تقدم "جدلية" للقراء العرب مقالات مختارة تشكل إضافة فكرية في حقلها، في مجال الفكر والفلسفة والسياسة والأدب، تحت عنوان "مقالات تأسيسية".
المقالات تتجاوز الكتابة الصحافية إلى كونها تحليلاً فكرياً يحفز على طرح أسئلة جديدة حول الموضوع المناقش، ويهدف إلى تقديم فكر تنويري مختلف يقدم للقارىء مادة تضيء له مساحات في الفكر والواقع غير مألوفة. وهذه المقالات التأسيسية التي يشرف عليها أسامة إسبر، ستُترجم من لغات مختلفة كالإنكليزية والإسبانية والفرنسية والإيطالية، كي تقدم فكرة متكاملة عن الفتوحات الفكرية في هذه البلدان وتطور فن المقالة الذي يقدم أفكاراً جديدة في حقول مختلفة. ستنشر جدلية المقالات بشكل منتظم، من أجل تعميم الفائدة على القراء وبناء جسور مع ثقافة الآخر.
المقالة الأولى، الثانية، الثالثة.
الأشياء الصغيرة التي تدير الوجود
ثبتَ أن عدد أنواع الحيوانات اللافقارية يتخطى إلى حد كبير عدد الحيوانات الفقارية. ففي عام ١٩٨٨، وبناء على جَدْولةٍ للأدبيات جُمعتْ بمساعدة أخصائيين، قَدَّرْتُ أن نحو اثنين وأربعين ألفاً وخمسمئة وثمانين من أنواع الحيوانات الفقارية قد وُصف علميّاً. يشملُ هذا الرقم ستة آلاف وثلاثمئة من الزواحف وتسعة آلاف وثلاثمئة من الطيور وأربعة آلاف من الثدييات. بالمقابل، تم الوصف العلمي لتسعمئة وتسعين ألف نوع من الحيوانات اللافقارية، بينها مائتان وتسعون ألفاً من الخنافس، وهذا أعلى بسبع مرات من عدد كل الحيوانات الفقارية مجتمعة. وذكرتْ التقديرات الأخيرة أن عدد أنواع الحيوانات اللافقارية على الأرض يبلغ عشرة ملايين، وربما أكثر.
لا نعرف على وجه الدقة سبب هذا التنوع في الحيوانات اللافقارية، لكنَّ ثمة رأياً شائعاً يقول إن سمتها الرئيسة هي حجمها الصغير، وعليه فإنَّ مساكنها صغيرة أيضاً، وتستطيع بالتالي أن تقسم البيئة إلى مزيد من المساكن الصغيرة التي تستطيع التعايش فيها. إن القراد الذي يعيش في أجساد النمل المحارب من أمثلتي المفضلة التي أضربها حول حيوانات لافقارية كهذه تسكن في منازل مصغرة: فقد عُثر على نوع من القراد في الفكوك السفلية لطبقة الجنود، يجلس ويتغذى من فم مضيفه، وعُثر على نوع آخر على الساق الخلفية لهذه الطبقة، حيث يمتص الدم كي يتغذى وهكذا دواليك من خلال ترتيبات غريبة مختلفة.
ثمة سبب آخر محتملٌ لتنوع الحيوانات اللافقارية هو قِدم هذه الحيوانات الصغيرة، الذي منحها المزيد من الوقت كي تستكشف البيئة. ولقد ظهرت أولى الحيوانات اللافقارية في الأزمنة ما قبل الكامبرية، على الأقل منذ ستة ملايين عام. وكانت معظم شُعَب الحيوانات اللافقارية في طور الازدهار قبل أن تصل الحيوانات الفقارية إلى المشهد، منذ نحو خمسمئة مليون سنة.
تحكمُ الحيوانات اللافقارية الأرض أيضاً بفضل كتلة جسدها الشفافة. ففي الغابة المطرية الاستوائية قرب مدينة ماناوس في غابات الأمازون البرازيلية على سبيل المثال، يحتوي كل هكتار (ما يعادل دونمين ونصفاً من الأرض) على عشرات الطيور والثدييات غير أن فيه ما يزيد على بليون من الحيوانات اللافقارية، غالبيتها العظمى من المفصليات ومن الحشرات التي تُدعى قافزات الذيل. وهناك ما يبلغ وزنه نحو مائتي كيلوغرام من النسيج الحيواني في هكتار من الأرض، يتكون ٩٣٪ منه من الحيوانات اللافقارية. إن النمل والمفصليات يكوّنان ثلث هذه الكتلة البيولوجية، بالتالي حين تسير في غابة استوائية، أو في معظم المساكن الأرضية المشابهة، أو تغطس فوق حيد مرجاني أو بيئة بحرية أو مائية أخرى يمكن أن تشد بصرك الحيوانات الفقارية معظم الوقت. سيقول علماء البيولوجيا إنك تبحث هناك عن حيوانات ضخمة لكنك تزور عالماً من اللافقاريات بصورة رئيسة.
ثمة سوء فهم شائع بأن الحيوانات الفقارية هي المؤثر في العالم والمحرك له، فهي التي تمزّق النبات، وتشقّ ممرات في الغابة، وتستهلك معظم الطاقة. قد يكون هذا صحيحاً في بعض الأنظمة البيئية كالأراضي المعشوشبة في أفريقيا بقطعانها الكبيرة من الثدييات العاشبة. وأكيد أن هذا صار صحيحاً في القرون القليلة الماضية بخصوص نوعنا، الذي يستولي الآن في شكل أو آخر، على ٤٠٪ من الطاقة الشمسية التي تستقبلها النباتات. إن هذا الوضع هو الذي يجعلنا نشكل خطراً على البيئة الهشة للعالم. غير أن الحيوانات اللافقارية (وليس الفقارية غير البشرية) في مناطق مختلفة هي المؤثر في العالم والمحرك له. ففي أمريكا الوسطى والجنوبية، على سبيل المثال، يُعَدُّ النمل القاطع للأوراق، وليس الغزلان والقوارض والطيور، المستهلك الرئيس للنبات. إن مستعمرةً واحدة من النمل قاطع الأوراق تحتوي على عدة ملايين من النمل العامل. وتسافر طوابير النمل الباحثة عن الغذاء مائة متر أو أكثر في جميع الاتجاهات لقطع أوراق الغابة والأجزاء المزهرة والجذوع الطرية. وفي كل يوم تجمعُ مستعمرة عادية مكتملة نحو ٥٠ كيلوغراماً من هذا النبات الطازج، وهذه كمية أكبر من التي تستهلكها بقرة عادية. وينقب النمل العامل في مسارات عمودية بعمق خمسة أمتار داخل التربة. إن النمل قاطع الأوراق والأنواع الأخرى من النمل، والجراثيم والفطريات والنمل الأبيض والمفصليات يعالجون معظم النباتات الميتة ويعيدون العناصر المغذية إلى النباتات لإبقاء الغابات الاستوائيّة العظيمة حية.
يتكرر الموقف نفسه في أجزاء أخرى من العالم. ذلك أن الحيد المرجاني مبني من أجساد اللاحشويات. إن الحيوانات الأكثر وفرة في البحر المفتوح هي الجادفة، أو مجدافية الأرجل، وهي قشريات صغيرة تشكل جزءاً من العوالق البحرية. ويشكل طين البحر العميق موطناً لعدد كبير من الرخويات والقشريات التي تتغذى على نثرات الخشب والحيوانات الميتة التي تندفع إلى الأسفل من الأجزاء المضاءة في الأعلى، ويتغذى بعضها على بعض.
في الحقيقة نحن من هم بحاجة إلى الحيوانات اللافقارية بينما هي بغنى عنا. إذا اختفت الكائنات البشرية غداً سيستمر الوجود مع تغيّر طفيف. إذ إن الحياة الأرضية ستنطلق كي ترمم نفسها وتعود إلى الحالات البيئية الغنية التي سادت منذ مائة ألف سنة. أما إذا اختفت الحيوانات اللافقارية فإنه من غير المرجح أن يستمر النوع البشري أكثر من بضعة أشهر. إن معظم الأسماك والقوازب (البرمائيات) والطيور والثدييات ستهلك وتنقرض في الوقت نفسه. ثم ستندثر كتلة النباتات المزهرة ومعها البنية المادية لغالبية الغابات والمساكن الأرضية الأخرى للعالم. ستتعفن التربة أيضاً. وفيما يتكوم النبات الميت ويجف مضيّقاً ومغلقاً قنوات الدورات الغذائية، ستموت أشكال معقدة أخرى من النبات، ومعها البقايا الأخيرة للحيوانات اللافقارية. ستهلك أيضاً الفطريات المتبقية بعد أن تتكاثر بنسب مذهلة. وفي غضون بضعة عقود سيعود العالم إلى الحالة التي كان عليها منذ بلايين السنين، مؤلفاً بصورة رئيسة من الجراثيم والطحالب وبضعة نباتات أخرى متعددة الخلايا بسيطة جداً.
علاوة على هذه الوظائف التي تجعلنا معتمدين عليها بشكل كامل، تزودنا هذه الكائنات الصغيرة التي تدير العالم بمصدر لانهائي من الاستقصاء العلمي والتساؤل الطبيعي. حين تغرفُ بيدكَ حفنة كبيرة من التربة تقريباً في أي مكان عدا المناطق الأشد تصحراً، ستجد آلاف الحيوانات اللافقارية التي تتسلسل في الحجم من المرئية بوضوح إلى المتناهية الصغر، من النمل والحشرات ذات الذيل القافز إلى الحيوانات بطيئات المشية والدولابيات. إن بيولوجيا معظم الأنواع التي تمسك بها في يدك مجهولة: لا نملك أية معلومات حول ماذا تأكل، وماذا يأكلها، وعن تفاصيل دورة حياتها، وربما لا شيء على الإطلاق عن كيميائها الحيوية ومركبها الوراثي. وربما تفتقر بعض الأنواع حتى للأسماء العلمية. ليس لدينا إلا تصور محدود عن درجة أهمية أي منها لوجودنا. لا شك أن دراستها ستعلمنا مبادئ علمية جديدة تفيد الإنسانية، كل منها فاتن بمفرده. وإذا كان هناك شيء يثير إعجاب البشر غير الحجم الكبير، سيعدون نملة أكثر روعة من وحيد قرن.
يجب أن يُشدد من جديد على ضرورة الحفاظ على الحيوانات اللافقارية. إن وفرتها وتنوعها يجب ألا يدفعانا إلى الظن بأنها عصية على الانقراض. على النقيض من ذلك، إن أنواعها معرضة للخطر بسبب التدخل الإنساني مثلها مثل أنواع الطيور والثدييات. وحين يُجرّد واد في البيرو أو جزيرة في المحيط الهادي من آخر نباتاتهما الأصلية، فمن المحتمل أن تكون النتيجة انقراض عدة أنواع من الطيور وعشرات الأنواع من النباتات. وبينما نحن نعي على نحو مؤلم هذه المأساة يفوتنا إدراك أن مئات من الحيوانات اللافقارية ستتلاشى أيضاً.
[ترجمة عن الإنكليزية: أسامة إسبر، المصدر: Edward O. Wilson, In search of Nature].