجود تيار قوميّ- شوفينيّ بكل معنى الكلمة داخل صفوف المعارضة اليوم.

وهناك لا شك عوامل عديدة سوف تحدّ من بقاء سورية دولة مركزية متشددة، بالمعنى الإدراي الإقتصادي-الأمني، أي بصورة تتيح للأطراف والمحافظات ممارسة سلطات أوسع في نطاقها المحليّ. لكني أرى أن تصبح سورية دولة لامركزيّة سياسياً ودستورياً، أمراً بعيد الاحتمال.

خلال فترة قصيرة من الإضطراب والفوضى قد تمارس سلطات الأمر الواقع من جماعات مسلّحة وقوى سياسية قدراً من سلطة سياسية محليّة. لكن ليس على المدى البعيد وعلى نحو مستقرّ. من جهة أخرى يبقى الأمر مرهوناً بمآلات الحرب القائمة في البلاد، وكيف ستنتهي، والارتدادات الإقليمية للصراع السوري.

م.د: هل يخشى الأكراد من أن تدير المعارضة السورية العربية لهم الظهر حال سقط النظام، وما الضمانات التي تطالبون بها لمنع ذلك؟

ب.ع: بلى، هناك تخوّف من هذا القبيل، ويستند هذا الخوف إلى ميراث الاضطهاد والتهميش الذي مورس بحق الكرد بعد مشاركتهم الفاعلة في نيل استقلال سورية عن الانتداب الفرنسي، كما يجري استحضار تجارب كردية خارج سورية وبشكل خاص المشاركة الكردية في معارك الاستقلال التركي ووعود كمال أتاتورك لهم بالحكم الذاتي والمشاركة في الدولة الجديدة، والتي أخلفها على الفور بعد نيل الاستقلال ومارس أشد السياسات عنفاً وشوفينية ضد الكرد في الجمهورية التركية التي سارت على نهجه في اضطهاد الكرد. كما مشاركة الكرد في "الثورة الإسلامية" في إيران عام 1979. وتهميشهم واضطهادهم بعد استقرار الحكم للملالي ورجال الدين. يعبّر أحياناً بعض الساسة الكرد عن ذلك، في لحظات الصراحة والوضوح، بالقول "لن نكون بندقية على كتف أحد" أو " ثوّاراً تحت الطلب". الثورة السورية أنعشت آمال الأكراد في سوريا في نيل حقوقهم، ودفعت النخب، باستثناءات قليلة، إلى رفع سقف مطالبها على شكل حكم قوميّ ذاتيّ موسّع (بصرف النظر عن التعبيرات)، من غير أن يطالب أحد بالانفصال عن سوريا. الضمانات المطلوبة المطروحة هي انتزاع اعتراف مسبق من الآن بتضمين الحقوق القومية الكردية، بالصيغة المطروحة، في الدستور القادم.

م.د: تحوّلت مناطق الأكراد إلى مناطق آمنة للاجئين السوريين من المناطق التي تعرضت لعنف النظام بعد احتضانها المعارضة المسلحة، فهل تضعنا في صورة الوضع الاقتصادي في تلك المناطق؟ وما صحة أن حزب العمال الكردستاني يدير الوضع الاقتصادي/ المعاشي بغض نظر من النظام؟

ب.ع: كان الوضع المعاشي في محافظة الحسكة ممكناً و مقبولاً، بشكل نسبي، حتى قبل بضعة أشهر وكان النازحون من المناطق السورية الأخرى يتمتعون بأمان. لكن مع اشتداد المعارك في المنطقة الشرقية والاشتباكات بين الجماعات المسلحة العربية والكردية في رأس العين (سري كانيه) والخراب في البنية الخدمية عموماً وحالة الفوضى وبروز العصابات التي تسطو على الشاحنات القادمة من حلب وغيرها، تدهورت الشروط المعيشية خاصة خلال الشتاء حيث البرد الشديد وانقطاع الكهرباء لساعات طويلة و أيام متواصلة أحياناً. وبسبب إغلاق المنافذ بين المحافظة والجوار، التركي والعراقي، حيث المعبر بين قامشلي ونصيبين التركية مغلق، والمعبر بين اليعربية (تل كوجر) السورية وربيعة العراقية مغلق أيضاً، ورأس العين تشهد معارك، والسلطات التركية كانت تسمح فقط للمسلّحين والأسلحة بالدخول لمجموعات مسلّحة مدعومة منها على الأغلب، قامت حكومة إقليم كردستان العراق بإرسال معونات إنسانيّة مقدّمة باسم رئيس الإقليم السيد مسعود بارزاني، تتضمن محروقات ومواد أساسية لأهل المحافظة عبر معبر غير نظامي بين حدود إقليم كردستان العراق ومدينة ديرك (المالكية) الكردية السورية، ودون موافقة الحكومة المركزية في بغداد. وكذلك السماح بإدخال معونات مقدمة من المواطنين وجمعيات وقوى سياسية عبر الإقليم. وقد شكّل هذا المعبر شريان حياة صغير للمنطقة ومازالت بعض المواد الأساسية ترد عبره. أما في المناطق الكردية الأخرى شمال حلب والرقة فالوضع هناك أسوأ، حيث منطقة عفرين مثلا (شمال حلب) محرومة من أية مساعدات إنسانية من الجهة التركية.

م.د: في مؤتمر القاهرة الذي أعد لوحدة المعارضة، حصل في نهايته خلاف عربي- كردي أرخى ظلالاً سيئة على العلاقة العربية الكردية عموماً وعلى وحدة المعارضة السياسية. هل ترى أن الخلاف بين العرب والكرد هو خلاف عميق الجذور من الصعب تجاوزه على المستوى السياسي فحسب، أي أنه عمودي، أم أنه خلاف مرهون بوجود الاستبداد ويزول بزواله؟

ب.ع: لا أودّ الحديث غير الواقعي بالتهويل عن متانة الوحدة الوطنية وإطلاق الشعارات الجميلة. وكما بيّنت في سؤال سابق، مشكلة الكرد وحقوقهم ليست مرهونة فقط بالنظام الحالي، ولا بالطبقة الحاكمة وحسب، حتى يكون إسقاطهما حلاً ناجزاً للمسألة الكردية. بالتأكيد، الاستبداد المديد، وثقافة حزب البعث القومية، وتغييب الحياة السياسية والحريات العامة أسهم في تعقيد القضية الكردية. كما أن تطورات المسألة الكردية في الجوار الإقليمي تلعب دوراً مؤثراً على الحركة الكردية في سوريا.

لكن الفرق الأساسي هو بين رؤيتين أساسيتين (مع استثناءات وتدرّجات في الجهتين): الكرد باتوا ينظرون إلى سوريا من منظورهم الكرديّ الخاص (ولذلك أسباب ومعطيات) أكثر من أي وقت مضى، أي كشعب ضمن شعب وإقليم ضمن دولة، وتحضر هنا تجربة كردستان العراق في المخيلة السياسية، في المقابل ينظر عموم السوريّون إلى الكرد من منظور عام، "الوحدة الوطنية" و"الشعب الواحد" و"أسنان المشط".

في تقديري: الواقع الذي سيفرز بعد سقوط النظام ونتائج الحرب المستعرة حالياً، والمخاض الإقليمي جراء الوضع السوري المتفجّر، والجدل القائم حول البدء بحل ما للقضية الكردية في تركيا وما سيتمخض عن ذلك، سيكون له دوراً كبيراً في تقرير حدود الحلّ السوري للمسألة الكردية. أي موازين القوى ومعادلات القوة الناتجة. الشعارات من الطرفين (سلباً أو إيجاباً) لن تفيد كثيراً، ولا "التطمينات" المتبادلة. رغم أهمية التواصل الأهلي وضرورة التنسيق بين المكونات الاجتماعية في المناطق المتداخلة من أجل تجنب الصراعات الأهليّة.

م.د: ثمة كثير من الأساطير تحاك حول حزب الاتحاد الديمقراطي (الجناح السياسي لحزب العمال الكردستاني) بين من يرى أنه يعمل لحساباته الخاصة مستغلاّ التحولات الحاصلة في سوريا والمنطقة، وبين من يرى أنه أداة بيد النظام السوري، وبين من يرى أنه يتحاور مع أنقرة من تحت السطح. كيف تقرأ واقع هذا الحزب الإشكالي في الانتفاضة السورية؟

ب.ع: القسط الأكبر من "الأساطير" التي تقال عن حزب الاتحاد الديمقراطي ( pyd) تعود إلى سياسته وسلوكياته بالطبع، لا إلى اتهامات من الآخرين. فالواقع أن سياسة الحزب في سوريا خاضعة تماماً للأجواء التي تسود العلاقة بين قيادة حزب العمال الكردستاني، خارج سوريا، والسلطة السورية. ولو قارننا مثلاً موقف الحزب في انتفاضة قامشلي 2004 مع موقفه الحالي لتوصلنا إلى ذلك. ففي العام 2004، كانت علاقة الحزب قد تدهورت مع دمشق بعد طرد زعيم الحزب السيد عبدالله أوجلان، من الأراضي السورية عام 1998 وتوقيع الاتفاقية الأمنية بين دمشق وأنقرة، التي تسمح لتركيا بالتوغل داخل الأراضي السورية لملاحقة مقاتلي الحزب. ورغم أن النظام السوري كان أقوى بكثير في 2004، ورغم أن الكرد كانوا معزولين عن بقية السوريين وفي المواجهة لوحدهم، كان حزب الاتحاد الديمقراطي، وإعلامه خصوصاً، يمارس تجييشاً كبيراً وتحريضاً غير مسبوقاً ضدّ النظام السوري، وبإغفال تام لإمكانات الكرد ومقدرتهم على خوض ثورة مستمرّة ضد النظام. إلا أن ذلك كان مطلوباً حينذاك من قبل قيادة حزب العمال الكردستاني للضغط على النظام السوري.

أما في الثورة السورية الراهنة، فنلاحظ لغة سلميّة غير مألوفة منهم تجاه النظام السوري، وبات الشباب المحتجّون ضد النظام السوري عملاءً لأردوغان!
لا أرى أن حزب العمال الكردستاني أداة بيد النظام السوري. إلا أن هناك استفادة متبادلة بين الطرفين. النظام السوري يستفز تركيا عبر الورقة الكردية مجدداً، ويسمح لقادة حزب الاتحاد الديمقراطي، واللجان الشعبية التابعة له، بالنشاط المستقل تماماً عن الحراك الثوري في البلاد، والكابح له في المناطق الكردية. من جهة أخرى، ازدادت وتيرة العمليات الهجومية لحزب العمال الكردستاني وشدّتها ضدّ الجيش التركي خلال فترة الأزمة السورية في خطوة أعادت إلى الأذهان الدعم الذي كان يتلقاه الحزب سابقاً من النظام السوري.

م.د: أين يكمن الانعكاس السلبي للحزب على القضية الكردية، خاصة أن هناك من يقول أن الحزب يعمل لاستغلال الأوضاع الحالية للهيمنة على الداخل الكردي لفرض رؤيته القومية؟

ب.ع: ليس من خطأ شنيع ارتكبه الحزب في سوريا بقدر محاولة فرض هيمنته الحزبية على الساحة الكردية، ولو كان ذلك بالعنف الصريح، والاعتداء الجسدي. وهذه، كما نفترض، وسائل غير مشروعة للعمل السياسي والدعاية السياسية ونيل الهيبة الحزبية. الشهوة للسلطة والتلهّف المبكر لها وللتسلّط، كان وراء كل الممارسات الطائشة والقمعيّة للحزب بشكل أضرّ به أيضاً، ووضعه في موقع حرج. كل ما عدا ذلك يخضع للنقاش والاختلاف.

لذلك لست مع نظرة تقول أنه بمجرد سقوط النظام السوري سوف تتوقف هذه الممارسات، بافتراض أن ذلك يجري خدمة للنظام السوري وبأوامر منه. موضوع حزب الاتحاد الديمقراطي وتشابكه مع وضع الـ (ب ك ك) في تركيا معقّد بعض الشيء. وهناك ثقافة قمعيّة ذاتية، وتربية شمولية، و"عبوديّة طوعيّة"، أي لا علاقة مباشرة لها بالموقف من النظام السوري، قد تستثمر في أية لحظة، والقاعدة الشعبية جاهزة للتلبية والتصفيق بطبيعة الحال، وللهجوم أيضاً.

م.د: الحوار بين حزب العمال الكردستاني وأنقرة الجاري الآن، هل تعتقد أن يكون له انعكاس على الداخل السوري وتوازن القوى، أي هل يمكن أن يبيع الحزب النظام السوري؟

ب.ع: بلا شك، سياسة حزب الاتحاد الديمقراطي يخضع بشكل مباشر لتأثير الحزب الأم (العمال الكردستاني. ما تزال المفاوضات في بدايتها وغير معلنة للرأي العام، سوى تسريبات من هنا وهناك. ولا نعلم كيف ستسير. وإذا ما قيّض لها النجاح بعد فترة، رغم الصعوبات الكبيرة والجمّة والملفات المرتبطة، سوف يلقى الأمر بظلاله على سياسة الاتحاد الديمقراطي في سوريا. أكبر تأثير إيجابي قد نجنيه في سوريا هو إعادة الاعتبار للسياسة والعقل، والعمل لمصالح الكرد السوريين أنفسهم، وتصالح أنصار حزب العمال الكردستاني السوريين أنفسهم مع مكانهم الواقعي والمحيط المعاش. وربما خلاص باقي أطراف الحركة الكردية من الابتزاز المزمن لحزب العمال الكردستاني.فحتى اليوم لم تكن قضايا الكرد السوريين أنفسهم على رأس أولويات المناصرين للـ pkk، لا قديماً ولا الآن.

م.د: في رأس العين، وبعد اقتتال بين الطرفين، عقد الجيش الحر وحزب الاتحاد الديمقراطي اتفاقية وشكلوا معاً "لجنة حماية السلم الأهلي والثورة". هل يمكن لهذا الأمر أن ينجح رغم الإيديولوجية المختلفة لكل منهما، والأجندة الخارجية المتضاربة لكل منهما أيضا؟

ب.ع: التفاهم الذي جرى في رأس العين (سري كانيه) كان بين وحدات الحماية الشعبية التابعة لحزب الاتحاد الديمقراطي وتشكيل عسكري تابع لـ"الجيش الحر" والإئتلاف الوطني السوري، هو المجلس الثوري العسكري في محافظة الحسكة. ووقع هذا التفاهم بعد زيارة وفد برئاسة المعارض ميشيل كيلو ودعوات عدة من "الهيئة الكردية العليا" وقوى المعارضة وقيادة "الجيش الحر" لوضع حد للمعارك والاقتتال الدائر في رأس العين والذي تسبب بتشريد ومقتل الكثير من أبناء المنطقة ونهب البيوت.

لكن على الفور قامت جهات عديدة بمهاجمة الإتفاق، لا سيما ذات النزوع القومي- الطائفي مثل "جبهة تحرير الفرات والجزيرة" التي يقودها السيد نواف راغب البشير المدعوم من تركيا، والذي يضمر بعض رواسب النزاعات القبلية التي تعود للخمسينات بين عشيرته- البكارة- وبعض العشائر الكردية. ولم يعد يخفي السيد نواف البشير ميوله المعادية للأكراد. إلا أن المفاجأة كانت حين هاجم الجنرال سليم إدريس، رئيس أركان "الجيش الحر" التابع للإئتلاف الوطني الاتفاقية واعتبرها لاغية. من هنا لا أظن أن الصراع انتهى. إذ قد يتجدد بأشكال أخرى وفي منطقة أخرى.

م.د: في البيت الداخلي الكردي هناك طرفان أساسيان: المجلس الوطني الكردي المدعوم من أربيل ويحظى بشرعية دولية وعلاقات دولية مقبولة مقابل ضعف سيطرته على الأرض، والاتحاد الديمقراطي المدعوم من حزب العمال الكردستاني في جبال قنديل والمفتقد لشرعية وغطاء دولي في حين لكنه يمسك بالأرض. هل ترى أن الاتفاق الذي وقعه الطرفان في أربيل وأسفر عن تأسيس "الهيئة الكردية العليا" هو اتفاق حقيقي، أم أنه اتفاق هش أو "زواج مصلحة" ولا يمكن التعويل عليه؟

ب.ع: الاتفاق بين الطرفين الكرديين جاء من أجل تطويق مخاطر حرب كردية-كردية ، حيث بلغت الرغبة لدى الطرف المهيمين على الأرض إلى إقصاء غيرهم بالعنف وفرض هيمنتهم القسرية بطريقة هستريائية، وممنهجة. إنه اتفاق أمر واقع وتجنباً لإراقة الدماء. خلاصة الاتفاق هو أن حزب الاتحاد الديمقراطي استطاع انتزاع الاعتراف الرسمي بكونه "الحزب القائد" عملياً، وهو كان مستعداً لإشعال حرب أهلية كردية من أجل تحقيق هذا الاعتراف، في مقابل إزاحة شبح الاقتتال الكردي- الكردي بعض الشيء. من هذه الزاوية المهمة نال تشكيل "الهيئة الكردية العليا" ارتياحاً كبيراً في الوسط الكردي، رغم الملاحظات العديدة. فالمسؤولية الوطنية والقومية اقتضت تنازلاً سياسياً من قبل الأطراف الكردية تجاه حزب الاتحاد الديمقراطي في هذه المرحلة الحساسة والحرجة.

م.د: من المعلوم أن إقليم كردستان برئاسة مسعود البرزاني يدرب جنودا أكراد انشقوا عن الجيش السوري، وهناك من يقول أن تدريب هذه الفرقة العسكرية يأتي في إطار إعداد ذراع عسكرية للمجلس الوطني الكردي لمواجهة حزب الاتحاد الديمقراطي الذي يسيطر على الأرض. ما رأيك؟

ب.ع: حسب معلوماتي هي قوة عسكرية قليلة العدد مؤلفة من الجنود السوريين المنشقّين من الرتب الدنيا والمطلوبين للخدمة العسكرية، إذ لا يوجد أكراد برتب عالية في الجيش السوري، لكن بسبب الضجة الإعلامية التي أثيرت، يتوقع المرء أنه جيش كبير كأيّ جيش نظامي.

السيد مسعود بارزاني، رئيس إقليم كردستان العراق، لم يعرض على المجلس وطني الكردي تبني تلك القوة العسكرية الموجودة في كردستان العراق ولم يعرض إرسالها إلى سورية في أي لقاء مع قيادات المجلس في أربيل، حسبما سمعنا. لكن بالطبع، فور تداول الخبر حول إحتمال عودة الجنود المنشقين المتدربين في كردستان العراق إلى مناطقهم في سوريا، أعلنت قيادات الاتحاد الديمقراطي علناً رفضهم لقدومهم وعدم السماح بدخولهم، والتهديد بمقاومتهم أيضاً بحجة أنّ هذا الأمر سيكون سبباً لاقتتال داخلي كردي. و في هذا هم يتكلمون صحيحاً. إذ لا يمكن أن يرضى "الحزب القائد" بأي شيء يحد من نفوذه، ولو كلف ذلك اقتتالاً كردياً كردياً.
بغياب مركز قرار سياسي كردي موحّد هناك خطر كبير بالفعل من وجود قوتين مسلّحتين مختلفتين في نفس المنطقة.

م.د: بالإطار الأوسع، أي بما يتعلق بسوريا ككل، نقرأ لك انتقادات حادة أحياناً للمعارضة "الراديكاليّة" كما تسميّها. برأيك أين أخطأت المعارضة السورية في تعاملها مع الانتفاضة السورية؟

ب.ع: مع أنه أصبح النقاش حول هذا الموضوع بلا فائدة عمليّة بعد حصول ما حصل وخراب البلد، لكن للتوثيق والتاريخ فقط، يمكن القول أن الخطأ الجوهري الأساسي كان منذ الأسابيع أو الشهور الأولى للانتفاضة. أما الآن فلم يعد بمقدور أحد السيطرة على الوقائع على الأرض، بعد أن أصبح البلد كله مستنقعاً من الدماء و الدمار، وخرج الأمر من سيطرة المعارضة السياسية نفسها. بدون الدخول في التفاصيل أقول: أخفقت المعارضة السورية التقليدية والجديدة في تقدير قوّة النظام السوري و تماسكه، وبالتالي وقوعها في فخّ "الوهم البصريّ" الذي أشاعته الميديا من خلال نمذجة انتفاضتي تونس ومصر عربيّاً؛ أي أن كلّ نظام عربي يلزمه بضعة أسابيع ليسقط. هذا قبل أن تتحوّل بعض الفضائيات العربية المعروفة إلى منبر للمعارضة السورية الراديكالية، التي كانت تدفع الشباب المتحمس والثوار في الداخل إلى مزيد من الحماس، بل إلى التهوّر، وتقوم بتزيين ذهاب زهرة شباب سوريا إلى دورة العنف الجهنميّ و"محرقة" النظام. كما أخفقت المعارضة في البناء على شيء مهم وأساسي تحقّق فعلاً بعد انتفاضتي تونس ومصر هو عودة السوريين إلى السياسة والشأن العام. الأمر الذي غيّب لعقود في "سوريا الأسد".

كانت هذه فرصة تاريخية لا تعوّض ومكسباً كبيراً بالنسبة لشعب كالشعب السوري غيّب عن السياسة والشأن العام تحت حكم ديكتاتورية شنيعة. بيد أن المعارضة الراديكالية ولأسباب مختلفة أحياناً (الإخوان المسلمين في الخارج، الذين وجدوا أنفسهم أمام فرصة مؤاتية للانتقام من النظام، و النشطاء السياسيين، من المعتقلين السابقين الذين ذاقوا الويلات في سجون النظام ،من بعض التنظيمات اليسارية والقومية، وبعض الشباب المتحمّس قليل الخبرة السياسية) وجدت في ذلك فرصة للذهاب إلى أقصى المطالب فوراً ظناً أنه "أقصر السبل". من هنا تفرّعت كلّ المشكلات برأيي.

لا أغفل أننا لسنا في لعبة شطرنج، نختار ما نشاء من خطط وحركات. ونهمل أشياء أخرى، ولسنا في شروط صحيّة تسمح لنا بالتفكير البارد، ولا الواقع يسير بناء على تفكيرنا وبرامجنا. غير أنه كان للحسابات الدقيقة والمدروسة في بداية الانتفاضة أن تنقذ السورييّن من هذه الكارثة الإنسانية التي يعيشونها منذ سنتين، أو تقلّل من حجمها وعمقها. لا ننسى بالطبع أن رعونة النظام ووحشيّته اللامحدودة تتحمل المسؤولية الكبرى عما جرى وما سيجري لاحقاً. ليس من خلاف كبير حول تشخيص النظام، كونه أكبر عصابة منظّمة ومسلّحة ومستولية على مقدرات البلد. الخلاف هو حول سبل المواجهة و الحلول، والخسارة والربح. وأصارحك أنني لا أعرف شيئاً في العالم يستحق كل هذه التضحيات العظيمة بما فيها "الديمقراطية". لا شيء خلف التلّة. "الانتخابات الحرّة" ليست شيئاً عظيماً، بعد خراب البلد.

م. د: كيف تقرأ المستقبل السوري إذن؟

ب.ع: ليس مبشّراً على أية حال، حتى وفق أكثر السيناريوهات تفاؤلاً، إن بقي هناك متفائلون أو سيناريوهات لحلول قريبة. ليس هناك حل سياسي متوقّع للاستعصاء السوري الدموي. ولا حسماً عسكرياً قريباً. برغم رفع درجة التمويل العسكري للجماعات المقاتلة، في الآونة الأخيرة، بدرجة غير كافية للحسم. ولا ترضى أميركا بحسم سريع. بل نتوقع اشتداد ضراوة المعارك وازدياد منسوب العنف وضحاياه.

وهذه ليست مهمة أميركا ولا أوربا على أية حال. ولا يمكن لومهم أيضاً، إذ ليس من مهمة الأميركان وغيرهم إحصاء عدد القتلى السوريين. هناك أشياء واقعيّة أهم بكثير: أمن إسرائيل، خطوط الطاقة في الشرق الأوسط، الاقتصاد الأميركي، إيران وملفها النووي، التنظيمات الجهادية المعادية لها، الخ…

كان أكثر المتشائمين، مثلي، يقول أن النظام السوري لن يسقط إلا بسقوط الدولة بأكملها معه. الآن نحن أمام حالة رهيبة وأشد خطورة: انهيار الدولة وبقاء السلطة! حتى في المناطق المحرّرة (الأدق أن نقول مناطق منكوبة) والتي تغيب فيها الدولة تماماً بأبسط أركانها (ماء، خبز، كهرباء، وقود) هناك "حضور" ما للسلطة بشكل متقطع: صواريخ السكود وطائرات الميغ بين الفينة والأخرى!
أن نقترب من سقوط السلطة الحاكمة لا يعني أن أهداف الثورة قد تحقّقت. فور سقوطها (لا أدري متى) سوف يتعيّن على السوريين إعادة بناء الدولة نفسها، ولملمة أشلاء المجتمع المحطّم، ولن يكون الأمر سهلاً في أي حال من الأحوال. بعد ذلك يمكن الحديث عن إمكان (فقط إمكان) تحقيق الديمقراطية، والحريات والعدالة وحكم القانون ودولة المؤسسات.
وفي ظني أن لحظة سقوط بشار الأسد وسلطته الفاشيّة لن تجلب للسوريين تلك السعادة المتوقعة، بمن فيهم من ضحّى أكثر وفقد أعزّاء من أسرته أو شرّد من بيته على يد هذه السلطة. هي لحظة عابرة وسنفتح أعيننا جميعاً على خرابٍ عميم، وسيتساءل كثيرون: أمن أجل هذا قُتِل أولادنا، وهُجّرنا وشُرّدنا ودمّرت بيوتنا؟.

*بدرخان علي: اسمه الأصلي "آزاد علي"، كاتب وباحث سياسي سوري، من مواليد مدينة القامشلي 1978. درس في جامعة حلب، كلية الطب البشري، وتخرج عام 2004، ومقيم منذ العام 2010 في السعودية. يكتب بدرخان علي في صحف كردية وعربية عديدة حول الشأن الكردي و السوري وقضايا فكريّة تتعلّق بالعلمانيّة والديمقراطيّة. شارك في الكتابة في أول المواقع الكردية في سوريا "موقع عامودا"، وفي العام 2005 انضم لأسرة تحرير مجلة "الحوار"، وهي فصلية ثقافية كردية تصدر باللغة العربية تهتم بالشؤون الكردية وتهدف إلى تنشيط الحوار العربي الكردي، تطبع وتوزع سرّاً منذ عام 1993. يقوم حالياً بإعداد كتاب عن المسألة الكردية في سوريا، يتضمن سجالات مع مثقفين وسياسيين عرب وكرد.


[ نشر الحوار في موقع "مراسلون" Correspondents.org وتعيد “جدلية” نشره]‬
‫ ‬